عندما يحل ديسمبر هذا العام، 2018، يكون قد مضى على الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني، أربعون عاما. هذه الجلسة التي عقدت في الفترة من الثامن عشر حتى الثاني والعشرين من ديسمبر 1978، بقيادة الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ، تؤرخ لبداية سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين.
كتب وسيكتب كثيرون عن الإنجازات غير المسبوقة في التاريخ التي حققتها الصين في أربعة عقود. الحديث يكون غالبا عن المعجزة الاقتصادية الصينية؛ فالدولة التي بلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2016 أكثر من أحد عشر تريليون دولار أمريكي، كان ناتجها المحلي الإجمالي حوالي مائة وخمسة وخمسين مليار دولار أمريكي في عام 1978، وقبل عشر سنوات فقط كان 5ر3 مليارات دولار أمريكي، أي أنه تضاعف مرتين خلال عقد واحد من الزمان. ومع تحول الأرقام من المليار إلى التريليون، ارتفع متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي من مائة وخمسة وستين دولارا (1978) إلى أكثر من ثمانية آلاف دولار أمريكي (2016)، مع توقعات بأن يتجاوز خمسة عشر ألفا في عام 2021. الصين التي لم يكن فيها أي استثمارات أجنبية قبل أربعة عقود، بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر فيها عام 2016، أكثر من مائة وثلاثين مليار دولار أمريكي، وحافظت على وضعها كثاني أكبر اقتصاد في العالم. الأهم، أن أكثر من سبعمائة مليون صيني نفضوا الفقر عن كواهلهم.
الصين حاليا تتصدر المشهد الدولي. غيض من فيض الدراسات تتفق على أن بكين على وشك الإمساك بعجلة قيادة العالم، الاختلاف فقط حول الموعد، بعد أن توارت الدراسات والبحوث التي تتنبأ بانهيار الصين، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
الحديث عن الصين، في دوائر البحث والفكر والإعلام، الغربية تحديدا، بعد المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، يتخذ منحى جديدا، لأن الواقع يفرض نفسه.
لا يجد المرء، وهو يكتب عن الصين، شيئا كثيرا لم يقله الباحثون بحثا في تفسير وتعليل وتأويل منجزات الصين خلال السنوات الأربعين المنصرمة. بيد أن قليلا من الكتابات تلتفت إلى البطل الحقيقي للمعجزة الصينية، وأقصد المواطن الصيني. وفي تقديري، فإن من يبحث الحالة الصينية دون الالتفات إلى هذا الجانب لا يمكنه الاستفادة منها شيئا. الذين يتغزلون في الإنجازات الصينية العملاقة، لا بد أن يعلموا أن هذه الإنجازات كانت لها أثمان باهظة دفعها عامة الصينيين، ليظل السؤال هو: هل ثمة شعب آخر لديه الاستعداد والقدرة لتحمل التضحيات التي كابدها الصينيون؟ وبعبارة أخرى، فإن قراءة النتائج من دون تحري مقدمات ومجريات وتفاصيل ما حدث ومازال يحدث على النحو الذي أفضى إلى النتائج، تقود إلى استنتاجات خاطئة.
من المهم للغاية لكل من يتعرض لما أسميه أنا بـ"الحالة الصينية"، أن يلم بكافة جوانبها ولا يركن فقط إلى نتائجها الساطعة، بل عليه أن يسترجع المشاهد القاسية والتضحيات المؤلمة التي تحملها أبناء هذا الشعب، وخاصة من يسمونهم في الصين بالعمال- الفلاحين، ويقصد بهم أبناء الريف الذين هجروا مواطنهم وسعوا إلى المدن بحثا عن حياة أفضل أو رزق أوسع، ولم تكن الرياح في كل الأحوال تأتي بما تشتهي سفنهم. العمال- الفلاحون الذين كان عددهم في بدايات فترة الإصلاح أقل من خمسين مليونا، ارتفع إلى ستين مليونا في سنة 1992، ثم إلى 120 مليونا في سنة 2003، وإلى 210 ملايين في سنة 2008، قبل أن يصل في سنة 2017 إلى أكثر من 280 مليونا، بزيادة بلغت نسبتها 5ر1% عن عام 2016.
هؤلاء الناس يضمرون في قلوبهم وأكياس أمتعتهم وكفوف أيديهم المتشققة جانبا آخر مما يسميه البعض بالتجربة الصينية؛ الجانب الذي يتجلى في أكثر مشاهده تأثيرا أمام محطات القطارات والباصات في المدن الصينية قبيل حلول عيد الربيع، عندما يتكدس أبناء الريف، رجالا ونساء، شبابا وشابات، عائدين إلى ديارهم بعد شهور من الشقاء والحنين، حاملين على ظهورهم حقائبهم التي تحوي لباسهم وأوعية طعامهم، ولكن الأهم من بين كل هذا "صرة" محكمة الربط مخفية بين جلد ولحم الواحد منهم، فيها حصيلة عرق شهور عديدة.
