على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

جائزة "الكتاب الخاصة"

: مشاركة
2023-07-27 17:37:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

لا أتذكر في أي عام بدأ شغفي بالقراءة والكتب، فأنا لم أكن أعرف القراءة والكتابة قبل التحاقي بالصف الأول في مدرسة منشاة قاسم الابتدائية. ما أتذكره جيدا هو أنني كنت منذ نعومة أظفاري عاشقا للراديو (المذياع)، ربما لأنه في ذلك الوقت كان الوسيلة الوحيدة المتاحة لي لمعرفة ما يجري خارج قريتي بمحافظة الشرقية في مصر. كنت أستمع لنشرات الأخبار والبرامج والأعمال الدرامية التي تبثها الإذاعة المصرية. في الصف السادس، كنت ضمن فريق مدرستي المشارك في مسابقة "أوائل الطلبة" للمدارس الابتدائية. وفي فقرة "المعلومات العامة" كان السؤال الأصعب: ما اسم وزير الخارجية الأمريكي الجديد؟ صمت طلاب المدارس الأخرى، ورفعت يدي وقلت.. سيروس فانس". كنت فخورا بنظرات الإعجاب من المعلمين، وكان الفضل يرجع إلى "الراديو" الصغير بماركة "ميكا مارينا" الرابض بجواري دائما في بيتي. في العطلة الصيفية بعد انتهاء السنة الخامسة الابتدائية، كنت قد سمعت في "الراديو" أن مؤسسة اسمها "الهيئة العامة للاستعلامات"، تقدم مجموعة من الكتب المبسطة لأعمال كبار الكتاب بالمجان لتلاميذ المدارس. التقطت أذناي العنوان الذي نطقت به المذيعة، وعلى الفور كتبت رسالة تتضمن عنوان بيتي إلى تلك المؤسسة. بعد شهر تقريبا جاء إلى دارنا موظف بريد يحمل مظروفا وسلمه لي. فتحت المظروف فوجدت به كتيبات مبسطة لأعمال طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وغيرهم من كبار الكتاب. بدأت رحلتي مع الكتاب، وصارت مكتبة "قصر ثقافة ديرب نجم"، مقصدي المفضل في العطلات المدرسية، أقرأ فيها وأستعير منها الكتب. عندما التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، لم يكن لكل مادة دراسية كتاب محدد في الغالب، فالأستاذ يطرح الموضوع ويشرحه وعلى الطالب أن يبحث عن مصادر للاستزادة وتعميق الفهم. تحولت غرفتي في "المدينة الجامعية للطلاب" بحي الدقي في الجيزة، إلى مخزن كتب. بعد تخرجي في الجامعة وأثناء تأدية الخدمة العسكرية في الجيش المصري، كانت الكتب رفيقي في الثكنة العسكرية على ضفة قناة السويس. كنت أملأ حقيبتي بالكتب في كل مرة أذهب إلى الثكنة العسكرية التي أبقى فيها ثمانية وعشرين يوما، ثم أعود إلى بيتي لمدة أسبوع، وهكذا لمدة عام كامل قرأت خلاله كل أعمال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله وزكي نجيب محمود وجورج أوريل وتشارلز ديكنز، وهلم جرا. في تلك السنة فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل في الأدب، وكان المذياع هو الذي حمل إليّ الخبر وأنا أرتدي الزي العسكري. شعرت ببعض الزهو كوني قرأت تقريبا كل أعمال الفائز بنوبل في الأدب لعام 1988.

عندما وصلت إلى الصين لأول مرة في خريف عام 1992، انفتح أمامي عالم واسع لم أكن أعرف عنه إلا النزر اليسير، فكانت الكتب أحد مفاتيح الولوج إليه. بعد شهور قليلة من وجودي في الصين، قالت لي صديقتي المثقفة والمترجمة البارزة رئيسة الطبعة العربية لمجلة ((الصين اليوم)) سابقا السيدة وانغ فو (فريدة)، إنها تقوم بالترجمة العربية لديوان شعر للسيد تيمور داواماتي (1927- 2018)، نائب رئيس المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني- آنذاك- وتريد مني تنقيح ومراجعة الطبعة العربية. كان ديوان "شينجيانغ.. موطني العزيز" أول كتاب صيني يوضع اسمي على غلافه، لتبدأ رحلتي الممتدة مع "الكتب الصينية"، أثمرت حتى الآن ما يربو على خمسين عملا ما بين تأليف وترجمة وتنقيح ومراجعة، من بينها: "سِفْرُ الصين"، "الصين والعالم"، "مشكلة الأجسام الثلاثة"، "الحضارة الصينية والحزب الشيوعي الصيني"، "الطبيب العظيم ما هاي ده"، "المجتمع الصيني المعاصر.. الأنظمة الرئيسية والحياة اليومية"، "التخفيف من حدة الفقر"، "رحلة إلى الغرب"، "أنا من شينجيانغ على طريق الحرير"، "مبادئ الحكم في الصين القديمة"، "النهر المعاكس"، "جذور الثقافة والقيم الصينية"، "تشوانغ تسي"، "منشيوس"، "قلها بالصينية"، "مائة درة من الحكمة الصينية"، "ثقافة الطعام عند العرب والصينيين"، "العلاقات المصرية- الصينية في خمسين عاما"، "القانون الأساسي لمنطقة ماكاو الإدارية الخاصة"، "القانون الأساسي لمنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة"، إلخ.

