في العشرين من مايو عام 2025، وصل 18 من أحفاد الأسرى البريطانيين الناجين من حادثة السفينة "ليسبون مارو" إلى جزيرة دونغجي بمقاطعة تشجيانغ في شرقي الصين، بعد رحلة بحرية طويلة. التقوا هناك بأحفاد الصيادين المحليين الذين أنقذوا أسلافهم قبل ثلاثة وثمانين عاما، حيث رفعوا معا الستار عن نصب تذكاري أقيم تخليدا للبطولات الاستثنائية لأولئك الصيادين. يحمل النصب التذكاري في وسطه نقشا باللغتين الصينية والإنجليزية يقول: "المحبة لا تعرف حدودا، والصداقة خالدة".
قبل ثلاثة وثمانين عاما، استخدم الجيش الياباني سفينة الشحن "ليسبون مارو" لنقل أكثر من ألف وثمانمائة أسير حرب بريطاني من هونغ كونغ إلى اليابان، حيث تم حبسهم في قاع السفينة المظلم. وعندما دخلت السفينة مياه جزيرة دونغجي، تعرضت لهجوم بطوربيد من غواصة أمريكية. وقد وقع هذا الهجوم لأن القوات اليابانية- على خلاف الأعراف الدولية- لم ترفع العلم المحدد للسفن المحملة بالأسرى. تضرر هيكل السفينة وبدأت تغرق بسرعة، لتتحول المشاهد إلى مأساة مروعة: فقد أكثر من ثمانمائة جندي بريطاني حياتهم غرقا تحت الأمواج، أو برصاص القوات اليابانية أثناء محاولتهم الفرار.
وسط الفوضى والعاصفة، انطلق صيادو جزيرة دونغجي القريبة بلا تردد نحو الخطر، مقدمين يد العون. استخدموا كل قارب متاح، كبيرا كان أم صغيرا، وتحدوا الأمواج الهائجة وأنقذوا ثلاثمائة وأربعة وثمانين أسير حرب كانوا يتشبثون بالحياة. هذا النصب التذكاري سيظل شاهدا أبديا على بطولتهم. يتخذ النصب شكل يدين متشابكتين بإحكام. قالت وو شياو فيْ، وهي إحدى أحفاد المنقذين: "لا ترمز هاتان اليدان إلى إنقاذ الصيادين للأسرى فحسب، وإنما أيضا تمثلان الرابطة الأبدية بين الصين وبريطانيا." يمثل هذا النصب لأحفاد الطرفين، دليلا قويا على أنه حتى الحرب لا تستطع قطع أواصر الخير في الإنسانية، وقد وثقت تلك الروابط عرى اللقاء الأول بين عائلاتهم عبر الأجيال.
قوة يد العون
يترعرع كل طفل من أبناء جزيرة دونغجي، على حكاية إنقاذ "ليسبون مارو"؛ تلك القصة التي تخاطب الوجدان عن شجاعة استثنائية وإنسانية والتي تتوارثها الأجيال. وبالنسبة لكل من وو شياو فيْ وليانغ ين دي، تحمل هذه الملحمة قيمة شخصية عميقة، كان جد كل منهما من الصيادين الذين خاطروا بأرواحهم لإنقاذ الأسرى البريطانيين.
لقد جسدت عملية الإنقاذ هذه روحا استثنائية من الشجاعة. تتذكر ليانغ ين دي كيف أن جدها وإخوته، فور سماعهم نداء الاستغاثة، اندفعوا بقواربهم الصغيرة نحو البحر الهائج. قالت: "أبحروا بقاربين في أربع رحلات متتالية، أنقذوا خلالها ستة وعشرين أسيرا. واستمروا في مهمتهم حتى هدأت الأمواج وعادت السكينة إلى البحر." لكن المخاطر لم تنته بعملية الإنقاذ. فمن أجل إخفاء الأسرى من تفتيش القوات اليابانية المتواصل، اختبأ ثلاثة جنود في كهف جبلي ناء يعرف باسم "كهف الأطفال".