قبل عشر سنوات، وفي مكان يحمل اسم "متحف ثقافة وفنون العمالة المهاجرة" يقع في قرية اسمها بيتسون (قرية الجلد) بالضاحية الشمالية الشرقية لمدينة بكين، بالقرب من مطار العاصمة الدولي، الواجهة المتألقة لبكين، رأيت الوجه الآخر للحالة الصينية؛ حكايات العمال- الفلاحين.
يحكي المتحف، وبالأحرى مقتنياته قصة ملايين العمال- الفلاحين الذين حملوا جانبا كبيرا من نهضة الصين خلال السنوات الماضية فوق أكتافهم. في ركن من المتحف غرفة صغيرة ليس بها سوى سرير عبارة عن لوح خشب مرفوع على بضعة قراميد، وبجواره مقعد. إنه الصورة النموذجية لمأوى العامل- الفلاح في المدن.
بدأت حملة الإصلاح والانفتاح من الريف الصيني بتطبيق نظام تتعهد بموجبه الأسر الريفية، منفردة، بزراعة الأرض المملوكة جماعيا عن طريق المقاولة، مما أدى إلى تحرير نحو مائة مليون ريفي من العمل الزراعي، وبمعنى آخر أصبحوا بلا عمل. ولكن معظم الفلاحين ظلوا أسرى للريف بسبب نظام كوبونات الدعم (بطاقات التموين) المرتبطة بمحل الإقامة، والتي كان بها يتم الحصول على كل شيء تقريبا، حتى الطعام. وقد استطاع ثلاثة وستون مليونا من هؤلاء المائة مليون الحصول على وظائف في المشروعات الريفية التي تديرها القرى، والتي انتشرت في تلك الحقبة. في سنة 1984 تغيرت السياسة، وصار مسموحا للفلاحين بالعمل في المدن، ومع ذلك لم تشهد الصين هجرة هائلة للعمالة الريفية المتعطلة. بيد أن تدفق الاستثمار، بفضل سياسة الإصلاح والانفتاح، أدى إلى خلق أعمال كثيرة في مواقع البناء وفي المناجم والمصانع، وهي أعمال يعتبرها أهل مدن الصين مرهقة وقذرة، فكان لا بد من الاستعانة بأهل الريف.
حسب الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، ساهمت العمالة المهاجرة في الصين بواحد وعشرين في المائة من إجمالي الناتج المحلي للصين خلال الثلاثين سنة الأولى للإصلاح والانفتاح. ومع ذلك، كما ذكر تقرير لوكالة شينخوا في عام 2008، كان عدد قليل من العمال الريفيين يشعرون فعليا بالتقدير أو الاحترام، ولا يستمتع كثير منهم بحياة المدن، وبالأحرى لا يعيشها، فالغالبية العظمى منهم يضطرون للعمل أوقاتا إضافية وبعضهم يعمل سبعة أيام في الأسبوع. وحسب مسح أجرته سنة 2006 المصلحة الصينية للإحصاء، لم يكن 40% من العمال الفلاحين في استطاعتهم أن يجدوا الوقت أو المال لزيارة الطبيب عندما يمرضون، وكان أكثر من نصفهم يمضون وقت فراغهم إما في النوم أو مشاهدة التلفزيون، فكيف يصبحون جزءا من عالم المدن؟
معظم مقتنيات "متحف ثقافة وفنون العمالة المهاجرة" أهداها إليه عمال مهاجرون من أنحاء الصين، ومنها رسائل شخصية وسجلات إقامة وقصاصات لبيانات أجور وشكاوى للمطالبة بالأجور المتأخرة ووثائق تحكي عن حياة بعيدة تماما عن خيال كثير من أهل المدن. في صورة ضوئية لورقة اعتذار كتبها تشاو ون فنغ، وهو عامل مهاجر في شنتشن نقرأ: "المدراء المحترمون، أعتذر لأن النعاس غلبني أثناء العمل، فأنا أعمل في الليل ولكنني اضطررت لزيارة قريب لي أصيب وقت النهار ولهذا لم أنم وقتا كافيا. أنا على علم تام بأن ذلك خرق لقواعد الشركة وأتعهد بأن لا أفعل مثل هذه الأخطاء مرة ثانية، وأن أضع مصلحة الشركة قبل مصلحتي الشخصية". ويبدو أن هذا الاعتذار حفظ للرجل وظيفته. ولكن خطابا آخر بعثت به تشين مي إلى والديها في يوليو 1993، بدا وكأنه كلماتها الأخيرة، فقد لقيت حتفها، مع 86 آخرين عندما التهمت النار الورشة التي كانت تعمل بها بعد أربعة شهور من رسالتها التي جاء فيها: "أمي العزيزة وأبي العزيز، استطعت تدبير 350 يوانا هذا الشهر، وإضافة إلى ما ادخرته الشهر الماضي أرسلت لكما بالبريد 400 يوان. أرجو أن تدفعوا لعمي المائة يوان التي استدناها منه." ماتت تشين مي، وهي ابنة ست عشرة سنة، مع 400 آخرين عندما شب حريق في الشركة التي كانت تعمل بها في مدينة شنتشن يوم 19 نوفمبر 1993. وقد وجدت أجهزة الإنقاذ أن أربعة مخارج للبناية مقفلة والممر الوحيد للمخرج المفتوح عرضه 80 سم، وقد مات معظم الضحايا مختنقين قرب المخرج.
