على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

"فخ الديون".. بين الدبلوماسية والخرافة

: مشاركة
2021-01-06 13:42:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

ما انفكت الصين، منذ انتهاجها سياسة الإصلاح والانفتاح في نهاية السبعينات من القرن العشرين، تبتكر لشعبها ولشعوب العالم منتجات جديدة في مختلف المجالات، فأضحت كلماتٌ صينيةٌ كثيرةٌ مصطلحاتٍ دارجةً على ألسنة البشر في أرجاء المعمورة. صار العالم يعرف شيروي (شيري) وفوتون وهواوي وشياومي، إلخ. ليس هذا فحسب، وإنما أيضا أثْرت الصين الأدبيات السياسية والاقتصادية بالعديد من المصطلحات المبتكرة مثل "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، "اقتصاد السوق الاشتراكي"، "الوضع الطبيعي الجديد"، "إصلاح جانب العرض"، "تحويل نمط النمو"، "الشوامل الأربعة"، ومؤخرا "التداول المزدوج" وغيرها. الصين كذلك نالها قدر كبير من المصطلحات التي نُحِتت خصيصا لها من قبل باحثين وخبراء سياسيين واقتصاديين، ومنها ما يسمى بـ"دبلوماسية فخ الديون"، ذلك المصطلح الذي اختاره الباحث الهندي براهما شيلاني عنوانا لمقالة له نشرت في ((Project Syndicate)) في الثالث والعشرين من يناير سنة 2017، وجاء فيها: "إذا كان هناك شيء واحد يتفوق فيه قادة الصين حقا، فهو استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الجيوستراتيجية لبلادهم. فمن خلال مبادرة ’حزام واحد، طريق واحد‘ التي تبلغ تكلفتها تريليون دولار أمريكي، تدعم الصين مشروعات البنية التحتية في البلدان النامية ذات الموقع الإستراتيجي، غالبا عن طريق تقديم قروض ضخمة لحكوماتها. ونتيجة لذلك، أصبحت تلك البلدان واقعة في ’فخ الديون‘، مما يجعلها عرضة لنفوذ الصين."

قادة الصين، وفقا للسيد شيلاني، يتفوقون في شيء واحد فقط وهو نصب "الفخوخ" للبلدان الأخرى. الرجل، كما لو كان يعيش في كوكب آخر، لا يرى ما حققته، وما زالت تحققه، الصين من منجزات لا يملك حتى من ينتقد حكومتها أن ينكرها. الصين التي صارت ثاني أكبر اقتصاد في العالم وخلّصت خمس سكان العالم من الفقر وأطلقت الأقمار الاصطناعية وأرسلت رحلات استكشافية إلى القمر والمريخ، وسيطرت قبل غيرها من الدول على وباء كوفيد- 19، وتحقق أعلى معدل نمو اقتصادي عالمي وسط أسوأ أزمة صحية عرفتها البشرية في العصر الحديث؛ قادة هذه الدولة غير بارعين في شيء إلا في نصب "الشراك"، في نظر السيد شيلاني. المتتبع لكتابات براهما شيلاني لا يدهشه موقفه من الصين، فهو الذي كتب "التوسع الإمبراطوري المبالغ به للصين"، المنشورة في ((Project Syndicate)) في 24 مايو 2017؛ و"تهديد بيئي عالمي صُنع في الصين"، المنشورة في صحيفة ((العرب)) القطرية في 8 ديسمبر 2018؛ و"الإستراتيجية العظيمة لترامب"، المنشورة في صحيفة ((الوطن)) القطرية في 15 أغسطس 2018، والتي جاء فيها: "خلال فترة حكم الرئيس باراك أوباما وتحت أنظاره، تمكنت الصين من توسيع نفوذها العالمي بشكل سريع وبما في ذلك استخدام القوة في تغيير الوضع القائم في بحر الصين الجنوبي، بدون تكبد أي تكاليف دولية. وعند تلك اللحظة، أصبح الأمر جليا حيث انتهت حقبة الهيمنة الأمريكية. إن هذا يعني أننا لا يمكن أن نلوم ترامب على الانحدار النسبي لأمريكا فحسب، بل في واقع الأمر فإنه أيضا في وضع يؤهله لوقف ذلك الانحدار. وعلى الرغم من صعوبة توقع تصرفات ترامب فإن العديد من تحركاته الرئيسية في مجال السياسة الخارجية توحي بأن إدارته تسعى لتحقيق إستراتيجية عظيمة وشاملة من أجل إعادة إحياء القوة العالمية لأمريكا." الآن، وقد انتهت فترة ترامب، فهل استطاعت إدارته إعادة إحياء القوة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية؟

بالعودة إلى "فخ" السيد شيلاني، لا نتجاوز عندما نقول إنه إذا كان هناك شيء واحد يتفوق فيه الباحث الهندي الذي يُحتفى به في الغرب، فإنه براعته في نحت مصطلحات أقل ما يقال عنها أنها "سيئة النية"، ومنها "دبلوماسية فخ الديون".