قدم سكان الجزيرة بلا تردد كل ما يملكون للناجين. قالت ليانغ ين دي: "قدمت جدتي القطعة الوحيدة من ملابس الغيار في المنزل للأسرى." وجمع القرويون البطاطا الحلوة والأرز لطهي عصيدة للأسرى الجوعى. وعندما نفدت الملابس، فتش الصيادون في منازلهم حتى عثروا على قطع ثمينة من القماش المحلي الأزرق. وبإبر خياطة خشنة غليظة، شرعوا في حياكة ملابس مؤقتة بسرعة مذهلة. تأثر الجنود البريطانيون بعمق. بينما كانوا يتسلمون هذه الملابس البسيطة المحاكة بأثمن الأقمشة، لم يتمالك بعضهم دموعهم.
رغم حواجز اللغة، تتجاوز المشاعر الإنسانية كل اختلاف. قالت ليانغ ين دي بتأثر: "تخيلوا أن هذه الجزيرة الصغيرة استقبلت فجأة كل هؤلاء الناجين من البحر، كان يمكن أن يكون الأمر مرعبا. لكن لم يتردد أحد. المحبة تذيب كل خوف".
رحل آخر المنقذين عام 2020، كما رحل كل الأسرى الناجين. لكن إرثهم الخالد باق. باستذكار ذلك اليوم المصيري، قالت وو شياو فيْ: "هذه القصة تتحدث عن الحرب، لكن الأهم أنها تحكي عن أناس عاديين أنقذوا إخوتهم في الإنسانية."
توارث قيم الإنقاذ
وُلدت ليانغ ين دي عام 1968، وعملت في المركز الثقافي لبلدة دونغجي لمدة أربعين عاما تقريبا. وهي تعمل كمرشدة متطوعة في متحف دونغجي للتاريخ والثقافة منذ افتتاحه في عام 2009. يضم الطابق الثاني من المتحف المعرض الدائم الوحيد في الصين المخصص لحادثة السفينة "ليسبون مارو".
رغم التحديات الكبيرة لبناء متحف في جزيرة نائية مثل دونغجي، تمكنت الحكومة المحلية من تجاوز الصعاب وإنجاز هذا الصرح. لا يمثل المتحف تكريما لبطولة الصيادين فحسب، وإنما أيضا يشهد على القيم الإنسانية العالمية التي تجلت خلال تلك الأحداث الاستثنائية: الشجاعة والإنسانية والتضامن الدولي. منذ افتتاحه، استقبل المتحف تدفقا متواصلا من الزوار من داخل الصين وخارجها، حيث أصبح جسرا حيا للذاكرة التاريخية والتواصل الإنساني.
قالت ليانغ ين دي: "نشأت وأنا أسمع هذه القصة منذ طفولتي، ثم التحقت بالعمل في المركز الثقافي، والآن أتشرف بإدارة هذا المعرض التذكاري. أستثمر في هذا العمل مشاعر شخصية عميقة. بالنسبة لي، لم يعد مجرد وظيفة، بل أصبح قضية ذات معنى أعمق، تستحق كل ما يمكنني تقديمه من محبة وشغف."
يتابع المعرض التذكاري تطوير أساليب مبتكرة لإحياء هذه الذاكرة. فقد ابتكر فنانون محليون لوحات فنية مستوحاة من موضوع الصيادين، بالإضافة إلى منتجات ثقافية إبداعية. كما توفر الكتب الوثائقية والأفلام التسجيلية المنشورة حديثا تفسيرات فنية أكثر تنوعا. يشارك جيل الشباب أيضا بفاعلية، من خلال إنتاج مقاطع فيديو حول "ليسبون مارو" للمشاركة في المسابقات وإلقاء الخطابات في المدارس، مما يضمن استمرار إحياء هذه الذاكرة عبر الأجيال.