في كل مرة أشرع في كتابة أو ترجمة أو تنقيح كتاب عن الصين، يبدو لي وكأنني أخطو خطوتي الأولى في معرفة الصين. أزعم أن مضمون كتب عديدة ترجمتها أو راجعتها كان مألوفا بالنسبة لي، فعملي لسنوات طويلة في الطبعة العربية لمجلة ((الصين اليوم)) أتاح لي قراءة الكثير والكثير من الصين وعن الصين. وبإحصاء بسيط، فإنني أقرأ محتوى كل عدد والمكون من ثمانين صفحة أربع مرات على الأقل، وهو ما يعني قراءة نحو ألف صفحة كل سنة، وأكثر من ثلاثين ألف صفحة خلال العقود الثلاثة المنصرمة. فإذا أضيف إلى ذلك أكثر من خمسين كتابا ما بين متوسط الحجم وكبير الحجم فإن الإجمالي يصل إلى ستين ألف صفحة على الأقل تحمل بصمات قلمي. وبرغم ذلك تظل معرفة الصين بالنسبة لي هي الأرض البكر والبحر العميق الذي لا نهاية له. أتذكر دائما ما أشرت إليه في كتاب ((سِفْرُ الصين)) الذي صدرت طبعته الأولى في عام 2008، فقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في مذكراته: "إن لدى الصين أسرارا لا متناهية، لذلك فإننا لن نعرف كل شيء عن الصين، ولكن ربما نستطيع أن نتعلم شيئا منها." مازلت وسأظل أتعلم من الصين.

ذات يوم في عام 2018، اقترحت صديقتي وانغ فو أن أتقدم لجائزة "المساهمة الخاصة للكتاب" وهي جائزة صينية أنشئت في عام 2005، وتمُنح للكتاب والمترجمين والناشرين الأجانب الذين قدموا مساهمة كبيرة في تعزيز الثقافة الصينية بالعالم. وعرضت وانغ فو أن تساعدني، أو بالأحرى تتولى هي وزميلتي في ((الصين اليوم)) لي ينغ، هذا الأمر. وبالفعل بدأت الصديقتان تجهيز المستندات المطلوبة بالتنسيق مع دار مجلة ((الصين اليوم)) والمجموعة الصينية للإعلام الدولي وتم تقديم الطلب. وربما بسبب السرعة في تجهيز المستندات أو لأسباب أخرى، لم يكن اسمي من بين الفائزين بتلك الجائزة في ذلك العام. ثم جاء وباء كوفيد- 19 في نهاية عام 2019 بكل تداعياته النفسية والاجتماعية، وتقريبا نسيت أنا الأمر برمته. ولكن يبدو أن وانغ فو ولي ينغ لم تنسيا، وشرعتا في ترتيب وتجهيز المستندات مرة أخرى بمساعدة ودعم من زملائي في ((الصين اليوم)) وكافة إدارات المحموعة الصينية للإعلام الدولي، وتم تقديم الطلب مرة أخرى في عام 2021. في التاسع عشر من أكتوبر 2022، تلقيت خطابا من اللجنة المنظمة لجائزة "المساهمة الخاصة للكتاب"، جاء فيه: السيد/ حسين إسماعيل المحترم، نيابة عن لجنة التقييم لجائزة "المساهمة الخاصة للكتاب" الصينية، يشرفنا أن نبلغكم بأنه قد تم اختياركم كفائز في الدورة السادسة عشرة لجائزة "المساهمة الخاصة للكتاب". وجاء في الخطاب أيضا أن جائزة "المساهمة الخاصة للكتاب" هي أعلى جائزة وطنية بالصين وترعاها دائرة النشر والإصدارات في جمهورية الصين الشعبية، وتمنح للمؤلفين والمترجمين والناشرين الدوليين الذين قدموا مساهمات بارزة في تقديم الصين المعاصرة للجمهور في الخارج، وترويج المطبوعات الصينية والمنتجات الثقافية المعنية. ومن المقرر أن يقام حفل توزيع الجائرة هذا العام في أواخر نوفمبر 2022، للتعبير عن احترامنا وامتناننا لمساهماتكم الكبيرة في تعريف الصين للعالم من خلال الإصدارات وتعزيز التبادلات الثقافية بين الصين والدول الأجنبية.