كلمة "الفخ"، في معاجم اللغة الإنجليزية، يقصد بها جهاز أو حاوية أو حفرة مصممة لصيد الحيوانات، عادة عن طريق السماح بدخولها ومنع خروجها، مثل "مصيدة الفئران"، وتعني أيضا الوضع الذي يكمن فيه شخص للقيام بهجوم مفاجئ. وفي اللغة العربية، كلمة "فخ" جمعها فخاخ وفخوخ، وتعني "خدعة أو طريقة ملتوية لوضع شخص ما في أزمة وخطر"، وتعني أيضا "المصيدة"، أي الأداة التي تستخدم لصيد الطيور والقوارض والحيوانات الثديية الصغيرة. بعبارة أخرى، "الفخ" في التحليل الأخير ليس إلا مؤامرة، وقد جعلها السيد شيلاني "دبلوماسية"، وألصقها بالصين، فرددها باحثون وساسة غربيون للقدح في مبادرات وسياسات بكين، وتضم القائمة مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، ومايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية في إدارة دونالد ترامب. السيد شيلاني يحاول تشويه الصين وكأنها "المُرابي"، (pawnbroker بالإنجليزية)، الذي يستغل حاجة الآخرين فيقرضهم مقابل رهن، وهو يعلم عدم قدرتهم على رد ما اقترضوه ليستولي على ممتلكاتهم التي رُهِنَت. وبمقارنة حجم الناتج المحلي للصين في سنة واحدة، والذي تجاوز في سنة 2019 أربعة عشر تريليون دولار أمريكي، مع مبلغ التريليون دولار أمريكي الذي ذكره السيد شيلاني بشأن مبادرة "الحزام والطريق" ندرك سقم وفساد منطقه، خاصة عندما نعلم أن مائة وثماني وثلاثين دولة وإحدى وثلاثين منظمة قد وقعت اتفاقيات تعاون مع الصين بشأن البناء المشترك للحزام والطريق، حتى نوفمبر 2020، فهل لا يوجد شخص رشيد في كل تلك الدول يفطن إلى "فخ" الصين؟!

لعل ذلك ما جعل السيد جيمس لورنسون، الأستاذ في جامعة التكنولوجيا في سيدني بأستراليا، يقول إن مفهوم دبلوماسية "فخ الديون" الصينية "مفهوم غريب"، وفقا لتقرير نشرته صحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية التي تصدر بالإنجليزية في الثلاثين من أكتوبر 2019. أنتوني رولي، وهو صحفي متخصص في الشؤون الاقتصادية والمالية الآسيوية، ومؤلف كتاب "أسس المستقبل- المعركة العالمية للبنية التحتية (Foundations of the Future: The Global Battle for Infrastructure)"، كتب تحليلا بعنوان "خرافة دبلوماسية فخ الديون الصينية" في الخامس والعشرين من نوفمبر 2020 بصحيفة ((نيكي)) اليابانية، جاء فيه: "فيما قد يسميه دونالد ترامب حالة الأخبار الكاذبة، غالبا ما اتُهِمَت الصين باستخدام دبلوماسية فخ الديون لإغراء الدول النامية بالاقتراض أكثر مما تستطيع تحمله لتمويل مشروعات البنية التحتية ثم الاستيلاء على الأصول الإستراتيجية كضمان للقروض. وبينما يستعد ترامب لمغادرة البيت الأبيض، جنبا إلى جنب مع نائب الرئيس مايك بنس الذي ابتكر أساسا رواية دبلوماسية الديون ضد الصين في عام 2018، فإن سلسلة من البيانات والدراسات تتحدى فكرة أن بكين اتبعت بالفعل مثل هذه الإستراتيجيات الميكافيلية." يرى السيد رولي أن التهم الموجهة إلى الصين تستند جزئيا إلى سوء فهم، مستعرضا عددا من المشروعات الممولة بقروض صينية في سريلانكا وماليزيا لتأكيد فساد أسانيد دبلوماسية "فخ الديون".

