على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الحزب الشيوعي الصيني.. من ماو إلى شي

: مشاركة
2021-06-28 11:16:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

تبدو مسيرة الحزب الشيوعي الصيني خلال المائة عام المنقضية مثل نهر متدفق، تعبر مياهه الجنادل وتنساب عبر الضحاضح غير أنه لا يجف أبدا، وفي مواضع من مسيرته له معالم بارزة نحتتها أمواجه بينما صارت تلك المعالم منارات لسفنه.

لا حزب بدون عقيدة سياسية، فالتاريخ السياسي للعالم لم يعرف حزبا ليس له عقيدة سياسية واستطاع البقاء، ولم يعرف أيضا حزبا سياسيا ظل جامدا واستطاع أن يفلت من الفناء. العقيدة وقدرة التطور هما أكسير الحياة لأي حزب سياسي.

الحزب الشيوعي الصيني، الذي تأسس سنة 1921 في مدينة شانغهاي، حزب له عقيدة سياسية ويتميز بقدرته على مواكبة التطورات الداخلية والخارجية في عالم يتغير بسرعة فائقة. فكيف استطاع هذا الحزب الذي يحتفل بمئويته الأولى في الأول من يوليو سنة 2021، أن يظل شابا مواكبا للعصر من دون أن يتخلى عن مبادئه الجوهرية؟

هذا له علاقة بالفكر الصيني بشكل عام، فعندما تبنت الصين النهج الشيوعي انتزعته من أصوله الأوروبية العُمالية وألبسته رداء ريفيا، وعندما اختارت طريق الإصلاح بدأته من المناطق الريفية وليس من المصانع. الفكر في الصين منهج وطريقة حياة، للدولة وللفرد. لا شئ يحدث عبثا من دون أسس فكرية. وعندما تقرأ أو تسمع كلمات وخطب القادة والمسؤولين الصينيين على كافة المستويات، ونحن في بداية العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين، تجد إشارات متعددة إلى أفكار وأقوال كونفوشيوس وإلى المأثور الفكري الصيني وإلى أقوال لحكماء وشعراء الصين. ويحرص كل زعيم صيني على أن يضيف إسهاما لرصيد الفكر الصيني، فماو تسي تونغ له أفكاره في بناء الاشتراكية، ودنغ شياو بينغ له نظريته حول بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وجيانغ تسه مين طرح فكرة "التمثيلات الثلاثة"، وهو جين تاو طرح مفهوم التنمية العلمي، وشي جين بينغ ساهم بأفكاره التي يفصلها كتاب "شي جين بينغ.. حول الحكم والإدارة" في مجلداته الثلاثة. في أكتوبر 2017، أدرج الحزب الشيوعي الصيني أفكار شي جين بينغ بشأن الجيش و"قيادة الحزب المطلقة للجيش" ضمن دستور الحزب، وفقا لقرار تمت الموافقة عليه أثناء المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. وفي الخامس والعشرين فبراير 2018، اقترحت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني إدراج فكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد في دستور الصين. بحسب المقترح، فإنه تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني وتوجيه الماركسية- اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ وأفكار التمثيلات الثلاثة الهامة ومفهوم التنمية العلمي وفكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، سيواصل الشعب الصيني من كافة القوميات الالتزام بالدكتاتورية الشعبية الديمقراطية والمسار الاشتراكي والمحافظة على الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي وتطوير المؤسسات الاشتراكية بشكل مطرد وتنمية اقتصاد السوق الاشتراكي وتحسين حكم القانون الاشتراكي وتطبيق رؤية جديدة للتنمية والعمل بجدية والاعتماد على الذات لتحديث الصناعة والزراعة والدفاع الوطني والعلوم والتكنولوجيا في البلاد تدريجيا، وتعزيز التنمية المنسقة للتقدم المادي والسياسي والثقافي والأخلاقي والاجتماعي والبيئي لجعل الصين دولة اشتراكية حديثة عظيمة تنعم بالرخاء والقوة والديمقراطية والتقدم الثقافي والتناغم والجمال إلى جانب النهضة العظيمة للأمة الصينية.

