على مقهى في الشارع الصيني < الرئيسية

الطاوية والعودة إلى الطبيعة

: مشاركة
2018-05-31 11:46:00 الصين اليوم:Source حسين إسماعيل:Author

أسس الطاوية المفكر الصيني لي أر الذي اشتهر باسم لاو تسي، وطور هذا الفكر الفيلسوف الصيني تشوانغ تسي (369 ق م- 286 ق م). ولم تذكر المصادر التاريخية تاريخ ميلاد ووفاة لاو تسي الذي ظهر قبل كونفوشيوس بفترة قليلة في مملكة تشو، في أواخر عصر الربيع والخريف (770 -476 ق م). كان لاو تسي مسؤولا عن إدارة الكتب والمحفوظات لأسرة تشو، وكان ذا معرفة واسعة. ويقال إن كونفوشيوس زاره في شبابه ليتعلم منه الطقوس والشعائر وقواعد الأدب لأسرة تشو. ومع اضمحلال الأوضاع في بلاط تشو، قرر لاو تسي مغادرة العاصمة لويانغ، وعندما وصل إلى ممر هانقو كان قد أتم كتابه "داو ده جينغ" (الأخلاق). الفترة التالية لذلك تبدو المصادر الصينية فيها مضطربة، فيذكر بعضها أنه خرج من الممر على ظهر بقرة خضراء ولم يعلم أحد وجهته، وقال البعض إنه عاش ستين عاما في حين ذهب آخرون إلى أنه عاش مائتي عام.

شرح لاو تسي في كتاب "الأخلاق" قوانين التحول؛ فكل شيء قابل للتغير إلى النقيض. وتعارض الطاوية الأحكام الصارمة وتدعو إلى أن يساير كل شيء الطبيعة. غايتها السياسية هي أن تكون أفكار الإنسان بسيطة ويعيش حياة بسيطة، وتدعو إلى العودة إلى الطبيعة وتؤكد على الحرية الشخصية المطلقة. كانت أفكار الطاوية جزءا مكملا للكونفوشية، وتأثر المثقفون الصينيون بدعوتها إلى العودة إلى الطبيعة كثيرا، فكانوا يلوذون بالأنهار والجبال إذا لم تتحقق طموحاتهم السياسية. وتؤكد الطاوية على القيم الفردية وعلى مكان الفرد في المجتمع، ولهذا فإن إدوارد هـ. كرين، مؤسس ورئيس مؤسسة ((كاتو)) الأمريكية لبحوث السياسات، يعتبر لاو تسي أحد أهم دعاة المجتمع المدني في تاريخ العالم. هذا العالم الأمريكي الذي أنشأ مؤسسته عام 1977 وأخذ اسمها من رسائل كاتو، التي وضعت الأسس الفلسفية للثورة الأمريكية، يستشهد بتعاليم لاو تسي باعتبارها أسسا فلسفية صلبة للمجتمع المدني، حيث يقول فيلسوف الطاوية الصيني في كتابه "داو ده جينغ"، دع القانون يصبح الناس أمناء مخلصين، دع الاقتصاد يصبح الناس في رخاء، دع الدين يصير الناس ساكنين هادئين، دع الرغبات لكل الخير العام يصبح الخير مثل العشب. وقال أيضا: "عندما تكون الضرائب عالية يجوع الشعب، وعندما تتدخل الحكومة يفقد الشعب روحه. اعمل من أجل مصلحة الشعب، ثق بهم واتركهم وحالهم كثيرا". تحدث لاو تسي عن تفوق المجتمع المدني على المجتمع السياسي.

كانت أسرة هان الأخيرة، فترة حروب طويلة وأمراض متفشية. وقد أدى الفوران الاجتماعي بمثقفي ذلك الزمان إلى طرح مزيد من الأسئلة العميقة حول معنى الحياة والوجود. وكان النظام الإقطاعي في حالة من الاضطراب، مما أدى إلى ضعف النظام الأخلاقي الكونفوشي الهرمي. ونتيجة لهذه الظروف، أصبحت الفلسفة الطاوية، بتأكيدها على الأخلاق الفردية، أكثر تأثيرا. وفي زمن أسرة جينغ (266- 420)، كانت الطاوية تطرح نفسها على نحو متزايد كبديل قوي للكونفوشية، وفي فترة وي- جين (220- 420)، بلغت الطاوية أوج ازدهارها في المجتمع الصيني.

ومثلما أثرت الكونفوشية في حياة الصينيين وثقافتهم تركت الطاوية بصماتها الواضحة على المجتمع الصيني، ويتجلى ذلك في عدة مجالات، منها الطب والدواء والصحة.

