في عدد شهر نوفمبر سنة 2009 لمجلة ((الصين اليوم))، كتبت في هذا المكان "ماذا تريد الصين من أفريقيا، وماذا تريد أفريقيا من الصين؟" كان ذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر الوزاري الرابع لمنتدى التعاون الصيني- الأفريقي في مدينة شرم الشيخ المصرية في ذلك الشهر.
في الخامس من شهر سبتمبر 2024، أعاد الموقع الإلكتروني لهيئة الإذاعة البريطانية BBC طرح نفس السؤال، ولكن منقوصا: "ما الذي تريده الصين من أفريقيا؟"، وكان ذلك بمناسبة انعقاد قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي التي استضافتها العاصمة الصينية في الفترة من الرابع إلى السادس من سبتمبر 2024. حسب تقرير BBC، فإنه "على مدى العقدين الماضيين، عززت الصين بشكل كبير التجارة مع أفريقيا وضخت مليارات الدولارات في بناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ في جميع أنحاء القارة. وقد تم تنفيذ ذلك من خلال منتدى التعاون الصيني- الأفريقي.. ومؤخرا غيرت الصين إستراتيجيتها فأصبحت تقدم لأفريقيا المزيد من منتجاتها التكنولوجية المتقدمة، إضافة إلى المنتجات الصديقة للبيئة، أو ما يعرف بالاقتصاد الأخضر.. وعلى مدى العشرين سنة الماضية، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا، والمستثمر الأكبر في البلدان الأفريقية، وأكبر دائن لها."
يشير تقرير BBC إلى أن الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا وأكبر مستثمر فيها، وهذا صحيح، ولكنه يزعم أن الصين أكبر دائن لأفريقيا. في الرابع من مارس 2023، قال وانغ تشاو المتحدث باسم الدورة الأولى للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني في مؤتمر صحفي، إن الصين ليست أكبر دائن لأفريقيا، حيث تظهر بيانات البنك الدولي أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الديون الخارجية لأفريقيا جاءت من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والدائنين التجاريين، وفقا لما نقلته وكالة أنباء ((شينخوا)) الصينية.
وسائل الإعلام الغربية، وبعد أن ثبت وهن ادعاء "الاستعمار الجديد" الذي أرادت إلصاقه بالصين في سنوات سابقة، راحت تبحث عن "فرية" أخرى. أستعيد هنا تحليلا نشرته مجلة ((السياسة الخارجية)) التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية في التاسع والعشرين من سبتمبر 2009، بعنوان "الاستعمار الجديد الصيني" كتبته خديجة شريف. جاء في التحليل: "ارتأت الصين أن تميز نفسها عن الغرب في أفريقيا بالاستثمار في التنمية بدلا من الارتكان إلى وسائل المنح، بيد أن عاقبة ما تخطط له، مؤخرا، في دولة الغابون الغنية بالتحديد، سيكون مدمرا تماما مثل أي شيء فعله الغرب هناك." ومضت تقول: "إن الصين، بدلا من السير على خطى الغرب وإقامة علاقة منح مع الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، تقوم بمقايضة عوائد التنمية بالموارد الطبيعية، وقد ضخت أكثر من 3ر29 مليار دولار أمريكي في القارة منذ سنة 2002 في مشروعات تنموية تهدف إلى استغلال الموارد المحدودة بتمويل من البنك الصيني للتصدير والاستيراد. إن نظام المقايضة هذا لا يسمح للصين بأن تميز نفسها عن المستعمرين فحسب وإنما أيضا بإعادة تعريف ملف مخاطر الاستثمار في أفريقيا مما أتاح للبنك الصيني للتصدير والاستيراد أن يعقد اتفاقا مع البنك الدولي سنة 2007 للتعاون في الاستثمار من خلال مشروعات بناء. ولكن لا تنخدع... فأهداف الصين في الغابون ليست أقل أنانية والعواقب المحتملة ليست أقل كارثية عن أي مشروع استعماري مضلل في الماضي." اليوم، وبعد مرور خمسة عشر عاما على تحليل خديجة شريف في ((السياسة الخارجية))، ماذا عن العواقب الكارثية التي أنذرت بها؟ وفقا لتحليل نشره موقع "THE DIPLOMAT" في 24 إبريل 2023، الصين التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الغابون في عام 1974، أصبحت أكبر شريك تجاري للغابون. في عام 2022، صدرت الغابون سلعا بقيمة أربعة مليارات دولار أمريكي تقريبا إلى الصين، وهو ما يمثل أكثر من نصف إجمالي صادراتها التي تشمل المنغنيز والنفط والأخشاب. اللافت هنا أن واردات الصين من نفط الغابون أقل من 1% من وارداتها النفطية ومن الأخشاب أقل من 3ر1% من وارداتها من الأخشاب.