وباستعراض الفكر الصيني، يمكن أن نرصد عددا من الملاحظات: الأولى، سعي الفكر الصيني إلى تكريس الاستقرار، فالصيني يضع الاستقرار والأمن في مرتبة أعلى من أي شيء، فإذا خُيّر بين الاستقرار والحرية، بمعنى الحرية ومدلولها الغربي مثلا، سيختار الاستقرار. الفكرة المسيطرة في الصين هي أنه من أجل فرض النظام يجب وجود سلطة أحادية. ولعل هذا أحد عوامل استمرار الحزب الشيوعي في قيادة الصين بدون منازع. ويعزز من هذا، مفهوم "الولاء" المحوري في الفكر الصيني. غير أن هذا التمسك بالاستقرار والتأكيد على الولاء يقترن بتأكيد آخر يضمن أن لا يشط صاحب الولاء، وذلك من خلال تكريس فكرة صلاح الحاكم وعدله. الملاحظة الثانية هي محورية فكرة "التحول" أو التغير والتكيف في الفكر الصيني، فهناك تأكيد على المرونة والتحول، فحسب الفكر الصيني كل شيء في حالة تحول وتغير وكل شيء يتحول من الضد إلى الضد، فوفقا للفلاسفة الصينيين، تتكون كافة الظواهر الطبيعية من تجليات متعارضة ولكن متكاملة، وموجودة في حالة من التغير المستمر للتوازن الحركي. الملاحظة الثالثة، هي وسطية الفكر الصيني، وهي تفسر الموقف الوسطي للصين المعاصرة من القضايا العالمية.

الحزب الشيوعي الصيني ليس كيانا جامدا، فذلك الحزب الذي يتبنى، وفقا لدستوره، الماركسية- اللينينية، ذكر لأول مرة في تاريخه كلمة "الدين" في التعديلات التي أُدخلت على دستوره في المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب سنة 2007، وذلك لإجادة العمل بشأنه، "للوفاء بالمتطلبات التي يطرحها الوضع الجديد والمهمات الجديدة". وفي ذات الدورة، قال الحزب إنه سيعزز تنمية القطاع الخاص وفقا لما جاء في قرار تعديل دستور الحزب. وقبل ذلك، في سنة 1978، خلال الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية للحزب، اتُخِذ قرار الإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم الخارجي، والذي انطلقت الصين بفضله إلى آفاق جديدة وعادت إلى مكانتها المحورية في العالم، بعد الكبوة التي تعرضت لها خلال فترة "الثورة الثقافية" التي استمرت من سنة 1966 حتى سنة 1976. وفي المؤتمر الوطني السادس عشر له سنة 2002، اعتبر الحزب أن إدراج فكرة "مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل" في دستوره أمر بالغ الأهمية بالنسبة لعمل الحزب، وهي فكرة مستوحاة من تاريخ الفكر الصيني تُجسد في أحد معانيها العدالة الاجتماعية التي يسعى إليها المجتمع الدولي.

لقد واجه الحزب الشيوعي الصيني منذ تأسيسه، وبعد أن وصل إلى السلطة سنة 1949، تحديات جمة استطاع أن يتغلب عليها ويطور فكره وأدواته في الحكم والإدارة ليظل الحزب الحاكم للدولة الأكثر سكانا في العالم منذ اثنتين وسبعين سنة، في ظاهرة يصعب على الفكر الغربي استيعابها. وقد تحدث المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما بوضوح في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" الصادر سنة 1992، عن أن الديمقراطية الليبرالية الغربية تمثل الشكل النهائي للحكومة الإنسانية ونقطة النهاية للتطور الأيديولوجي. وقال فوكوياما إنه مقتنع بأن الصين سوف تتبع مسار معظم البلدان الأخرى (التي يعتبرها فوكوياما ديمقراطية)، ربما من خلال الليبرالية المتدرجة التي يمكن أن تنتج في نهاية المطاف الديمقراطية. ولكن ماذا لو لم يحدث ذلك؟ قال فوكوياما، من الممكن أن تحدث انتفاضات من النوع الذي شوهد في الربيع العربي.

الفرضية التي انطلق منها فوكوياما، مثل غيره من المنظرين الغربيين، هي أن الصين دولة سلطوية ليس فيها ديمقراطية، وأنه لا يوجد أي شكل للديمقراطية، غير الديمقراطية الغربية. بينما ترى الصين ودول أخرى غير غربية أن "النموذج" الغربي للديمقراطية ليس الشكل الوحيد للحكم، وأن لكل مجتمع ظروفه وتاريخه ومرحلة تنميته التي تقرر شكل الحكم ونمط التنمية المناسب له. وقد ثبت عمليا فشل كافة محاولات غرس نبتة الديمقراطية الغربية في تربة مجتمعات أخرى. في الرابع والعشرين من إبريل 2021، قال وزير خارجية الصين وانغ يي خلال مؤتمر بالفيديو مع ممثلي مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، إن الديمقراطية ليست كوكاكولا، ولن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إجبار العالم بأسره على أن يكون على نفس المذاق الذي ابتكرته.