وعلى الرغم من أن أصول الطاوية ترجع إلى نفس الفترة من التاريخ الصيني مثل الكونفوشية، فإن الفلسفتين تختلفان كثيرا. كانت أفكار الطاوية حول الصحة والحياة أكثر تأثيرا في الطب التقليدي الصيني من أفكار الكونفوشية. وقد أخذ كتاب "هوانغ دي نيجينغ" (كتاب الإمبراطور الأصفر في الطب الداخلي)، من العديد من المدارس الفلسفية لفترة ما قبل تشين (قبل وحتى عام 207 ق. م) من الفلسفة الطاوية.

حسب لاو تسي، الطاو (السراط) هو مصدر الكون وكل القوانين الطبيعية. وقد طبق كتاب "نيجينغ" هذا المفهوم على العديد من مفاهيم الطب التقليدي الصيني، فنظرية ين ويانغ التي يشار إليها بأنها طاو ين ويانغ، تشرح الخصائص والطبيعة المتحولة لكل الأشياء. طاو الهدم، طاو الحماية، طاو الصعود وطاو الهبوط، وتصف دوران العنصر الحيوي، الذي يسمى "تشي"، في الجسم، ويتناول طاو الإبر أساليب الوخز بالإبر. وحسب "نيجينغ"، على الرغم من عدم إمكانية إدراك الطاو حسيا مباشرة فإنه موجود في كل شيء، من عالم السماء والأرض الكبير، إلى "عالم العشرة آلاف شيء" التي تسكن الكون، فلا يوجد شيء لا يخضع لسيطرته، ووظائف الجسم وأمراضه ليست استثناء. فهم الطاو هو الإمساك بمصدر الحياة، ومن ثم إجادة الوقاية من المرض وعلاجه.

دافع لاو تسي عن قواعد "الصفاء وعدم الفعل" السلوكية و"دع الطبيعة تأخذ مجراها". وقال إنه بقبول جريان الطبيعة واحترام قوانينها الموضوعية يصبح من الممكن فهم التحولات الطبيعية للسماء والأرض. وقد طور تشوانغ تسي أفكار لاو تسي أكثر، بالقول إن الناس يجب أن يتفقوا مع قوانين التحولات الطبيعية، ولا ينبغي التدخل في الطبيعة أو تغييرها إلى حد مفرط. واعتقد أن الإنسان غير منفصل عن السماء والأرض، فكل هذه الأشياء كيان واحد. وقد أدى هذا إلى دعوة الطاوية إلى أسلوب حياة حر غير مقيد بالأعراف الاجتماعية. وقد بلور كتاب "نيجينغ" جوهر الطاوية في مفهوم "وحدة الإنسان والطبيعة"، فهو يعتبر الإنسان والطبيعة كلا موحدا، ويدعو إلى الحياة وفقا لقانون الطبيعة بالقول: "إن الناس ولدوا من طاقة السماء والأرض والطبيعة وفقا لتتابع الفصول الأربعة، كما أن الإنسان والطبيعة هما انعكاسات لصورة مصغرة وصورة مكبرة لنفس الهيكل الكوني." السماء مستديرة والأرض مربعة، رأس الإنسان مستديرة وقدمه مربعة. السماء بها الشمس والقمر، الإنسان له عينان. الأرض بها الكتل الترابية التسع، الإنسان لديه الفتحات التسع. السماء بها الرياح والمطر، الإنسان لديه الحب والغضب. السماء بها الرعد، الإنسان لديه الموسيقى. السماء بها ين ويانغ، والإنسان منه الذكر والأنثى. السماء بها 365 يوما، والإنسان به 365 نقطة وخز. يفسر "نيجينغ" المبدأ المنظم التالي: "في الأعلى توجد السماء، وفي الأسفل توجد الأرض، وفي المنتصف يوجد الإنسان". ومفهوم "أن الإنسان والطبيعة يشكلان كلا موحدا، كل منهما يجسد الكل وتحكمه نفس القوانين"، هو المساهمة الأساسية للطاوية في الطب التقليدي الصيني.

 قدمت الطاوية مفهوم "تشي "باعتباره أصل الخلق وأساس الحياة، وهو ما أوجد طريقة لتفسير غموض ولادة الإنسان وشيخوخته ومرضه وموته. وقد كان قوان تسي (؟- 645 ق م)، أول فيلسوف طاوي يطبق مفهوم "تشي" على مسائل حياة الإنسان وفلسفته، والعلاقة بين الهيئة والروح. وعلى الرغم من أن أفكار قوان تسي تضمنت قدرا معينا من الحدس، فإنها فتحت مجالا جديدا للفكر، وكان لها تأثير عظيم على المجتمع الصيني. وبعد مئات السنوات توسع تشوانغ تسي في التعاليم حول الطاو، متمسكا بأن "تشي" هو المكون الأساسي الذي تتكون منه كل الأشياء في الكون.

