من بين معروضات متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي، حقيبة يد جميلة تنتظر صاحبها ليأخذها. كانت هذه الحقيبة مملوكة لزوجين من اللاجئين اليهود الذين جاءوا إلى شانغهاي خلال الحرب العالمية الثانية. كان لدى السيد جين، وهو جد السيدة جين ون تشن، متجر حبوب خلال فترة الحرب العالمية الثانية في شانغهاي، حيث كان يعيش بالقرب منه عدد كبير من اللاجئين اليهود، حياة صعبة. كان هؤلاء اللاجئون يأتون إلى متجره لشراء الحبوب بالدين، وكان السيد جين متعاطفا معهم ويلبي احتياجاتهم في كل مرة. في ليلة ممطرة في عام 1940، جاء إلى متجر السيد جين زوجان يهوديان بدا عليهما القلق، إذ كان طفلهما مريضا بشدة، وأرادا اقتراض مبلغ من المال منه. قدم الزوجان للسيد جين حقيبة يد جميلة كرهن، وقالا له إنها شيء ثمين بالنسبة لعائلتهما، وعندما يتوفر لهما المال سوف يستردانها. أقرض السيد جين للزوجين مبلغا من المال يعادل دخل متجره في شهر، ولم يرهما مرة أخرى.
كان السيد جين يفكر في سلامة الزوجين وطفلهما، لذا سلم الحقيبة إلى حفيدته جين ون تشن وأخبرها أنها قطعة ثمينة للغاية لأسرة شخص آخر ويجب المحافظة عليها. في الوقت الحاضر، مع تقدم جين ون تشن في السن، أمست فكرة العثور على صاحب الحقيبة أكثر إلحاحا. أخذت السيدة جين الحقيبة وأهدتها لمتحف اللاجئين اليهود في شانغهاي، على أمل أن تجد أحفاد هذين الزوجين.
يحتضن المتحف الممتد على مساحة أكثر من أربعة آلاف متر مربع، ما يقرب من ألف قطعة أثرية ثمينة ومواد تاريخية تمثل سجلا حيا لقصة أكثر من 160 شخصا، وتعرض بوضوح وصدق مشاهد حياة اللاجئين اليهود الأوروبيين الذين فروا من الاضطهاد النازي إلى شانغهاي، وعاشوا في وئام مع السكان المحليين وتغلبوا على الصعوبات معا في شانغهاي.
تأسس متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي في عام 2007 في الموقع السابق لكنيس موسى، وهو المتحف الوحيد في الصين للآثار التاريخية لحياة اللاجئين اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. بني كنيس موسى في عام 1927، وكان المركز الاجتماعي الرئيسي للاجئين اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وهو أيضا أحد الكنيسين اليهوديين المتبقيين في شانغهاي حتى اليوم.
في الباحة الوسطى للمتحف، ينتصب "جدار أسماء اللاجئين اليهود في شانغهاي" المحفور عليها أسماء 18578 يهوديا جاءوا إلى شانغهاي بحثا عن ملجأ. يأتي إلى الجدار الكثير من اللاجئين اليهود السابقين وأحفادهم للبحث عن أسماء أفراد عائلاتهم وأصدقائهم. صار هذا الجدار جسرا مهما لتواصل المتحف معهم.
نبذة تاريخية عن اللاجئين اليهود في شانغهاي
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، أجبر عدد كبير من اليهود على الفرار من أوروبا هربا من الاضطهاد النازي. بمساعدة خه فنغ شان، القنصل الصيني العام في فيينا، ودبلوماسيين من بعض البلدان الأخرى، أصبحت شانغهاي ملجأ لهم. من عام 1938 إلى عام 1941، جاء إلى شانغهاي حوالي عشرين ألف لاجئ يهودي أوروبي، أغلبهم من دون أقارب أو مال. ومع ذلك، فإن اليهود يتسمون بروح المساعدة الذاتية، ويساعدون بعضهم بعضا في مواجهة المشقات والصعوبات. كما اتخذت الجاليات اليهودية ومنظمات الإغاثة الدولية خطوات لمساعدة اللاجئين اليهود وإغاثتهم وإعادة توطينهم.