كان من المخطط أن يقام حفل توزيع الجوائز افتراضيا في الموعد المشار إليه، بسبب قيود جائحة كوفيد- 19 في الصين، وقد قمت بالفعل بتسجيل كلمة بالفيديو لتبث في الحفل الإفتراضي، وفقا لطلب اللجنة المنظمة. وبعد رسائل متبادلة عديدة بيني وبين المعنيين باللجنة المنظمة تم إبلاغي في الحادي عشر من مايو 2023 أن مراسم توزيع الجائزة ستقام حضوريا في دياويويتاي (دار ضيافة الدولة) ببكين في السادس عشر من يونيو 2023.

ها أنا في بكين، المدينة التي أمضيت فيها سنوات أكثر من أي مكان آخر، باستثناء مسقط رأسي، من أجل تسلم "جائزة المساهمة الخاصة للكتاب" الصينية. في كلمتي بمراسم منح الجائزة قلت: "إنه لأمر رائع أن أعود إلى بكين بعد ما يقرب من أربع سنوات. يشرفني أن أحصل على جائزة الكتاب الخاصة من جمهورية الصين الشعبية. في الواقع، أنا أعتبر أن هذه الجائزة ليست لي بقدر ما هي لبلدي، مصر، التي وفرت لي كل السبل للحصول على تعليم مرموق ومعارف واسعة. كما أنني ممتن للمجموعة الصينية للإعلام الدولي ومجلة ((الصين اليوم))، حيث أعمل منذ أكثر من ثلاثين عاما، حصلت خلالها على دعم وتشجيع القادة والزملاء. لهذا السبب أنا هنا على هذه المنصة." وقلت أيضا: " الصين بلد ليس له تاريخ طويل فحسب، وإنما أيضا يتغير بشكل أسرع مما يمكن لأي شخص مواكبة ذلك. إنني أعتبر نفسي محظوظا أن كنت شاهدا على تطور الصين في كافة المجالات خلال السنوات الأكثر من الثلاثين الماضية، وخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة التي صارت فيها الصين تحتل صدارة المسرح الدولي. إن تأليف أو ترجمة أو تنقيح كتاب عن الصين مزيج من المتعة والتحدي، بالنسبة لي؛ متعة المعرفة وتحدي الرغبة في تقديم الأفضل. لم أفكر أو أسعى في أي يوم للحصول على تكريم أو مكافأة عن عملي في تأليف أو مراجعة وتنقيح أي كتاب، والسبب ببساطة هو اقتناعي التام بأنني الفائز الأول والأكبر في أي عمل معرفي أشارك فيه. ثمة شعور جارف بالرضا أن تكون جسرا تنتقل عبره المعارف والثقافة من بلد وشعب إلى بلدان وشعوب أخرى. ثمة شعور جارف بالفخر أن تقرأ في مجلات أو صحف أو أطروحات علمية معلومات أنت ناقلها أو مصدرها. لقد شهدت العلاقات بين الصين والدول العربية في السنوات الأخيرة تقدما ملحوظا، وهو حافز آخر لي للمساهمة في هذا الزخم. إنه لمن دواعي سروري أن أرى الإقبال المتزايد على المنتجات الثقافية الصينية في الدول العربية، استنادا إلى العلاقات الوثيقة بين الصينيين والعرب. أعتقد أن تكريمي بهذه الجائزة يمنحني المزيد من المسؤوليات لمواصلة عملي لتقديم الصين إلى الجماهير في الخارج، ولتعزيز نشر المطبوعات والمنتجات الثقافية الصينية في الخارج."

هذه الجائزة هي تكريم لأمي وزوجتي وأولادي، ولزملائي في ((الصين اليوم)) وخاصة في القسم العربي، فهم جميعا أصحاب الفضل في مسيرتي المهنية التي شاء القدر أن تكون الصين في القلب منها. ومثلما كانت "جائزة الصداقة" الصينية التي حصلت عليها في عام 1999، بداية مرحلة جديدة لي مع الصين، فإن "جائزة المساهمة الخاصة للكتاب" تمثل قوة دافعة لمواصلة العطاء البحثي والفكري في كل ما يتعلق بالصين.

 

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4