لماذا تواصل الصين تحقيق معجزات التنمية رغم التقدم المتذبذب للعولمة حاليا؟ وكيف تستطيع الصين، رغم البيئة الداخلية والخارجية المعقدة والمتغيرة، تنفيذ أهدافها الوطنية بكفاءة عالية؟ تكمن الإجابة في "منهجية التنمية" الفريدة التي تتبناها الصين، وتحديدا في نظام "الحوكمة بالأهداف" الذي تمثله الخطة الخمسية للتنمية. يعد هذا النظام تجسيدا مهما لنمط الحوكمة ذي الخصائص الصينية. وجوهره أن الدولة قادرة على وضع أهداف معقولة بشكل مستمر، وتحقيق التوافق بين مختلف الأطراف حول تلك الأهداف. وبمجرد طرح الأهداف، يمكنها تعبئة موارد المجتمع بأكمله لضمان تنفيذها الفعال، مما يظهر قدرة قوية على تحقيق الأهداف الوطنية. هذا هو السبب الجوهري وراء تحقيق الصين للمعجزات التنموية، وهو أيضا تجسيد بارز لمزايا نظامها. من خلال "الحوكمة بالأهداف"، تمكنت الصين من تجاوز التعارض بين الاقتصاد المخطط التقليدي واقتصاد السوق، وقدمت نموذجا صينيا للابتكار المؤسسي في مجال الحوكمة العالمية.
التخطيط البعيد المدى.. الآفاق البعيدة والطابع المنهجي
التحديث الصيني النمط هو إستراتيجية مئوية واضحة وطموحة، بهدف بناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة عظيمة في مائة سنة، من عام 1949 إلى عام 2049. وقد تم تقسيم هذه الإستراتيجية المئوية ببراعة إلى عشرين خطة خمسية أو برنامجا خماسيا مع أهداف مرحلية محددة. ففي الثلاثين عاما الأولى (1949- 1978)، نجحت الصين في إقامة نظام صناعي مستقل ومتكامل؛ ثم خلال أربعين عاما من خلال ثماني خطط خمسية (1981- 2020)، حققت هدف بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل؛ وفي الثلاثين سنة اللاحقة (2021- 2050)، تعمل الصين، من خلال ست خطط خمسية جديدة، لبناء دولة اشتراكية حديثة وقوية.
تستعد الصين لدخول مرحلة الخطة الخمسية الخامسة عشرة، وهي نقطة حاسمة في مسيرتها المئوية. وبصفتها خطة في فترة محورية للتحديث الصيني النمط، فإنها ليست خطة للسنوات الخمس المقبلة فحسب، وإنما أيضا خطوة نحو تحقيق التحديث الاشتراكي بشكل أساسي بحلول عام 2035.
ظل الاتجاه العام نحو التحديث ثابتا على مدار قرن من الزمان، حيث تعاقبت الأجيال في مواصلة الجهود، وتنفذ الخطط الخمسية واحدة تلو الأخرى ضمن مسار نضالي متصل. ومع ذلك، فإن الصين تواكب العصر في تحديد أهدافها التفصيلية، وتجري تعديلات ملائمة مستمرة وفقا للظروف المتغيرة. ويمثل هذا الأفق الإستراتيجي بعيد المدى يمتد لعشرات السنين، وصولا لقرن كامل، تباينا واضحا مقارنة ببعض دول العالم. فعند مواجهة أوضاع دولية معقدة ومتغيرة، مثل الاحتكاكات التجارية التي حدثت سابقا، حافظت الصين دائما على ثبات إستراتيجي قوي، وتعاملت مع التحديات بهدوء وثقة. ويعود هذا الثبات إلى نمط التنمية الفريد الذي تتبناه الصين، والقائم على التخطيط البعيد المدى. وكما قال روبرت آنجل، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد: "بينما تخطط الولايات المتحدة الأمريكية للانتخابات القادمة، تخطط الصين للجيل القادم".
