مال واقتصاد < الرئيسية

سوق البودكاست الصينية تتوهج

: مشاركة
2025-08-15 11:21:00 الصين اليوم:Source دنغ دي:Author

في الحياة العصرية السريعة الوتيرة، حيث ينقسم الزمن إلى أجزاء متناثرة بينما العيون معلقة بشاشات مختلفة المقاسات، بات الصينيون، في خضم هذا الفيض من المعلومات البصرية، يبحثون عن وسيلة احترافية تتيح لهم الحصول على المعرفة والأخبار في قالب مريح. وهكذا برز البث الصوتي "البودكاست" كاختيار عصري يحقق هذه المعادلة. بهاتف ذكي وسماعة أذن، تتمتع بمرونة الاستماع في مختلف المواقف؛ في زحام المترو أو خلال التنقلات الطويلة وأثناء أداء الأعمال المنزلية أو ممارسة الرياضة. لقد تحولت هذه الوسيلة من هواية نخبوية إلى ظاهرة ثقافية تملأ الفراغ الزمني بمحتوى صوتي ذي قيمة. وفقا لـ((تقرير صناعة البث الصوتي في الصين 2024)) الصادر عن شركة "جاست بود" (Just Pod)، الرائدة في مجال البث الصوتي والرقمي في الصين، بلغ عدد مستخدمي البودكاست في الصين 117 مليونا في عام 2023، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 179 مليونا بحلول عام 2027. تظهر البيانات أن الشباب في المدن الكبرى الذين يتميزون بفضول فكري كبير وانفتاح ثقافي وتعليم جيد، هم الجمهور الرئيسي للبث الصوتي. هم يبحثون عن محتوى عالي الجودة ويتسمون بالعقلانية في الاستهلاك، ويولون الصحة الجسدية والنفسية أهمية بالغة.

رفقة حميمة

قال يانغ هنغ باو، وهو شاب عمره 35 عاما ويعمل في قطاع التكنولوجيا المالية: "لقد تعبت من سيل مقاطع الفيديو القصيرة التي تتحكم فيها الخوارزميات، ومن تحديثات وسائل التواصل التي لا تتوقف، فهي تستنزف طاقتي الجسدية والعقلية، بينما ترهق عيناي من التحديق الطويل في الشاشة. على عكس هذه المحتويات المجزأة، يمنحني البودكاست فرصة الغوص في أعماق الموضوعات وفهمها بكل تفاصيلها." بهذه الكلمات عبر يانغ عن شغفه بالبودكاست الذي يرافقه خلال تنقلاته اليومية للعمل، حيث يغوص في عالم بودكاست التكنولوجيا والأعمال، وأضاف: "خلافا للإيجاز الذي تتميز به مقاطع الفيديو القصيرة، يأخذك البودكاست في رحلة فكرية عميقة وغامرة. تلك الحوارات التي تمتد لعشرات الدقائق أو حتى ساعات كاملة، تحمل في طياتها رؤى ثاقبة ومعرفة غنية."

السيدة لو يا، البالغة من العمر 56 عاما والمتقاعدة عن العمل، ترى في البودكاست رفيقا لا يعوض. قالت: "البودكاست المتميز يمنحك إحساسا بالصحبة الحميمة، وكأنك لست وحيدا. بعض البرامج الموسيقية تشبه تلك الجلسات الحميمية حيث يبدو المقدم جالسا بجواري على الأريكة، يشاركني شغفه بالموسيقى. كلماته واضحة لدرجة أنني أستطيع تخيل تعابير وجهه. هذه الألفة يشعر بها كل من يستمع بمفرده في هدوء الليل."

على منصات التواصل الاجتماعي الصينية، بات الشباب يطلقون على البودكاست الذي يناقش هموم العمل والعلاقات واختيارات الحياة لقب "الصديق الافتراضي"، الذي يرافقهم بصمت خلال تحديات الحياة.

أظهر تقرير جديد أصدرته منصة "هيمالايا" للمشاركة الصوتية وشركاؤها لعام 2024، أن 2ر76% من مستمعي البودكاست يقضون أكثر من نصف ساعة يوميا في الاستماع إلى البودكاستات.