بعد استقرارهم بشكل أساسي، بدأ كثير من اللاجئين في تدبير أمورهم بأنفسهم. من بينهم، فتح عدد قليل عياداتهم الخاصة كأطباء، لكن الغالبية العظمى لم يكن بوسعهم كسب لقمة العيش إلا من خلال إدارة المتاجر الصغيرة وورش العمل. ومع استمرار زيادة عدد اللاجئين، لم يكتفوا بإنشاء وكالات إدارة الجمعيات الخاصة بهم فحسب، وإنما أيضا أسسوا مدارس ومستشفيات وصحفا ومجلات يهودية، وأقاموا دورات تدريبية فنية ومهنية متنوعة، وقاموا بمجموعة متنوعة من الأنشطة الثقافية والرياضية.
بعد اندلاع حرب المحيط الهادئ في عام 1941، تغير الوضع في شانغهاي. في 18 فبراير عام 1943، أصدرت قوات الاحتلال اليابانية في شانغهاي "إشعار بشأن الإقامة والأعمال التجارية للاجئين من دون جنسية"، وأنشأت منطقة سكنية محددة للاجئين من دون جنسية، والمعروفة أيضا باسم منطقة العزل، في حي هونغكو بشانغهاي. تم إجبار العديد من اليهود على ترك منازلهم وأعمالهم والانتقال إلى المنطقة السكنية المحددة للاجئين من دون جنسية، ذات الظروف المعيشية الصعبة، مما أدى إلى تدهور حياتهم بشكل كبير. ومع ذلك، خلق اللاجئون اليهود العديد من فرص العمل والأماكن التجارية لتحسين ظروفهم المعيشية بقدرتهم المتميزة وإصرارهم على البقاء على قيد الحياة. بالإضافة إلى ذلك، ساعدوا بعضهم البعض وعملوا مع الصينيين الذين كانوا يعيشون في المنطقة السكنية المحددة للاجئين من دون جنسية، وشكلوا أيضا صداقات عميقة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945، بدأ اللاجئون اليهود في البحث عن أقاربهم ليعرفوا التجربة المأساوية لمن بقي منهم في أوروبا في معسكرات الاعتقال. هم ممتنون كثيرا لشانغهاي كملاذ أنقذهم من يد النازيين، لكن شانغهاي كانت مجرد ملجأ مؤقت، فبعد ذلك هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وكندا وأستراليا ودول أخرى.
على الرغم من أن اللاجئين اليهود غادروا شانغهاي، لا يزالون يشعرون بالامتنان للمكان الذي آواهم، ويعتبرون شانغهاي "الوطن الثاني" لهم، حيث يقيمون بانتظام فعاليات اجتماعية، ويعودون أحيانا للبحث عن جذورهم هنا. اليوم، يتواصل أحفادهم مع متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي لإحياء ذكرى آثار أجدادهم في شانغهاي.
زيارة أحفاد اللاجئين اليهود المتحف
استقبل متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي، منذ إنشائه، أكثر من 5ر1 مليون زائر من 137 دولة ومنطقة، ويمثل السياح الأجانب حوالي 30%. وكنافذة مهمة لأنشطة الشؤون الخارجية، استقبل أيضا العديد من السياسيين والمشاهير الأجانب، بما في ذلك بعض اليهود الذين كانوا لاجئين سابقين وأحفادهم لاستعادة ذكريات تلك الحقبة.
أرييل كوكيرمان، رئيس مجموعة سوبريما الألمانية، وهو ابن لاجئ يهودي، زار متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي في 21 ديسمبر عام 2024. وسبق له أن زار المتحف برفقة والدته بيلا وولف، اللاجئة السابقة في شانغهاي، في عام 2009. تأثر أرييل بشكل عميق بعد أن رأى التغيرات الكبيرة في المتحف الذي كان في السابق مكونا من قاعتين صغيرتين وبه عدد محدود من المعروضات. وقد عبر عن إعجابه بالجهود الكبيرة التي بذلها المتحف على مر السنين في جمع المعروضات وكشف التاريخ، وقال إن والدته حكت له عن تجاربها في شانغهاي، لذا شعر بأن العديد من القصص والصور والأشياء المعروضة مألوفة له. بعد الزيارة، عرض أرييل أمام العاملين بالمتحف فيلما وثائقيا صنعته عائلته للاحتفال بعيد ميلاد والدته الثمانين. في الفيلم، تقول والدته إنها كانت طفلة صغيرة ولم تشعر أن الحياة في شانغهاي كانت صعبة للغاية، والآن تعتقد أن هذه التجربة لا تنسى. قال أرييل إن تجربة والدته في اللجوء إلى شانغهاي منحته دائما عاطفة خاصة وفهما عميقا للصين، كما أنه والشركاء الصينيون مثل شركة أورينت الدولية (القابضة) المحدودة تجمع بينهم مشاعر ودية وتعاون جيد بسبب هذا التاريخ. في وقت لاحق، عاد أرييل إلى ألمانيا ليجد جواز السفر الذي استخدمته والدته في ذلك الوقت، والذي تبرع به للمتحف من خلال شركة أورينت الدولية.