تؤكد تعاليم الطاوية أن "تشي" متحرك بدون توقف، ومتحول إلى ما لا نهاية. يدور "تشي" على نحو متواصل في الجسم في شبكة من المسارات، المرتبطة ببعضها، ويصنف على أنه صاعد (من أسفل لأعلى)، هابط (من أعلى لأسفل)، داخل (من الخارج إلى الداخل)، وخارج (من الداخل على الخارج). في الظروف العادية، يحافظ دوران "تشي" الصاعد والهابط و"تشي" الداخل والخارج على توازن نسبي. الحركة التحولية لـ"تشي" وهو يتحرك في الجسم، تفرز تغيرات فسيولوجية متواصلة. عندما يكون "تشي" كافيا، تعمل وظائف الجسم الحيوية طبيعيا. وعندما يكون غير كاف تضعف الوظائف الفسيولوجية للجسم، وهو ما ينتج عنه حالات نقص "تشي" العامة أو المحددة المكان، مثل الحالات التي تُعَالج بطرق إكمال "تشي".

وتعتبر الفلسفة الطاوية أن وحدة الهيئة والروح، تمثل العلاقة المثلى بين البدن والشعور. وقال تشوانغ تسي إن هذه الحالة من التوازن يمكن أن تتحقق من خلال التأمل. وقد اعتقد بأنه عندما يكون الجسم منظما والرؤية مركزة سوف تتدفق العواطف طبيعيا، وعندما تكون الروح مركزة والأفكار مجمعة سوف تنتج الحكمة. وعندما تتوحد الهيئة والروح، يمكن تحقيق الطاو. وقد طبقت الطاوية أساليب التأمل على العمليات الفلسفية. وقد اعتقد بأن زيادة حفز البصر والسمع من خلال التأمل يعزز الصفاء ويقلل الإجهاد، وهو ما يؤدي إلى صحة جيدة. وعندما يتم الوصول إلى حالة اللا رؤية واللا سمع واللا تفكير من خلال التأمل، يكون البدن والروح متناغمين، وهذا يطيل العمر. وتؤكد الطاوية على أنه من أجل أن تعيش في توافق مع قانون الطبيعة، ينبغي أن تكون الهيئة والروح متوافقتين. ويكون "تشي" الفصلي المتقطع والحفز بواسطة المشاعر السبعة، ضارة بالجسم وينبغي تجنبها، وكذلك تجنب الممارسات التي تعارض الطبيعة أو تستنفذ الروح.

ويؤكد الطب التقليدي الصيني على أنه عندما يتطور جسم الإنسان (الهيئة) إلى نقطة معينة، فإن قوة الحياة (الروح) تنشطه وتقويه طبيعيا. وتحتاج الروح إلى أساس بدني، ولا يمكن أن توجد عندما لا تكون الهيئة مكتملة. إن الحياة هي التجلي للروح داخل الهيئة، ومع تقدم عمر الإنسان أو مرضه بشدة يضعف البدن تدريجيا وتنحسر قوة الحياة، وفي النهاية تغادر البدن وتؤدي إلى الوفاة. ويلخص كتاب "نيجينغ" الاعتماد المتبادل والتداخل بين الهيئة والروح، مقررا أنه عندما تكون الهيئة مكتملة تعيش الروح، وعندما تغادر الروح تموت الهيئة.

يؤكد الطب التقليدي الصيني على أن القلب هو مقعد العقل. ولتغذية وتنظيم العقل والقلب، يأخذ الطب التقليدي الصيني من أساليب التأمل الطاوية لتركيز العقل. وهنا، فإن التخلص من الابتهاج المفرط وتهدئة القلب وتركيز الوعي يمكّن "تشي" من الدوران طبيعيا وطرد الأمراض وتقوية الصحة وإطالة العمر. على العكس، إذا كان القلب والعقل ممتلئين بالاضطراب يتخرب التوازن الداخلي للجسم، وهو ما يسفر عن تأثيرات ضارة بالصحة. ويؤكد الطب التقليدي الصيني على تحقيق صفاء الروح، فالسعادة المعتدلة والنظرة المستقبلية الإيجابية تعزز دروان "تشي" والدم، وهو ما يفيد الصحة. يجب الحفاظ على التوازن بين ين ويانغ، والمشاعر المتطرفة يمكن أن تخرب هذا التوازن في الجسم وتتلف الصحة. العقل المركز هو الأساس الذي يجعل من الممكن تحقيق صفاء الروح، وتحقيق التوازن بين ين ويانغ.

يجمع كتاب "نيجينغ" فهما للفلسفة الإنسانية، مع مفهوم أن الهيئة والروح بينهما اعتماد متبادل وتداخل. ويؤكد على أنه من أجل تعزيز قوة الحياة وتحقيق الصحة وطول العمر من الضروري تهذيب الروح والحفاظ على الجسم الذي تسكنه.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

京ICP备10041721号-4