البوذية هي أول عقيدة دخلت إلى الصين من خارجها، قادمة من الهند في أواخر أسرة هان الغربية (206 ق.م- 24م). ولكن مع امتزاجها بالثقافة الصينية ظهر شكل جديد من البوذية الصينية يختلف بوضوح عن البوذية الهندية التي تدعو إلى الزهد الصارم والانعزال والتأمل لوقت طويل. وقد صيّن الصينيون البوذية، أي أعطوها طابعا صينيا، ففي القرن السابع الميلادي اعتبر الراهب البوذي الصيني هوي ننغ (638- 713م) أن التهذيب الذاتي بعيدا عن حياة المجتمع لا يمكن أن ينجح، واعتقد بأن البوذي يمكن أن يمارس التهذيب الذاتي خلال حياته وعمله، بل يمكن للفلاح الأُمي تحقيق الاستنارة طالما أنه يعمل بجد ويفي بمسؤولياته الدنيوية. هذه الطائفة البوذية التي وضع هوي ننغ أصولها وتسمى بوذية تشان، تدعو إلى التحرر من قيود تعاليم البوذية وتشجع على التفكير الحر والجدل بين أتباعها كوسيلة للمعرفة، أي أنها سبقت جدلية هيغل بأكثر من ألف سنة.
وعلى الرغم من أن البوذية الصينية واصلت التأكيد على أهمية الأسفار البوذية فإنها توحدت مع الأفكار الكونفوشية والطاوية الصينية وانتهت إلى الاندماج التام مع الثقافة الصينية ذات التعددية الواضحة.
على عكس الديانات الأخرى في الصين، لم تأت البوذية إلى الصين وإنما الصين هي التي سعت إليها، حيث تشير السجلات التاريخية الصينية إلى أن الإمبراطور هان مينغ دي، من أسرة هان الشرقية (25- 220م)، أرسل مبعوثين له في العام الرابع والستين الميلادي إلى الهند، التي كانت تسمى آنذاك بالمناطق الغربية، لاستكشاف العقيدة التي سمع أنها منتشرة هناك. بعد ثلاث سنوات أمضاها مبعوثو الإمبراطور في أرجاء الهند، عادوا إلى العاصمة، مدينة لويانغ، عاصمة الصين آنذاك، ومعهم الأسفار البوذية وتماثيل بوذا، وعلى الفور أصدر الإمبراطور هان مينغ دي أمرا ببناء معبد بايما في مكان قريب من لويانغ من أجل إقامة وحياة الرهبان والبدء في ترجمة الأسفار البوذية التي جاءوا بها.
ولا يخلو دخول البوذية إلى الصين من أسطورة، فيقال إن الإمبراطور هان مينغ دي رأى في منامه رجلا ذهبيا طوله أكثر من خمسة أمتار تتألق قمة رأسه وهو يحوم في قاعة العرش. في الصباح التالي اجتمع الإمبراطور بوزرائه وقص عليهم ما رأى، فقال له وزير اسمه فو يـي إنه سمع بوجود إله في المناطق الغربية، والتي يقصد بها البلدان الواقعة غربي الصين، اسمه بوذا، وهو ذات الرجل الذي رآه الإمبراطور في منامه. ولهذا قرر هان مينغ دي أن يرسل مبعوثين إلى الهند، الواقعة غربي الصين، ليأتوا له بالعقيدة البوذية. عاد المبعوثون ومعهم الأسفار البوذية باللغة السنسكريتية الهندية القديمة وصورة لساكياموني من اللباد الأبيض إلى لويانغ. كانت الأسفار محمولة على جواد أبيض وقد كان الإمبراطور بنفسه في استقبالهم، وأمر بنزول الراهبين في معبد هونغلو الخاص للمبعوثين الأجانب. وفي العام التالي شيد مقر إقامة خاصا للراهبين، وغير اسم المعبد إلى بايما، أي الجواد الأبيض. ربما لهذا السبب اعتبر الصينيون البوذية، في بداية دخولها إلى الصين، نوعا من السحر واعتقدوا أن بوذا كائن سماوي وآمن به عدد قليل من أفراد الطبقة العليا. في ذلك الوقت كان عدد المعابد قليلا، وكانت تبنى كمساكن لإقامة الرهبان الأجانب فقط. وقد حظرت الحكومة على أبناء قومية هان حياة الرهبنة، وكان النشاط البوذي الرئيسي هو ترجمة الأسفار البوذية.