ليلي فليس، وهي لاجئة يهودية سابقة في شانغهاي، عادت إلى حي هونغكو في شانغهاي في 5 نوفمبر عام 2024، برفقة أطفالها الثلاثة، لاستعادة ذكرياتها في هذا "الموطن السابق". جاءت ليلي إلى شانغهاي مع والديها في عام 1939 عندما كانت في العاشرة من عمرها فقط. في عام 1948، غادرت شانغهاي واستقرت في إسرائيل. في عام 2001، عادت ليلي إلى شانغهاي، وبعد أكثر من عشرين عاما، عادت إلى هنا مرة أخرى، حيث زارت المتحف للمرة الأولى. ذهبت ليلي إلى منزلها السابق في حي هونغكو، وأخبرت العاملين بالمتحف عن تجربتها في الفرار من ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية والعيش في شانغهاي، وزارت معظم معروضات المتحف، وبحثت عن أسماء أفراد عائلتها وأصدقائها على "جدار أسماء اللاجئين اليهود في شانغهاي". أمضت في المتحف خمس ساعات، وبرغم أنها كانت في الخامسة والتسعين من العمر، أصرت على عدم استخدام الكرسي المتحرك، لتسير على هذه الأرض الدافئة التي عاشت فيها. في نهاية الزيارة، أعربت ليلي عن امتنانها لمدينة شانغهاي، قائلة: "كنت محظوظة جدا بالقدوم إلى شانغهاي في ذلك الوقت. هذه المدينة أنقذت حياتنا، ولن أنسى أبدا أن هذه المدينة كانت موطني." كتبت في سجل المتحف بالعبرية والألمانية والإنجليزية الكلمات التالية: "عشت في شانغهاي لمدة ثماني سنوات ونصف، ثم انتقلت للعيش في إسرائيل. لقد تركت هذه الزيارة انطباعا عميقا في نفسي. أنا ممتنة جدا لفرصة العودة إلى شانغهاي، والعودة إلى منزلي القديم في حي هونغكو، وزيارة هذا المتحف المثير للإعجاب."
قال تشن جيان، مدير متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي: "عندما أرى مرة بعد مرة اللاجئين اليهود الذين تخطوا التسعين من العمر يأتون إلى حي هونغكو للبحث عن موطنهم السابق، وعندما أتلقى منهم وثائق اللجوء المتعلقة بشانغهاي التي احتفظوا بها لعقود، أعلم جيدا أن شانغهاي هي الجذور والروح التي لا يمكن أن يتخلوا عنها، وأن المحافظة على هذا التاريخ هو حلمهم ورغبتهم المستمرة. هذه ذاكرة للشعب اليهودي لا يمكن محوها، وأيضا جزء من تاريخ مدينة شانغهاي لا يمكن نسيانه. كأحد أبناء هذه المدينة العظيمة، لدينا مسؤولية لتسجيل وحفظ وتوارث هذه التاريخ."
نشاطات تواصل
ينظم المتحف معرضا لمقتنياته بعنوان "اللاجئون اليهود وشانغهاي". منذ عام 2011 حتى الآن، أقيم هذا المعرض في أكثر من عشر دول، منها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإسرائيل وأستراليا والبرازيل، فصار منصة للحوار بين الصين والدول التي يقام فيها المعرض، مما ساهم في تعزيز فهم الناس من خلفيات ثقافية مختلفة لهذا التاريخ المشترك وزيادة الاحترام المتبادل. خلال إقامة المعرض، تعاون المتحف بعمق مع المؤسسات الثقافية المحلية، فقد أقام المعرض في أماكن مهمة مثل مبنى الكونغرس الأمريكي ومتحف التاريخ في هامبورغ والمتحف التاريخي في بودابست، وتعاون في ذلك مع المراكز الثقافية والمتاحف المحلية، مما جعل السرد التاريخي أكثر ملاءمة لفهم الجمهور المحلي.