على المستوى الرسمي الصيني، نفت بكين غير مرة مزاعم "فخ الديون"، ففي الثاني عشر من أكتوبر 2020، أكد تشاو لي جيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، أن الصين لم تغب أبدا عندما يتعلق الأمر بدعم أفريقيا، وستحل قضية الديون من خلال المشاورات الودية مع أفريقيا. وقال إن الصين تولي اهتماما كبيرا لقضية تعليق وتخفيف مدفوعات الديون في أفريقيا، وإنها ملتزمة بالتطبيق الكامل لمبادرة مجموعة العشرين (بشأن تعليق خدمة الديون للدول الأشد فقرا). وقد أعلنت الصين تدابير هامة لتخفيف عبء الديون الأفريقية في القمة الصينية- الأفريقية الاستثنائية بشأن التضامن ضد مرض فيروس كورونا الجديد (كوفيد- 19). وأضاف: "نتبع التوافق الذي توصل إليه قادة الصين وأفريقيا ومبادرة مجموعة العشرين، ونستجيب بشكل فعال لشواغل الجانب الأفريقي." وذكر تشاو أن الصين ستعفي خمس عشرة دولة أفريقية من القروض بدون فوائد المستحقة في نهاية 2020، وستواصل دعم المجتمع الدولي، خاصة مجموعة الـعشرين، لتمديد فترة التعليق. وأكد أيضا أن تعاون الصين مع أفريقيا لا يتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد ولا يضع شروطا سياسية. لا يوجد ما يسمى بـ"فخ الديون". وفي التاسع والعشرين من نوفمبر 2020، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون يينغ، إن الدول النامية لن تسقط في فخ الديون لمجرد التعاون مع الصين. وأضاف: "على العكس، التعاون مع الصين يرفع قدرات ومستويات التنمية المستقلة لتلك الدول ويحسّن معيشة مواطنيها."

ليانغ هاي مينغ، وهو عميد معهد "الحزام والطريق" في جامعة هاينان الصينية، كتب بصحيفة هوانتشيو (غلوبال تايمز) الصينية في التاسع عشر من مارس 2019: "إن ربط الصين بديون بلدان مبادرة "الحزام والطريق" ووصف هذه المبادرة التي اقترحتها الصين بـ ’دبلوماسية الديون‘ أو ’فخ الديون‘ اتهامات غير منطقية." وأضاف: "لا تتعلق قضايا ديون بلدان الحزام والطريق بالضرورة بمشروعات الحزام والطريق. في الواقع، قبل الانضمام إلى مبادرة "الحزام والطريق"، كانت مستويات ديون العديد من تلك الدول مرتفعة بالفعل. كانت الصين حديثة العهد، وبالتأكيد ليست أكبر دائن لتلك الدول. وقد تراكمت هذه الديون في المقام الأول نتيجة الاقتراض الطويل الأجل من البلدان الأخرى ومن المنظمات المالية الدولية. لقد ظلت العديد من دول مبادرة "الحزام والطريق" تتلقى قروضا من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وحتى الهند. لماذا تُعتبر الاستثمارات من تلك الدول، ذات ’الديون‘ المتطابقة تقريبا، ’فطائر حلوة‘ بينما يُنظر إلى الاستثمارات من الصين على أنها ’فخ ديون‘؟"

يجيب البروفيسور ليانغ بالقول: "السبب هو أن الدول الغربية تروج لـ’فخ الديون‘ الصينية لحماية مصالحها الخاصة. إنها لا تريد رؤية دول مبادرة "الحزام والطريق" تلجأ إلى الصين للحصول على مزيد من القروض بعد الاقتراض منها، لأنها تخشى أن هذه الدول قد تسدد للصين قبلها، مما يؤثر على فوائدها. لم تطلب الصين قط ولن تطلب من دول مبادرة " الحزام والطريق" سداد القروض بأموال مقترضة من أطراف ثالثة."

الحقيقة أن "دبلوماسية فخ الديون"، ليست إلا حلقة جديدة في سلسلة متصلة من محاولات تشويه صورة الصين، وخاصة لدى الدول النامية. اتُهمت الصين بـ"الاستعمار الجديد لأفريقيا"، وقبل ذلك اتُهمت بتزييف بيانات الناتج المحلي الإجمالي لها، واختُلقت لها نظرية "التهديد الصيني"، وهلم جرا.

إن أحد أهم أدوات التحليل السياسي هو النظر إلى السلوك السابق لاستشراف السلوك المتوقع لأي دولة أو منظمة. وقد ثبت، على الأقل خلال أكثر من أربعين سنة مضت، أن الصين دولة مسؤولة تفي بالتزاماتها وتعهداتها ولا تمثل تهديدا وإنما تسعى بكل ما في وسعها لبناء عالم متناغم يسوده السلام وتعمه التنمية، ومن هنا جاءت مبادراتها ومفاهيمها العديدة ومنها "الحزام والطريق" و"البنك الاسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، و"المصير المشترك للبشرية"، إلخ.

 

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4