ملف العدد < الرئيسية

البحث عن ركائز السلام في أعماق التاريخ

: مشاركة
2025-09-15 12:24:00 الصين اليوم:Source ليو تشنغ:Author

في مسيرة التاريخ البشري، ظل شبح الحرب قائما لا يفارقنا. لكن حتى في أحلك اللحظات، كان نور الإنسانية يخترق الظلام كالنجم الهادي. سواء كان ذلك في إنقاذ صيادي تشوشان للأسرى البريطانيين من السفينة "ليسبون مارو" خلال الحرب العالمية الثانية، أو شجاعة جون رابي في حماية المواطنين الصينيين خلال مذبحة نانجينغ، لم تكن هذه الأعمال الخيرية التي تجاوزت الحدود والمواقف مجرد ومضات شجاعة فردية أو فصولا من التاريخ، بل تجسيدا حيا لعمق الإنسانية والحقيقة الجوهرية للسلام. إن حجر الأساس للسلام يكمن في التعاضد الإنساني الذي يتخطى كل الحدود.

بريق الإنسانية المتجاوز للحدود

في المواقف التاريخية القاسية، تظهر حقيقة الطبيعة البشرية بأوضح صورها. في عام 1942، غرقت السفينة اليابانية "ليسبون مارو" بالقرب من جزر تشوشان، تاركة قرابة ألفي أسير حرب بريطاني يواجهون الموت المحقق. رغم المخاطر التي كانت تهددهم في ذلك الوقت العصيب، خاطر صيادو المنطقة بحياتهم وأنقذوا 384 جنديا بريطانيا تحت نيران القوات اليابانية. لم تكن دوافعهم سياسية أو نفعية، بل نابعة من أعمق قيم الإنسانية؛ احترام الحياة والتعاطف مع المعاناة. تجاوز هؤلاء الصيادون قسوة الحرب، مجسدين أسمى معاني الطيبة البشرية التي لا تعرف حدود الجنسية أو العرق أو الانتماء السياسي.

وبنفس الروح، خلال مذبحة نانجينغ المروعة في الحرب العالمية الثانية، قام التاجر الألماني جون رابي بتشكيل "منطقة آمنة في نانجينغ"، أنقذ فيها حوالي 250 ألف مواطن صيني. كما دون بمذكراته الشهيرة تفاصيل الفظائع اليابانية، لتصبح وثيقة تاريخية لا تقبل الجدل. لقد تجاوزت أفعال رابي كل الحواجز السياسية والأيديولوجية الضيقة. كان بإمكانه أن يظل في مأمن بعيدا عن الخطر، لكن نداء ضميره وإيمانه الراسخ بقيمة الحياة دفعاه لاتخاذ ذلك القرار الشجاع. فـ"شجاعته المدنية" لم تكن مجرد مبادرة فردية، بل كانت حصنا منيعا مدافعا عن الثوابت الأخلاقية للإنسانية جمعاء. إن القيمة الحقيقية للشجاعة لا تقاس بقدرات المقاومة الجسيمة التي يمتلكها الفرد أو الجماعة، بل تكمن في تلك اللحظة المصيرية التي يختار فيها المرء، رغم علمه بتباين موازين القوى، أن يقف صامدا في وجه العاصفة، مدافعا عن صوت الضمير ومبادئ العدالة.

مجتمع المشاعر المشترك العابر للزمان والمكان

الأعمال الخيرية العظيمة ليست أبدا عطاء من طرف واحد، بل تتردد أصداؤها عبر نهر الزمن، لتبني مجتمع المشاعر المشترك المتين. في حادثة السفينة "ليسبون مارو"، غرس سلوك الصيادين المنقذ بذور الامتنان في قلوب الناجين. وبعد عقود من الزمن، قام الأسرى البريطانيون الناجون وأحفادهم برحلة شكر عبروا فيها المحيط للقاء أحفاد أولئك الصيادين الصينيين. هذا "التواصل المتبادل" الممتد لثمانين عاما جعل المنقَذين والمنقِذين حراسا مشتركين للتاريخ. لقد أنقذت مبادرة الصيادين الشجاعة الأرواح في لحظات الخطر، بينما صار شُكر أحفاد الناجين جسرا يربط بين شعبين. يظهر هذا بوضوح كيف يمكن للتعاضد البشري والامتنان أن يتجاوزا حدود الزمان والمكان، ليصبحا قوة دافعة ودائمة للسلام.