الحقيقة هي أن حجم التبادل التجاري بين الصين وأفريقيا يعكس تماما التطور المتسارع للعلاقة بين الجانبين. خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، زاد حجم التبادل التجاري الصيني- الأفريقي، حسب الهيئة العامة للجمارك في الصين، بنسبة 5ر5% على أساس سنوي وسجل 19ر1 تريليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 7 يوانات تقريبا حاليا). الصين هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا لمدة خمس عشرة سنة متتالية.
قبيل انعقاد قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي 2024، شاركت في الدورة السادسة لمنتدى التعاون الإعلامي بين الصين وأفريقيا والحوار الرفيع المستوى بين مراكز الفكر الصينية- الأفريقية، والذي حضره عشرات من المسؤولين والإعلاميين والباحثين والخبراء من الصين وأفريقيا. في هذا الحدث، تم تبادل الآراء والرؤى بصراحة وتم استعراض المنجزات التي تحققت والتحديات التي تواجه منتدى التعاون الصيني- الأفريقي، الذي تحل الذكرى السنوية الخامسة والعشرون لتأسيسه في مثل هذا الشهر من العام المقبل، 2025.
في كلمته أمام الجلسة الافتتاحية لقمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي 2024، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن الصين مستعدة للعمل مع أفريقيا لتنفيذ عشرة إجراءات شراكة لتعزيز التحديث بشكل مشترك. كما اقترح رفع العلاقات الثنائية بين الصين وجميع الدول الأفريقية التي تربطها علاقات دبلوماسية مع الصين إلى مستوى العلاقات الإستراتيجية، والارتقاء بالمستوى العام للعلاقات الصينية- الأفريقية إلى مجتمع المستقبل المشترك للصين وأفريقيا في جميع الأحوال خلال العصر الجديد. وقال شي إنه بفضل نحو سبعين عاما من الجهود الدؤوبة المبذولة من كلا الجانبين، تشهد العلاقات الصينية- الأفريقية حاليا أزهى مراحلها على مر التاريخ. وفي ذات اليوم تم اعتماد "إعلان بكين" بشأن بناء مجتمع المستقبل المشترك للصين وأفريقيا في جميع الأحوال خلال العصر الجديد، وخطة عمل منتدى التعاون الصيني- الأفريقي للسنوات الثلاث المقبلة. وتغطي خطة العمل، مجالات التعلم المتبادل بين الحضارات وازدهار التجارة والتعاون في سلسلة الصناعة والاتصالات والتعاون الإنمائي والرعاية الصحية وإنهاض المناطق الريفية ورفاه الشعوب والتبادلات الشعبية والتنمية الخضراء.
ولضمان التنفيذ الناجح لمبادرات الشراكة العشر بين الصين ودول أفريقيا، ستوفر الصين لأفريقيا 360 مليار يوان في السنوات الثلاث المقبلة. ووفقا لخطة العمل، ستمنح الصين معاملة الإعفاء من الرسوم الجمركية بنسبة 100% لمنتجات البلدان الأفريقية الأقل نموا التي تربطها علاقات دبلوماسية مع الصين. وستفتح الصين من جانب واحد سوقها على نطاق أوسع. وقد أشار شي في كلمته إلى أن هذه الخطوة تجعل الصين أول دولة نامية كبرى وأول اقتصاد رئيسي يتخذ مثل هذه الخطوة التي ستساعد في تحويل السوق الصينية الضخمة إلى فرصة كبيرة لأفريقيا. وستساعد الصين في تنفيذ ثلاثين مشروعا للبنية الأساسية في أفريقيا، وبناء شبكة نقل بحري متعدد الوسائط تربط المناطق الوسطى والغربية في الصين بأفريقيا، وتعميق التعاون مع أفريقيا في تسوية المعاملات بالعملة المحلية والتكنولوجيا المالية. وبموجب خطة العمل، سترسل الصين إلى أفريقيا ألفين من العاملين في المجال الطبي وخبراء الصحة العامة وخمسمائة خبير زراعي، وتنفذ عشرين برنامجا للرعاية الصحية وعلاج الملاريا، وثلاثين مشروعا للطاقة النظيفة والتنمية الخضراء، وتشجع الشركات الصينية في أفريقيا على خلق ما لا يقل عن مليون وظيفة محلية، وتوفر ستين ألف فرصة تدريب، مع إعطاء الأولوية لبرامج تمكين المرأة وتنمية الشباب. وستتعاون الصين مع أفريقيا لإنشاء وتنفيذ شراكة مبادرة "الأمن العالمي"، من خلال تقديم المنح العسكرية وتدريب الأفراد العسكريين ودعوة الضباط العسكريين الأفارقة لزيارة الصين وإجراء التدريبات والدوريات.