وفي الجانب الإبداعي، يهيمن على صناعة البودكاست شباب متخصصون متحمسون، حيث أن 60% من البرامج ترتبط مباشرة بمجالات عملهم الأساسية. أطلقت الفنانة الشابة وانغ دا مياو، برنامج بودكاست "الفن أثناء التنقل"، وهو سلسلة حوارات مسجلة خلال تنقلاتها مع شريكها، المؤسس المشارك لـ"أستوديو نانو" للتصميم. قالت وانغ: "نهدف إلى مشاركة شرارات الإبداع من رحلتنا الفنية وريادة الأعمال، واستكشاف المناطق المتداخلة بين الفن بالتكنولوجيا، وإبراز تلك اللحظات الإنسانية البسيطة في حياتنا اليومية." وشرحت عملية الإنتاج قائلة: "قد نناقش لساعات كيفية معالجة موضوع فني. ومع حرصنا على وقت المستمع، نحاول ألا تتجاوز الحلقة ستين دقيقة، مما يتطلب اختزال الأفكار بصرامة. عملية التسجيل نفسها مليئة بالتحديات، من أعطال الميكروفون المفاجئة إلى الضوضاء التي تفسد اللحظات المثالية، مما يضطرنا لإعادة التسجيل بكل إرهاق، لكن النسخة الجديدة غالبا ما تفتقد عفوية الأولى." وتختتم بقناعة: "رغم كل هذا، فإن التواصل الحقيقي مع مستمعين يتشاركون معنا نفس الاهتمامات يجعل كل هذا الجهد يستحق العناء."

تعميق الارتباط

سعيا لتعميق الصلة مع جمهورهم، يتجه صانعو البودكاست بشكل متزايد نحو اللقاءات الواقعية، محولين التفاعلات الرقمية إلى موائد حميمية تُذكّر بجمع الأصحاب. في التاسع عشر من أكتوبر 2024، أطلق تطبيق "شياويويتشو" (الكون الصغير)، المنصة الصينية الرائدة للبودكاست التي أطلقت في مارس 2020 وحققت انتشارا سريعا. كانت أول فعالية ضخمة على أرض الواقع بعنوان "يوم ملحمة البودكاست 2024" في تجمع كولومبيا بشانغهاي، ذلك الفضاء الحيوي الذي يجمع بين الثقافة والترفيه والحياة اليومية. جمعت هذه التجربة الفريدة بين جلسات حوارية وملتقيات مع المبدعين، إلى جانب معارض تفاعلية غامرة وأسواق منتقاة. وقد استقطب هذا الحدث التاريخي أكثر من خمسمائة مبدع محتوى، ومائة وخمسين شريكا تجاريا، وستين وسيلة إعلامية، مع حضور تجاوز عشرين ألف زائر.

علّق أحد مستخدمي منصة "ريد نوت" الذي شارك في الفعالية على صفحته: "البودكاستات التي ترافقنا هي كواكب في سماء حياتنا، ها نحن ننتقل أخيرا من العالم الافتراضي إلى الواقع، لنتجول جنبا إلى جنب مع كوكبنا الخاص، نخلق معا أصداء تتردد في الفضاء."

استكشاف التسويق التجاري

في المشهد العام، تشير بيانات شركة "آي ميديا ريسيرش" إلى نمو الاقتصاد السمعي في الصين بنسبة 2ر10% خلال عام 2024، ليصل حجمه إلى 82ر568 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات تقريبا حاليا)، مع توقعات بتجاوزه 740 مليار يوان بحلول عام 2029.

رغم ذلك، يواجه صناع المحتوى تحديات كبيرة في تحقيق دخل مستدام، حتى أولئك الذين يتمتعون بقاعدة جماهيرية واسعة. يعمل 80% منهم بدوام جزئي، حيث تواجههم صعوبات في التحول التجاري رغم انتظامهم في النشر وحجم التفاعل الكبير. وقد برزت البودكاستات المدفوعة والإعلانات كأبرز مسارين للربح، وحقق بعض الصناع نجاحا ملحوظا فيهما.

