في أعماق الظلال الوافرة داخل حرم جامعة نانجينغ، حاضرة مقاطعة جيانغسو، تنتصب بناية عتيقة على الطراز الألماني مشيدة بالقرميد الرمادي من طابقين. هذه هي الفيلا التي كان يسكنها جون رابي، الممثل العام لشركة سيمنز الألمانية في الصين. صارت الفيلا متحفا تذكاريا للسيد رابي.
في وسط فناء المتحف، تمثال برونزي لجون رابي، بنظرة هادئة لكنها مفعمة بالعزم. كان هذا الفناء المتدثر في ضجيج المدينة، ملاذا آمنا لعدد كبير من المواطنين الصينيين أثناء احتلال القوات اليابانية الغازية لنانجينغ في عام 1937. وما زال ملجأ الحماية من الغارات الجوية الذي بناه رابي بيديه قائما في زاوية الفناء، شاهدا صامتا على تلك الأيام العصيبة. في هذه الفيلا، دون جون رابي مذكراته التي عرفت لاحقا بـ((يوميات جون رابي))، والتي هزت ضمير العالم كله وأصبحت أقوى شهادة على فظائع مذبحة نانجينغ.
بعد أكثر من ثمانين سنة، ما زالت هذه الفيلا الصغيرة التي تبدو عادية في ظاهرها، تجذب الزوار من أماكن مختلفة في العالم. وبين الحشود المتدفقة من الزائرين، يلفت الأنظار بشكل خاص عجوز ألماني، إنه السيد توماس رابي، حفيد جون رابي، والأستاذ الفخري بجامعة هايدلبرغ في ألمانيا، ورئيس مركز جون رابي العالمي للتبادل. يأتي إلى هنا دائما منذ افتتاح مسكن جون رابي القديم للجمهور في عام 2006. على خطى جده، حمل إرادته الحية، فانبرى يروي لجماهير أوسع تاريخ الإنقاذ الإنساني. لا يكتفي بالكلمات، بل يجسد روح جده من خلال الأعمال الملموسة، كما يسهم بنشاط في تعزيز التعاون والتبادل بين الصين وألمانيا في المجالات الإنسانية والطبية وغيرهما، ليظهر روح الجد رابي بألق جديد.
"عدم التخلي عن الصينيين الذين ألمت بهم المحن كان واجبا لا مفر منه"
حين رحل الجد، لم يكن توماس رابي قد ولد بعد، ولذلك نشأ طفلا لا يعرف إلا القليل عن تجارب جده في الصين. أما والده، أوتو رابي، فقد ولد في الصين وقضى سنوات الصبا السعيدة بين ربوعها قبل أن يعود إلى ألمانيا ليتابع دراسته. في طفولته، سمع توماس من أبيه حكاياته عن حياته في الصين وعن القصص الثقافية الصينية، لكن الأب نادرا ما كان يتطرق إلى أهوال الحرب. لم يدرك توماس الصورة الكاملة لتلك الحقبة إلا عندما أصبح طالبا في كلية الطب، حيث أتيح له أن يطلع على يوميات جده. قال: "حتى اليوم، ما زلت أستحضر بوضوح اللحظة التي قرأت فيها لأول مرة مذكرات جدي عن مذبحة نانجينغ." عندما شرع توماس، البالغ من العمر أربعة وسبعين عاما، في استعادة تلك الذكريات، بات كلامه أبطأ وأقرب إلى السرد الهادئ، فيما لمعت في عينيه دموع عاطفية.
في عام 1908، وطأت قدما الشاب جون رابِي أرض الصين للمرة الأولى. عاش في مدن متعددة، منها بكين وتيانجين ونانجينغ، فأحبها، بل واتخذها موطنا فتزوج وأنجب. استعاد توماس ذكريات جده قائلا: "عشية سقوط نانجينغ عام 1937، نصحه الجميع بالرحيل، غير أن جدي اختار البقاء. لقد كان يؤمن بأن هذا البلد وشعبه قد تعاملا معه بالود والاحترام طوال سنوات، ولذلك اعتبر أن عدم التخلي عن الصينيين الذين ألمت بهم المحن كان واجبا لا مفر منه."