في حفل افتتاح المعرض الذي أقيم في مبنى الكونغرس الأمريكي عام 2014، قال تسوي تيان كاي، سفير الصين الأسبق لدى الولايات المتحدة الأمريكية: "حدث اليوم له تأثير عميق على العلاقات الصينية- الأمريكية." حضر مراسم الافتتاح، ستة أعضاء في الكونغرس الأمريكي ومستشار الرئيس أوباما للشؤون اليهودية وألقوا كلمات. كما حضر المراسم موظفو الكونغرس الأمريكي، وممثلون عن لجنة المائة، ومسؤولون من سفارة إسرائيل، ولاجئون يهود سابقون في شانغهاي إلى جانب من أكثر من مائتي شخص آخر. في أغسطس 2023، أقيم المعرض بعد ترقيته تحت عنوان "شانغهاي، الموطن السابق.. اللاجئون اليهود وشانغهاي" في فوسون بلازا في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وحظي باهتمام وتغطية إيجابية من أكثر من 700 وسيلة إعلامية حول العالم بما في ذلك صحيفة ((نيويورك تايمز)).
من 20 إلى 23 سبتمبر عام 2024، عقد المؤتمر السنوي الرابع والثلاثون للناجين من الهولوكوست وأحفادهم في ماركهام بتورونتو في كندا. كان أغلب المشاركين في هذا المؤتمر من الناجين من الهولوكوست وأحفادهم من جميع أنحاء العالم. أثناء المناقشات بعد المؤتمر، ذكر العديد منهم تجارب أفراد عائلتهم أو أصدقاء عائلتهم الذين لجأوا إلى شانغهاي، وأبدوا استعدادهم للمساعدة في التواصل مع الأشخاص المعنيين. من خلال هذه المناقشات، نجح متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي في التواصل مع أحد عشر شخصا معنيا، مما أتاح له إجراء المزيد من المقابلات لمعرفة المزيد من التفاصيل التاريخية والأدلة المتعلقة باللاجئين اليهود في شانغهاي.
في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى المعارض الدولية، نظم متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي مجموعة من الفعاليات المتعددة الموضوعات، مثل نشاط المشي الثقافي تحت عنوان "الوقوف معا جنبا إلى جنب وتقاسم المستقبل"، الرحلة الدراسية تحت عنوان "سفينة في البحر"، وصالون الموسيقى، لتوجيه الجمهور والشباب لفهم تاريخ شانغهاي في تلك الفترة، حيث فتحت ذراعيها لحماية المنفيين، ولتجسيد الصداقة الخاصة بين الشعبين في الأوقات العصيبة، وإبراز سحر شانغهاي كمكان تلتقي فيه الثقافات المتنوعة.
احتفالا بالذكرى السنوية الثمانين للانتصار في حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية، نظم متحف اللاجئين اليهود في شانغهاي بالتعاون مع متحف ناننينغ معرضا خاصا تحت عنوان "التعاون الدولي بين قوانغشي وشانغهاي خلال فترة حرب المقاومة الشعبية الصينية ضد العدوان الياباني"، الذي افتتح في 6 يوليو عام 2025 في متحف ناننينغ. يركز هذا المعرض على القصص المؤثرة للتعاون الدولي بين شانغهاي وقوانغشي أثناء الحرب، من خلال مئات الصور التاريخية النفيسة التي تعكس حياة الأفراد وخلفية العصر، وتفسر بشكل حي القيمة الثمينة لمستقبل البشرية المشترك.
قال تشن جيان: "تاريخ اللاجئين اليهود في شانغهاي يذكرنا بالألم الذي سببته الكوارث التاريخية، ويفرحنا بالتعايش الودي الذي يجلب الدفء والنور للعالم. كما قال جيري موسى، وهو أحد اللاجئين اليهود السابقين، إن المودة والفهم والتسامح تجعل الصين عظيمة للغاية، وهو أمر لا يمكن بلوغه بالحرب والطمع والكراهية. هذه القصص تخبرنا أن أشد اللحظات ظلمة في البشرية يمكن أن تتألق فيها أروع جوانب الإنسانية. المحافظة على هذا الإرث الروحي ليس احتراما للتاريخ فحسب، وإنما أيضا يغرس بذور الأمل للمستقبل."