ظل معظم العمال المهاجرين في المدن، حتى سنة 2005، بدون حماية، حيث لا وجود لاتحادات تمثلهم، ومعظمهم يعمل ساعات طويلة دون حماية ملائمة من الأمراض والحوادث الصناعية. في لوحة رسم بقلم رصاص عبرت طفلة اسمها هوانغ يوي شين عن معاناة والديها، فالأب يتصبب عرقا في موقع بناء تحت الشمس الحارقة، والأم مشغولة في تنظيف الأرضية أمام بناية مكاتب فاخرة.
ومع أن العمال- الفلاحين تحملوا، راغبين أومكرهين، كل الصعوبات في سبيل توفير لقمة العيش، فإن اليأس كان يتملك حتى الأقوى منهم عندما كانت أجورهم تُخفض ظلما أو يتأخر دفعها، لدرجة وصلت ببعضهم إلى ارتكاب جريمة القتل، فقد قام وانغ بين يو، وهو فلاح من مقاطعة قانسو، بطعن أربعة من أقارب رئيس العمال الذي يعمل معه، بعد أن تجاهل رئيس العمال توسلاته العديدة لدفع أجره عن العمل سنة 2005، وهو خمسة آلاف يوان. كان وانغ في حاجة ماسة إلى المال ليساعد والده الأعرج. قبل تنفيذ حكم إعدامه، قال وانغ: "حتى السجن مكان أفضل من موقع البناء الذي كنت أعمل فيه."
أكبر مشكلة يواجهها العمال- الفلاحون قبل العودة إلى مواطنهم في عيد الربيع كل سنة هي الحصول على أجورهم، وقد أطلقت الصين حملة في سنة 2003 لضمان أن يحصل العمال الفلاحون على أجورهم كاملة وفي مواعيدها، بعد أن ساعد رئيس مجلس الدولة السابق ون جيا باو سيدة في الحصول على أجور زوجها المتأخرة.
تحسنت أوضاع الفلاحين الذين صاروا عمالا في مدن وبلدات الصين كثيرا في السنوات الأخيرة، مع التقدم الشامل لبلادهم، ففي عام 2016 بلغ متوسط الدخل الشهري للفرد منهم إلى 3275 يوانا (الدولار الأمريكي يساوي 5ر6 يوانات)، وهو أقل بنسبة 6ر6% عن عام 2015، وفقا للتقرير الصادر عن المصلحة الوطنية الصينية للإحصاء في مايو 2017.
ومع تحسن أحوال المناطق الريفية يتراجع معدل زيادة الفلاحين الذين تحولوا إلى عمال خارج مواطنهم، حيث انخفض العدد بمقدار 790 ألف شخص خلال عام 2015 إلى 66ر76 مليون فرد، وهو ما يمثل 3ر45% من إجمالي جميع الفلاحين الذين يعملون خارج مسقط رأسهم. ولعل الثمرة الأبرز- من وجهة نظري- لسياسة الإصلاح والانفتاح في السنوات الأخيرة، هي ازدياد عدد العمال الذين يتم تشغيلهم من قبل قطاعات محلية في مسقط رأسهم بنسبة 4ر3% سنويا، ليصل العدد إلى 37ر112 مليونا، أي أكثر من 88% من إجمالي عدد العمال- الفلاحين الجدد. وعلى النقيض من ذلك، بلغ عدد الفلاحين الذين يعملون في المدن نحو 135 مليونا، بانخفاض قدره 57ر1 مليون، أي بنسبة 1ر1% سنويا.
ولكن العمال- الفلاحين يهرمون، فمن جاوزوا الخمسين من العمر منهم مثلوا 19% من الإجمالي في عام 2016، بزيادة قدرها 14% عن النسبة في عام 2011، في حين يمثل الذين ولدوا بعد ثمانينات القرن العشرين أقل من نصف العدد الإجمالي. ومن الطبيعي أن تشهد مناطق غربي الصين، الأقل حظا في التنمية، الزيادة الأسرع في عدد العمال- الفلاحين الجدد.
برغم كل هذه المعاناة لم يتجاوز تذمر العمال- الفلاحين، في أغلب الأحوال، الحدود القانونية ولم يخرجوا على شرعية المجتمع سواء في شكل اعتصامات أو مظاهرات أو أي شكل من أشكال العصيان. والغالبية العظمى من هؤلاء العمال- الفلاحين يعترفون بأنهم يعيشون حياة أفضل حالا من آبائهم وأنهم استفادوا من ثمار التنمية، حتى ولو كانت استفادة ضئيلة.
إنهم بناة جسر الرخاء الذي عبر عليه الصينيون سنوات الشدة والفقر، ومن الإنصاف أن نذكرهم مع كل خطوة تتقدمها الصين.
©China Today. All Rights Reserved.
24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037