لقد ترك عمل جون رابي الإنساني أيضا تأثيرا عميقا على العلاقات الصينية- الألمانية. فقد واصل أحفاده، ولا سيما حفيده توماس رابي، العمل بنشاط لنشر مذكرات جده وتعزيز التبادلات الطبية بين الصين وألمانيا. لم يكن هذا مجرد إرث عائلي، بل كان أيضا دافعا إيجابيا للصداقة بين البلدين. في الصين، انتشرت قصة جون رابي على نطاق واسع، وتحول امتنان الشعب إلى تطلعات ودعم للعلاقات الصينية- الألمانية الودية. هذا التفاعل الإيجابي المتبادل رفع من مستوى الأعمال الخيرية الفردية لرابي لتصبح رمزا للتبادل الثقافي والتعاون الودي بين البلدين، مما يعزز باستمرار التفاهم المتبادل والاحترام بين الشعبين.

السلام موجود في الأفعال

السلام ليس مجرد غياب الحرب فحسب، بل هو أيضا بناء مستمر للعدالة والتعاطف. في مبادرة رابي بإنشاء منطقة آمنة في نانجينغ، حيث قام ببناء حاجز للأرواح في زمن الحرب بضمير شخصي؛ وإنقاذ صيادي تشوشان للجنود البريطانيين المحاصرين على ضفة الموت بجهودهم الشاقة، كلاهما من الأمثلة التي تؤكد على الفكرة العميقة: "السلام موجود في الأفعال". كل تكريم للحياة، وكل مساعدة تتجاوز الحدود، يعد بذرة لسلام دائم.

فيما يخص الجوهر الحقيقي للمجتمع البشري، يبرز سؤال جوهري: هل تقوم العلاقات الإنسانية على مبدأ "حرب الكل ضد الكل" (كما وصفها الفيلسوف السياسي البريطاني الشهير في القرن السابع عشر توماس هوبز بـ"علاقة الذئاب") وقانون الغاب، أم أنها تبنى على التعاون والتضامن؟ تقدم حادثة "ليسبون مارو" و((يوميات جون رابي)) أدلة تاريخية دامغة لنظرية التعاضد. فهذه الوقائع تثبت أن قدرة البشرية على الصمود والتطور في خضم الصراع من أجل البقاء، تعود في الأساس إلى مهارتها في التعاون المتبادل. إن التعاضد هو نتاج تراكمي للممارسة الحياتية، مما يعني أن حياتنا، في جوهرها، تبنى على التعاون الخالي من العنف، وليس على الصراع الدموي (كالحروب).

في صميم الثقافة الإنسانية وأعماق الوجدان البشري، يتجذر شغف جامح بالوحدة وبناء المجتمع المشترك. تنبثق هذه الوحدة المتآخية من المصالح المشتركة والتفاهم المتبادل، لتتسم بالتسامح والقبول المتبادلين، وتتوج أخيرا بالتواصل الحضاري. ويمثل "مجتمع المستقبل المشترك للبشرية" الذروة المتطورة لهذا الرباط السلمي. تكشف قصص التعاضد بين صيادي تشوشان والأسرى البريطانيين، وبين رابي والمواطنين الصينيين، تكشف عن حقيقة جوهرية: لا ينحصر الإنسان في الأنانية والتنافس، بل يشكل التعاون مكونا أصيلا في فطرته. هذه الروح التكافلية التي تتخطى الفرد والعرق والحدود الوطنية، هي حجر الزاوية في تقدم البشرية وتحقيق السلام.

هذه القصص المؤثرة هي تجليات للإنسانية في ظل حرب قاسية، ونقل لروح التضامن عبر الزمان والمكان. كما أنها تشكل أفضل مادة للتربية على السلام في عصرنا، حيث تجسد بحيوية "ثقافة السلام" التي دعت إليها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وهي منظومة من القيم والمواقف وأنماط العيش القائمة على الاحترام والتسامح والتفاهم والتضامن. فالتربية على السلام تحولية في جوهرها، تهدف إلى تنمية المعارف والمهارات والقيم التي تمكننا من استبدال الصراع بالحوار والتعاون.

لا يزال عالمنا اليوم يواجه تحديات ونزاعات متعددة، حيث لم يتبدد بعد شبح الحرب تماما. تذكرنا هذه القصص التاريخية دوما أن الخير والتعاون المتأصلين في الطبيعة البشرية هما كنزنا الثمين للتغلب على المصاعب وتحقيق السلام. علينا أن نستلهم العبر من هذه القصص، فنعلي من قيمة الحياة ونهتم ببعضنا البعض ونعزز روح التضامن، ونعمل بجهد جماعي على تشييد عالم أكثر سلاما وازدهارا. هكذا يبقى نور الإنسانية ساطعا عبر الأجيال، منيرا درب البشرية نحو مستقبل أفضل.

--

ليو تشنغ، أستاذ بكلية التاريخ في جامعة نانجينغ، ورئيس كرسي اليونسكو لدراسات السلام في الجامعة.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4