الصين جادة ومسؤولة في الوفاء بالتزاماتها تجاه أفريقيا. وليس من الصعب أن نرى، من خلال إجراءات الشراكة العشر، أن الصين ملتزمة بمساعدة البلدان الأفريقية على تحقيق الاستقرار السياسي والاستقرار الاجتماعي. وعلى أساس الاستقرار، تساعد الصين البلدان الأفريقية في السعي إلى التنمية المستدامة الطويلة الأجل، مع التركيز ليس فقط على حل القضايا القديمة التي تعوق تنمية أفريقيا، وإنما أيضا على مسارات جديدة تعزز تقدم أفريقيا في المستقبل. وهذا يشير إلى أن مجتمع المستقبل المشترك بين الصين وأفريقيا ليس خطة مؤقتة، بل إنه يتجاوز لحظات وأحداثا محددة، ويركز حقا على التنمية الشاملة لأفريقيا. ولهذا السبب يمتلك قوة دافعة قوية لا تنضب ويظهر مرونة قوية.
يعرف كل المتخصصين في تحليل السياسة الخارجية، أن السلوك السابق للدولة يمثل أحد المفاتيح المهمة لفهم سلوكها اللاحق. وهنا أذكّر بأنه في قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني- الأفريقي 2006، أعلنت الصين ثماني مبادرات لأفريقيا شملت زيادة المعونات المقدمة للدول الأفريقية وإقامة صندوق لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في أفريقيا وإلغاء الديون عن بعض الدول الأفريقية وإقامة منطقة تعاون اقتصادي وتجاري، وتعزيز التعاون في مجالات تدريب الموارد البشرية والزراعة والصحة والتعليم. وقد تم تنفيذ هذه المبادرات جميعا برغم الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت دول العالم ومنها الصين في عام 2008. الحال كذلك بالنسبة للمبادرات التي أعلنتها الصين في كل القمم الصينية- الأفريقية.
لقد تطورت العلاقات الصينية- الأفريقية إلى شراكة متعددة الأوجه، تشمل التجارة والاستثمار وتطوير البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية وغيرها. وحسب تقرير لـ((شينخوا))، فإنه على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ساعدت الشركات الصينية الدول الأفريقية في بناء أو تحديث أكثر من عشرة آلاف كيلومتر من السكك الحديدية، وما يقرب من مائة ألف كيلومتر من الطرق السريعة، وحوالي ألف جسر، وما يقرب من مائة ميناء، وستة وستين ألف كيلومتر من خطوط النقل وتوزيع الطاقة، وكلها خلقت شرايين اتصال عبر قارة أفريقيا. وإضافة إلى البنية التحتية، تعمل الصين أيضا مع أفريقيا لدفع التحول الأخضر في القارة من خلال الاستثمار في الطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية، ومعالجة التحديات الأساسية التي تواجه القارة من حيث التكنولوجيا الزراعية والأمن الغذائي. وعلى مدى السنوات العشر المنصرمة، أنشأت الصين أربعة وعشرين مركزا تجريبيا للتكنولوجيا الزراعية في أفريقيا ونشرت أكثر من ثلاثمائة تقنية زراعية متقدمة، ما أدى إلى زيادة المحاصيل المحلية بمعدل من 30% إلى 60%، واستفادة أكثر من مليون مزارع في البلدان الأفريقية.
تنعكس رؤية الصين وأفريقيا معا للمستقبل أيضا، في جهودهما المشتركة في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم. وقد أكدت جائحة كوفيد- 19 على أهمية هذه الجهود، حيث قدمت الصين مساعدات طبية كبيرة للدول الأفريقية، من بينها اللقاحات ومعدات الرعاية الصحية. وفي الوقت نفسه، من خلال المنح الدراسية والتدريب المهني وبرامج التبادل الثقافي، ساهمت الصين في تطوير رأس المال البشري في أفريقيا.
إن استكشاف بناء مجتمع المستقبل المشترك للصين وأفريقيا يحمل أهمية عالمية ومعاصرة كبيرة. تواجه البلدان النامية مجموعة متنوعة من التحديات الحقيقية وتتأثر بسهولة بالوضع الدولي المعقد والمتغير، والذي يمكن أن يعطل أو حتى يعوق تحقيق الأهداف المحددة. إذا استطاع التعاون بين الصين وأفريقيا شق طريق جديد للتعاون بين بلدان الجنوب، فسيكون ذلك بمثابة تشجيع هائل لدول الجنوب العالمي. الشراكة بين الصين وأفريقيا ليست مجرد شراكة قائمة على المعاملات، بل تمثل رؤية لنظام عالمي أكثر عدلا وإنصافا. وبوسع الصين وأفريقيا معا الدفاع عن العدالة الدولية والتعددية الحقيقية وقضايا البلدان النامية بشكل أفضل.