تحت دوي قصف الطائرات اليابانية، تعاون جون رابي مع ما يزيد على عشرة أصدقاء من دول مختلفة لتأسيس "اللجنة الدولية للمنطقة الآمنة في نانجينغ"، وتولى رئاستها. وفي خضم الفوضى، حددوا منطقة محايدة مساحتها أربعة كيلومترات مربعة، وأقاموا فيها خمسة وعشرين مأوى للاجئين، فأنقذوا ما يقارب 250 ألف صيني من المجزرة المروعة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد تحولت دار رابي نفسها إلى ملاذ آمن، حيث آوى في منزله وحديقته والمدرسة الألمانية المجاورة أكثر من ستمائة مدني تقطعت بهم السبل. بشجاعة لافتة، غير آبه بالخطر المحدق به، سعى جون رابي إلى تأمين التبرعات والمواد الغذائية والأدوية وكل ما احتاجه الناجون للبقاء. ومنذ ذلك الحين، أطلق عليه أهل نانجينغ لقبهم الأكثر دفئا وصدقا "هوبوسا" بمعنى "بوديساتفا الحي"؛ وهو لقب شرقي عميق الدلالة، عبروا به عن امتنانهم للتاجر الألماني الإنساني والرحيم.
قال توماس: "سجل جدي، بكل الصرامة والدقة اللتين يتميز بهما الألمان، فظائع القوات اليابانية، في أكثر من ألفي صفحة من اليوميات ومئات الصور الفوتوغرافية." وأضاف، أن الأفعال القاسية من قبل القوات اليابانية صدمته بشدة، لكن ما يملأ قلبه فخرا أعمق هو شجاعة جده الذي ظل يحمي المدنيين وسط أهوال الحرب.
"تحمل المسؤولية التاريخية الواردة في يوميات جدي ونقلها، رسالتي الخاصة التي أتشرف بأدائها"
قال توماس: "ظلت بطولات جدي الإنسانية خلال مذبحة نانجينغ حجر الأساس لروح عائلتنا. أما تحمل المسؤولية التاريخية الواردة في يوميات جدي ونقلها، فتلك هي رسالتي الخاصة التي أتشرف بأدائها." تشبه هذه الرسالة أواصر غير مرئية تربط عائلة رابي الألمانية بالصين بعمق. وأضاف: "قبل رحيله، سلم جدي ((يوميات جون رابي)) وجميع الوثائق التاريخية المرتبطة بها إلى والدي، ثم انتقلت إلي لاحقا." يرى توماس أن لهذه المواد الثمينة دلالة خاصة وعميقة بالنسبة للصين. في عام 2016، قرر التبرع رسميا بمخطوطة الجزء الخاص بنانجينغ من اليوميات إلى الأرشيف المركزي الصيني. واليوم، أُدرجت هذه المخطوطة ضمن "سجل ذاكرة العالم" التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتصبح واحدة من أدق وأشمل الوثائق التاريخية التي توثق مذبحة نانجينغ.
قال توماس بصراحة: "لا أحد يستطيع محو الحقائق التاريخية، فيجب على كل واحد منا مواجهة التاريخ بمنظور صحيح والتعلم منه. لو أن اليابان اعترفت بتلك الحقبة واعتذرت، لكان ذلك أساسا لمصالحة حقيقية وغفران متبادل، وحينها أشعر بارتياح عميق وإذا تحقق ذلك، فإن عائلتي ستنجز الهدف الذي سعت إليه دوما، وهو بالتأكيد أمنية جدي الكبرى."
انطلاقا من هذا الإيمان، شرع توماس مع زوجته منذ عام 2005 في تأسيس ستة مراكز دولية للتبادل تحمل اسم جون رابي، في ألمانيا ورومانيا وأسبانيا والصين. لم تنشأ هذه المراكز لحفظ الأرشيف التاريخي فحسب، وإنما أيضا لتكون منصات للتواصل المباشر مع الجمهور من خلال المعارض والمحاضرات، حيث تروى مأساة مذبحة نانجينغ وتستعاد قصص الأصدقاء الدوليين الذين تمسكوا بالعدالة وساهموا في إنقاذ اللاجئين وضحايا الحرب. وهكذا غدت هذه المراكز منارات لإبراز الروح الإنسانية التي جسدها جون رابي ولتأكيد حضورها المستمر عبر الأجيال.
لخص توماس الصفات الجوهرية لروح جده في الشجاعة والمحبة والسعي إلى السلام. وفي زمن تتفاقم فيه الصراعات والانقسامات، شدد على الأهمية البالغة لنقل هذه الروح إلى أجيال الشباب في العالم. من أجل ذلك، كرس عشر سنوات من جهده لكتابة كتاب بعنوان ((رابي والصين)). فهو ليس مجرد سيرة عن جده جون رابي وحياته في الصين على مدى ثلاثين عاما، بل هو أيضا كتاب يهدف إلى ترسيخ الصداقة الممتدة بين عائلته والشعب الصيني. ومن الجدير بالذكر أن جميع عائدات حقوق طبع هذا الكتاب مخصصة لدعم الأعمال الإنسانية.