الفترة من القرن الثالث إلى القرن السادس، هيأت الظروف لانتشار البوذية في الصين على نطاق واسع، ففي تلك الفترة كانت الصين تعيش حالة من التفكك والاضطراب الاجتماعي، فلاذ الناس إلى مذهب فلسفي صيني قديم معروف باسم شيوانشيوي، وكانت أفكار كثيرة من هذا المذهب تلتقي مع البوذية. وقد أدرك الرهبان البوذيون هذا التوجه الأخير فأقبلوا على دراسة أفكار شيوانشيوي واستفادوا منها في دعوتهم إلى البوذية فدخلها كثير من الناس من مختلف فئات المجتمع. وفي فترة الأسرات الجنوبية والشمالية التي امتدت من سنة 420 إلى سنة 589، ازدهرت حركة ترجمة أسفار مذاهب كثيرة من البوذية الهندية، وواكب ذلك بداية انقسام البوذية الصينية إلى مذاهب مختلفة وتأصل البوذية في البلاط الإمبراطوري، إضافة إلى انتشارها بين عامة الشعب، فبني كثير من المعابد والأبراج البوذية المعروفة باسم الباغودا وكثر عدد الرهبان والراهبات.
وقد أدرك المبشرون بالبوذية منذ البداية المكانة التي تحتلها الأفكار الكونفوشية لدى الصينيين، فحرصوا على استيعاب تلك الأفكار، واستطاعوا التوفيق بين الدعوة البوذية إلى اعتزال الدنيا ومبادئ الكونفوشية الداعية إلى الانخراط في الحياة، وبين العقيدة البوذية وقوانين حكم الدولة وبين القواعد الدينية والمبادئ الأخلاقية، وباختصار استطاعوا تحويل البوذية من دين فقط إلى دين ودولة.
البوذية تؤكد على تحرير الروح ولا تدعو إلى تحمل واجبات الأسرة، ولكن الأسرة، بمفهومها الواسع والضيق، مفهوم مستقر في العقل الصيني، حيث كان الولاء للإمبراطور وبر الوالدين معيار الفرد الصالح في الصين القديمة. أمام هذا الوضع، كيّف المنظرون البوذيون دعوتهم بما يتلاءم مع المجتمع الصيني، فدعوا إلى الولاء للإمبراطور ودافعوا عن سلطة الحكم الدنيوية وإلى بر الوالدين. وبحلول فترة أسرة سوي التي امتد حكمها من سنة581 إلى سنة 618، كانت البوذية قد تغلغلت في نسيج المجتمع الصيني بكل فئاته وأطيافه، وقد تكرس هذا التوجه في فترة أسرة تانغ التي تلت أسرة سونغ واستمر حكمها إلى سنة 907. وقد تجسدت المكانة التي وصلت إليها البوذية المتصينة آنذاك، في قيام الحكومة بالإشراف على ترجمة الأسفار البوذية وظهور كثير من العلماء البوذيين، بل وقيام مبشرين بوذيين صينيين بالدعوة إلى البوذية خارج الصين؛ في شبه الجزيرة الكورية وفي اليابان.
كانت فترة أسرة تانغ في الصين القديمة هي الأكثر ازدهارا في كافة المجالات وقد ارتبطت البوذية في تلك الفترة بالسلطة. ومع سقوط أسرة تانغ بدأ تأثير البوذية يخبو تدريجيا حتى أواخر أسرة تشينغ عندما بدأ اهتمام من نوع آخر بالبوذية، هو اهتمام أكاديمي بالأساس أعاد إلى البوذية شيئا من تأثيرها.
ولكن الحديث عن البوذية في الصين يظل منقوصا إن لم يشتمل على التبت، فالبوذية التبتية التي تسمى "اللامية"، نسبة إلى رجل الدين الذي يطلق عليه اسم "لاما"، هي أحد المذاهب البوذية ويؤمن بها أبناء قوميات التبت ومنغوليا ويويقو ومنبا ولوبا وتو وتشيانغ. وهذا المذهب ارتبط بما يسمى تناسخ بوذا، كما أن التبت تعتبر نموذجا للتداخل بين الدين والسياسة، وفوق هذا وذاك هناك الدالاي لاما، الذي يسعى إلى فصل التبت عن الصين على نحو جعل البوذية التبتية مثار اهتمام كبير.