كشف تقرير "هيمالايا" لصناعة البودكاست 2024، أن 9ر45% من المستخدمين الذين شملهم الاستطلاع اشتروا برامج بودكاست مدفوعة خلال العام السابق، وأن و6ر63% من المستخدمين يتبنون موقفا إيجابيا تجاه إعلانات البودكاست.

قال لو دي: "بكل ترحاب أدفع ستة يوانات لكل حلقة من الحلقات الخاصة من برنامجي الموسيقي المفضل، فالجهد المبذول في إنتاج الحلقة الواحدة هائل. السعر معقول، كما أن ساعة من المحتوى المتقن تستحق هذه القيمة بجدارة."

الجانب المشرق يتمثل في تزايد الوضوح للإمكانات التجارية للقطاع، حيث يشهد التعاون مع العلامات التجارية تصاعدا ملحوظا. وفق بيانات "هيمالايا": في عام 2024، تعاونت قرابة مائة علامة تجارية مع منصات البودكاست، ورعت حوالي ألف برنامج، مع زيادة في استثمارات العلامات التجارية بنسبة 74%، وزيادة عدد البرامج المشاركة بنسبة 172% على أساس سنوي.

إلى جانب نماذج الاشتراكات المدفوعة ومساحات الإعلان، تبرز "البودكاستات التجارية" كإستراتيجية محورية لتحقيق الربح. حيث تصمم العلامات التجارية برامج مخصصة تروي قصصها بعمق، مما يعزز روابطها مع المستهلكين.

بعد اختتام الموسم السادس على منصة "شياويويتشو"، تعزز تأثير برنامج "GIADA Herstory (جيادا.. قصتها)" بين جمهورها من النساء. هذا البرنامج الذي أطلقته دار الأزياء الفاخرة الإيطالية "جيادا" موجه للنساء الناضجات فكريا، وقد حظي بدعم مقدمة البرامج الصينية الشهيرة تشن لو يوي. الجدير بالذكر أن علامة "جيادا" قد تجاوزت نهج المشاهير التقليدي والإعلانات المباشرة، وشرعت في إنتاج سلسلة بودكاست فريدة. يقدم البرنامج حوارات حميمية بين المذيعة الشهيرة ونساء صينيات رائدات من مختلف المجالات المهنية. وبعد ثلاث سنوات من الإنتاج، تجاوز عدد مشتركي البرنامج 07ر1 مليون على منصة "شياويويتشو"، وأصبح أكبر بودكاست تجاري ناطق بالصينية في العالم. يترك البرنامج انطباعا بالعمق الفكري والأسلوب الهادئ لدى المستمعين، حيث تقدم تشن لو يوي في كل حلقة حوارات مع نساء من مجالات الأدب والسينما والفنون والمسرح، حيث يدور نقاش ثري حول الأنوثة الواعية من خلال تحليل الأعمال الأدبية واللوحات الفنية والعروض المسرحية. تتجسد في سرديات "قصتها" قيم علامة "جيادا" المتمثلة في البساطة والحداثة والأناقة. كما جاء في المقدمة الموسيقية لكل حلقة: "نناقش الفن لاكتشاف ذواتنا عبر الحوار، ونناقش المرأة لتتجاوز أصواتها الضوء وصولا إلى الروح." وهكذا نجحت العلامة التجارية التي نشأت في ميلان الإيطالية، في دخول التيار الرئيسي الصيني متجاوزة أساليب الإعلان التقليدية.

رغم أن إيرادات سوق إعلانات البودكاست الصيني بلغت 3ر3 مليارات يوان في عام 2024 حسب تقرير شركة "ستاتيستا"، فإنها قيمة ضئيلة مقارنة بمنصات مقاطع الفيديو القصيرة. بيد أن صناع المحتوى، ومنهم وانغ دا مياو، يرون أن وتيرة التحول التجاري تتسارع مع توسع قاعدة المستمعين.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4