ينظر إلى توماس رابي في الصين باحترام كبير بصفته "حفيد رابي"، بينما يعد في الأوساط الطبية الألمانية خبيرا دوليا مرموقا في علم الغدد الصماء النسائية. لقد أمضى ما يقارب أربعة عقود في مستشفى جامعة هايدلبرغ للنساء والتوليد، حيث قدم إسهامات بارزة في مجال الغدد الصماء النسائية وطب الإنجاب.
في عام 2013، وبتوصية من زملائه، انضم توماس إلى الفريق الدولي للبروفيسور روان شيانغ يان، أخصائية الغدد الصماء وطب الإنجاب في مستشفى بكين للنساء والتوليد التابع لجامعة العاصمة الطبية في بكين. ومن هنا، بدأ فصل جديد من التعاون الطبي بين الصين وألمانيا. وفي مواجهة التحدي العالمي لحماية الخصوبة للمريضات المصابات بالسرطان، قدم توماس خبراته البحثية على مدى سنوات، وساهم بذلك في تمكين الفريق الصيني من تحقيق العديد من الإنجازات الرائدة. فقد أجرى الفريق أول عملية زراعة نسيج مبيض مجمد في الصين، تلت ذلك أول حالة حمل طبيعي بعد الزراعة، ثم أول ولادة لطفل سليم بعد زراعة النسيج، وهي ثلاثة إنجازات تاريخية في مجال طب الإنجاب في الصين، مما دفع الصين إلى الصفوف الأمامية عالميا في هذا المجال.
"الصين.. ’الوطن الثاني‘ لعائلة رابي"
قال توماس رابي مرارا في مقابلاته: "الشعب الصيني يحيي ذكرى جون رابي لأنه كان يحمل حبا عظيما للحياة وسعيا دائما من أجل السلام." وهو يرى أن ما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ بشأن جون رابي يجسد أعلى درجة تقدير يعبر بها الشعب الصيني والحكومة الصينية عن الاحترام لجده. وأضاف أنه يشعر بفخر عميق لأن الشعب الصيني لم ينس أبدا ما قدمه جده ولا ما بذلت عائلته.
بالنسبة لتوماس، ترافقه مشاعر امتنان الشعب الصيني وتقديره النابع من التاريخ على الدوام. في عام 2015، منحته الصين ميدالية الذكرى السنوية السبعين للانتصار في حرب مقاومة الشعب الصيني ضد العدوان الياباني في بكين، ثم نال في عام 2018 جائزة الصداقة من الحكومة الصينية، وهي أعلى تقدير تقدمه الصين للخبراء الأجانب العاملين فيها. وفي عام 2025، اعتلى مجددا منصة التكريم بحصوله على جائزة "سفير الصداقة" ضمن الدورة الثانية لـ"جوائز الأوركيد"، تأكيدا لمكانته كجسر متين للصداقة بين الشعوب.
قال توماس بصدق عميق وقد اشتعل رأسه شيبا، إن هذه الجائزة ليست مجرد مكافأة شخصية له، بل هي تكريم للتعاون الممتد بين عائلته والصين عبر أربعة أجيال وطوال مائة وسبعة عشر عاما. ظل أفراد عائلة رابي يعدون الصين "الوطن الثاني" لهم. واليوم، تتواصل الأواصر العميقة بين عائلة رابي والصين في الجيل الجديد. ابن توماس، ماكسيميليان رابي، لا يتكلم اللغة الصينية بطلاقة فحسب، وإنما أيضا يتحمل مسؤولية العائلة في متابعة أعمال مراكز رابي الدولية للتبادل، مواصلا حمل رسالة الروح الإنسانية.
يوافق هذا العام الذكرى السنوية الثمانين للانتصار في حرب مقاومة الشعب الصيني ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية. ويرى توماس أن الإرث الروحي الذي خلفه جده ما زال متجددا لا يخبو بمرور الزمن. قال: "السلام يحتاج إلى جهود جميع الناس لحمايته، وأمام الظلم لا يجوز لهم أن يقفوا متفرجين، بل عليهم أن يمدوا يد العون، حتى وإن كان ما يستطيعون تقديمه ضئيلا."