ومن أسباب حيوية الحزب الشيوعي الصيني على مدار المائة عام المنصرمة، وجود قيادات له تميزت برؤية واسعة وبعيدة المدى. فمن ماو تسي تونغ (1893- 1976) إلى دنغ شياو بينغ (1904- 1997)، وصولا إلى الأمين العام الحالي للحزب شي جين بينغ، استطاع هذا الحزب أن يتكيف مع التطورات وأن يتغلب على الصعوبات. كان ماو تسي تونغ ماركسيا وثوريا، وإستراتيجيا ومنظرا. تحت قيادة ماو تسي تونغ، صمد الحزب الشيوعي الصيني أمام الضغط الدولي ووزع الأراضي الزراعية في الريف على القرويين وساهم في استقلال المرأة الصينية ونظم حملة للتثقيف الجماهيري وأنشأ الصناعة الثقيلة في الصين وبنى قدرة دفاعية قوية. هذه الإجراءات كلها ضمنت توفير سبل المحافظة على السيادة الوطنية وهيأت الظروف للخطوات المقبلة في الصين. وعندما جاء دنغ شياو بينغ إلى قيادة الحزب، أدرك التغيرات التي شهدها العالم، وأنه لكي تتبوأ الصين مكانتها اللائقة فلا بُدَّ أن تواكب تلك التغيرات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بـ"تحرير الفكر". آمن السيد دنغ بأنه ليس هناك أيديولوجيات جامدة؛ وإنما مبادئ وأهداف ثابتة، فالمهم، حسب قوله، ليس لون القط طالما أنه يأكل الفأر. سمح الحزب الشيوعي الصيني بتطور أعمال اقتصادية غير مملوكة للدولة ولا للجماعة، وشجع رأس المال الخارجي على الاستثمار في الصين، واتخذ إجراءات عديدة هدفها في النهاية هو تحقيق مزيد من الانفتاح الاجتماعي، وتبني ما يسمى بـ"الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". الأكثر من ذلك، أدرك السيد دنغ أن دور النظام السياسي في التنمية الاقتصادية الصينية أعظم من دوره في الدول الغربية، وقد قال: "من دون إصلاح النظام السياسي، لا يمكن حماية ثمار إصلاح النظام الاقتصادي". و"من دون إصلاح النظام السياسي لن ينجح إصلاح النظام الاقتصادي". لقد آمن بأن التغيرات الأيديولوجية السياسية مقدمة ضرورية لعملية الإصلاح الشامل؛ لهذا دعا إلى "تحرير العقول" كأول مهمة لحركة الإصلاح، وقال: "إذا لم نحطم الجمود الفكري، ولم نحرر أفكار الكوادر والجماهير، لن يكون هناك أمل في التحديثات". تحت قيادة دنغ شياو بينغ، حولت الصين مركز ثقل أعمالها، لأن "التناقض الأساسي" لم يعد الصراع الطبقي بل الصراع ضد التخلف والفقر. ساهم هذا النهج الجديد بقوة في استقرار البلاد والحزب الشيوعي الصيني. وقد ثابر الجيل التالي من القادة، جيانغ تسه مين وهو جين تاو، على طريق دنغ شياو بينغ، فتم تعزيز الاقتصاد وإرساء أسس التحسين المستمر لرفاه الشعب الصيني. وقد جلبت النجاحات الناتجة عن النمو السريع للصين تناقضات جديدة، وهي التي يتم التعاطي معها حاليا من قبل قيادة الرئيس شي جين بينغ. منذ عام 2013، ظهرت تحديات جديدة مثل تشجيع نمط جديد من التحول الحضري وتحسين مستويات المعيشة في المناطق الريفية واتساع الفوارق في الدخل والآثار السلبية للتصنيع على البيئة وفخ الدخل المتوسط والحرب التجارية التي بدأتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين، ومؤخرا، جائحة كوفيد- 19، إلخ. إن ما يتمتع به الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ، من حكمة ورؤية بعيدة المدى وإدراكه العميق لتطورات الأوضاع في الصين وفي العالم، تجعل الحزب الشيوعي الصيني يبدأ العقد الأول لمئويته الثانية واثقا من قدرته على مواصلة قيادة الصين على المسار الذي تم تحديده وفقا للأهداف البعيدة المدى حتى سنة 2035، أي تحقيق التحديثات الاشتراكية من حيث الأساس على أساس إنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل، ثم بناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة قوية ومزدهرة وديمقراطية ومتحضرة ومتناغمة وجميلة بحلول عام 2050.

هل يواجه الحزب الشيوعي الصيني تحديات ونحن في العقد الثالث للقرن الحادي والعشرين؟ الإجابة، نعم. هناك تحديات كثيرة، بعضها داخلي وبعضها خارجي، وهي ليست تحديات تخص الحزب وحده وإنما الصين كلها. المهم هو أن الحزب الشيوعي الصيني يدرك تلك التحديات ويتعامل معها، ولعل هذا هو السبب في احتفاظ هذا الحزب بحيويته ولياقته التي تمكنه من قيادة الصين في عالم متغير. سيظل مستقبل الحزب الشيوعي الصيني مرتبطا بقدرته على تطوير ذاته وآلياته ومواكبة التغيرات في داخل الصين وخارجها.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4