رابطة خالدة تتخطى المحيطات
يواصل أحفاد المنقذين في جزيرة دونغجي إرث "ليسبون مارو" بأساليبهم الفريدة، دافعين بصداقة الصين وبريطانيا إلى آفاق جديدة. شيدت وو شياو فيْ بريشة فنية جسور الصداقة بين البلدين، حيث أعادت أعمالها الحيوية مثل ((إنقاذ ليسبون مارو)) و((محبة لا تعرف حدودا)) تفسير المأساة التي وقعت سنة 1942، من منظور الأمل وليس الظلام.
في عام 2004، أثناء مشاركتهما في دورة تدريبية بمدينة هانغتشو، علمت وو شياو فيْ وليانغ ين دي بأن الجهات الرسمية تبذل جهودا لحماية هذا الإرث التاريخي. ألهمتهما هذه الفكرة، فقررتا استخدام فرشاتهما لجعل العالم يعرف هذه القصة. وبينما قد يختار آخرون الألوان الرمادية القاتمة لتصوير هذا الحدث، فضلت وو شياو فيْ الأزرق اللامع والذهبي المشع. قالت: "لنترك الرعب لعام 1942، اليوم نرسم أمما متحدة وصداقة تتوارثها الأجيال."
تعد لوحتها ((محبة لا تعرف حدودا)) إعادة تصور مبتكرة لجزء من عملها السابق ((إنقاذ ليسبون مارو)). قالت وو شياو فيْ: "هذه الألوان تنقل رسالة مفادها أن الشجاعة أبقى من الحرب." بالنسبة لها، هذه مسؤولية جيل لضمان أن يُحْتفى بالإرث الروحي الحقيقي لـ"ليسبون مارو" بألوان الحياة الزاهية، وليس بمأساة الحداد فقط.
ساعدت الفعاليات التذكارية أيضا في نسج أواصر صداقة شخصية عميقة بين أحفاد الطرفين. في عام 2024، نظمت سفارة الصين في بريطانيا احتفالا بمناسبة "عيد السنة الجديدة الصينية" في غلوسترشاير، التقى خلاله أحفاد الأسرى البريطانيين الناجين وأحفاد صيادي دونغجي. في ذلك اللقاء المؤثر، أنشد الحاضرون معا أغنية "الصداقة خالدة إلى الأبد". وعندما بلغت الأغنية ذروة المشاعر، تلامست أيدي أحفاد الأسرى البريطانيين وعائلات الصيادين في حركة عفوية، فيما عانقت وو شياو فيْ وليانغ ين دي أصدقاءهما البريطانيين بحرارة.
قالت وو شياو فيْ: "انهمرنا في تيار الأغنية العاطفي، فتعانقنا بلطف عفوي. في تلك اللحظة، لم نكن بحاجة إلى كلمات، فقط سلام دافئ مشترك." تحولت هذه المشاعر إلى صداقة حميمة بين وو شياو فيْ وجوان كليمنتس، حفيدة أحد الأسرى البريطانيين الحاضرين، عبر تبادل الرسائل. كتبت جوان كليمنتس في إحداها: "نحن كزائرين تأثرت عائلاتنا مباشرة بحادثة 'ليسبون مارو'، لم نكن ندرك عمق تأثير هذه القصة على أبناء دونغجي. أن يظل حدث منذ اثنتين وثمانين سنة يحمل هذه الأهمية الكبيرة لكم جميعا، هذا أمر يهز المشاعر حقا."
ها هي الصداقة الخالدة بين أحفاد المنقذين والناجين تنتقل الآن إلى أبناء الأحفاد. في آخر مراسم لإحياء هذه الذكرى، اصطحبت جوان كليمنتس ابنها إلى جزيرة دونغجي. هناك، احتضنه بحماسة ابن وو شياو فيْ، الذي أصبح الآن ضابط شرطة، وأجرى معه حديثا وديا. كرمز لقيم السلام المشتركة التي يحميانها معا، قدم ضابط الشرطة الشاب لصديقه البريطاني دمية دب شرطة محشوة، هدية تبدو خفيفة لكنها تحمل دلالة عميقة، تجسد استمرار أواصر الصداقة بينهما.