يعتقد المؤمنون بالبوذية التبتية أن الشخص عندما يموت لا تموت معه روحه بل تنتقل منه لتستقر في بدن مولود جديد. وعلى هذا الأساس فإن الزعيم الديني البوذي عندما يموت تنتقل روحه إلى شخص آخر لتستمر وتتواصل معه الروح. أهم شخصيتين في سلم الزعامة الدينية في البوذية التبتية (اللامية)، هو الدالاي لاما والبانتشن لاما، فهما بوذا الحي، أي الجسد الذي يحمل روح بوذا وفقا لتناسخ الأرواح، فعندما يموت الشخص تحل روحه في جسد شخص آخر وتسكنها إلى أن يغادر الجسد فتبقى الروح وتنتقل إلى جسد جديد، وهكذا دواليك. وعملية اختيار الدالاي والبانتشن معقدة وتتداخل فيها عوامل دينية وسياسية. وفقا للعقيدة البوذية التبتية، بعد وفاة بوذا الحي، سواء الدالاي أو البانتشن، يتم تحديد الشخص الذي حلت به الروح بعد أن فارقها الجسد باتباع سلسلة من الإجراءات المعقدة، من بينها الوصية التي يتركها بوذا الحي قبل وفاته وتتضمن نبوءته بمكان الشخص الذي ستنتقل إليه روحه. وبوذا الحي لا يذكر في وصيته اسم المكان صراحة وإنما يشير إلى خصائص ذلك المكان. وفي حال لم يترك وصية يُستند إليها في تحديد المكان والشخص يتم الاعتماد على الكهانة والتنجيم. وفقا لتلك الاعتبارات ينتشر رهبان المعبد الذي أقام فيه بوذا الحي قبل وفاته في مختلف الأماكن المحتملة، للبحث عن المولود الجديد الذي خرج إلى الحياة بعد وفاة بوذا الحي وسكنت جسده الروحُ المتناسخة. في شهر أغسطس 2007، أصدرت مصلحة الدولة الصينية للشؤون الدينية مرسوما يقضي بضرورة حصول بوذا الحي الخاضع لنظام التناسخ على موافقة واعتراف الحكومة الصينية بتنصيبه كبوذا حي، اعتبارا من أول سبتمبر 2007. والدالاي لاما الحالي للبوذيين التبتيين هو تنزين غياتسو، وهو الدالاي لاما الرابع عشر ويقيم في منفاه بالهند. أما البانتشن لاما الحالي، وهو الحادي عشر، فهو أردَني لوسانغ تشامبا لونتشوب تشويغييجابو الذي حل محل البانتشن لاما العاشر لوبسانغ ترينلي لهوندروب تشويكي غيالتسن.
إضافة إلى اللامية يوجد بالصين عدة مذاهب أخرى للبوذية هي بوذية بالي التي تشبه عقيدة ماهيانا، ولكنها تؤمن بساكياموني فقط، ولا تعترف بالآلهة الأخرى، ولذلك يكون تقديم القرابين لساكياموني فقط في المعابد. وقد دخلت بوذية بالي في القرن السابع تقريبا إلى مقاطعة يوننان، وانتشرت بين أبناء قومية داي وقومية بولانغ وقومية آتشانغ وقومية دآنغ بمناطق شيشوانغباننا ودههونغ ولينتسانغ وسيماو وباوشان، ويؤمن كل أبناء قومية داي تقريبا بالبوذية.
الجهة الرسمية التي تمثل البوذية في الصين هي الجمعية البوذية الصينية، التي أنشئت عام 1953، ومقرها في بكين، وتتولى، وفقا لميثاقها، الدفاع عن حرية العقيدة ومصالح البوذيين. وتصدر الجمعية مجلة شهرية هي "صوت البوذية".
تطور التعليم البوذي من التعليم المعبدي- وهو نظام تعليمي شبيه بالتعليم المسجدي بين مسلمي الصين- إلى التعليم النظامي في أوائل القرن العشرين. ويوجد في الصين حاليا المعهد الصيني للعلوم البوذية والمعهد العالي للعلوم البوذية التبتية، وعدد من المعاهد الإقليمية الأخرى.
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037