تتمثل الميزة البارزة الأخرى التي تقدمها "الحوكمة بالأهداف" من خلال الخطط الخمسية في الطابع المنهجي للسياسات. فمن أجل تحقيق الأهداف المحددة في الخطة، يتم تصميم السياسات والأنظمة بشكل منهجي. وتحت التوجيه العام للخطة وأهدافها، توضع حزمة سياسات شاملة بطريقة منسقة ومترابطة. ومن أجل ضمان الاتساق في توجهات السياسات الكلية، نؤكد بوضوح على ضرورة تعزيز الوظيفة التوجيهية الإستراتيجية للخطة، وتعزيز التوجيه الإستراتيجي للخطة التنموية للسياسات الكلية في مجالات المالية والتمويل والأراضي والصناعة والتكنولوجيا ومعيشة الشعب.
قابلية التنفيذ والاتساق الداخلي لـ"الحوكمة بالأهداف"
الخطة الخمسية في الصين ليست مجرد رؤى نظرية مكتوبة على الورق، بل هي برامج تنموية لها قوة تنفيذية هائلة. وبفضل آلية تنفيذ متكاملة، تستطيع الصين بعد تحديد الأهداف تعبئة موارد المجتمع بكفاءة وسرعة لضمان تنفيذ الخطة على أرض الواقع. يشمل ذلك وضع خطط تفصيلية لتوزيع المسؤوليات، وتحديد المؤشرات الإلزامية بقوة، وتقسيم أهداف الخطة الخمسية إلى مهام سنوية محددة، ثم، من خلال التقييم الديناميكي والمراقبة الصارمة وإصدار سياسات التحفيز، يتم تشكيل نظام الإدارة بالحلقة المغلقة. على الرغم من الصدمات الناتجة عن جائحة كوفيد- 19 والاضطرابات في البيئة الدولية خلال فترة الخطة الخمسية الرابعة عشرة، استطاعت الصين تنفيذ المشروعات من أجل تحقيق الغالبية العظمى من الأهداف بثبات، مما يظهر مرونة واستقرار الإستراتيجية التنموية الصينية. وهذه القدرة على "الوفاء بالوعود"، لا تسهم في دفع الصين لتحقيق تنمية متسارعة فقط، وإنما أيضا تعزز مصداقية تعهدات الصين وموثوقيتها في التعاون الدولي، ولا سيما في مجالات مثل خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
وفي إطار نمط الحوكمة بالأهداف، لا تعتمد الصين على نقل التعليمات في اتجاه واحد من الأعلى إلى الأسفل، بل تقيم تفاعلا إيجابيا بين الدولة والأفراد يقوم على التنمية المتبادلة. فالحكومة الصينية من خلال توجيه السياسات وتخصيص الموارد، مع احترام استقلالية الشركات والشعب في السعي لتحقيق أهدافهم الخاصة، تدمج تطلعات الأفراد في إطار التنمية الوطنية العامة، مما يحقق توافقا عميقا بين الأهداف الفردية والإستراتيجية الوطنية.
تجمع الخطة الخمسية بين التصميم الرفيع المستوى وبين المنطق الأساسي المستند إلى احتياجات معيشة الشعب. فمن خلال الاستشارة الواسعة النطاق لآراء المواطنين، وتلبية احتياجات المجتمع بدقة، تعمل الصين على الربط بين التخطيط الإستراتيجي الكلي واحتياجات معيشة الشعب، بما يضمن التكامل بين "المنطق الكبير" للتنمية الوطنية و"المنطق الصغير" لحياة الناس وتشغيل الشركات. فعلى سبيل المثال، فيما يخص تنمية القوى المنتجة الحديثة النوعية، فإن المخطط الإستراتيجي الوارد في الخطة الخمسية لا بد أن يترجم تدريجيا إلى سياسات صناعية محددة ومشروعات استثمارية ملموسة، وينفذ في النهاية من خلال ممارسات الابتكار على مستوى الشركات، مما يحقق ترابطا عضويا بين السياسات الكلية والأنشطة الاقتصادية الجزئية.
تواجه دول العالم اليوم تحديات متباينة في ممارسة الحوكمة العالمية. وفي عملية صياغة سياساتها، يقع بعضها في فخ قصر النظر التنموي نتيجة للإفراط في مسايرة الرأي العام القصير الأمد؛ ويخفق بعضها الآخر في تحقيق أهدافها بسبب غياب التخطيط المنهجي، مما يجعل من الصعب تحقيق توازن بين الإستراتيجيات الوطنية وتطلعات الشعب. أما الصين، فتدرج من خلال خطتها الخمسية تطلعات الأفراد نحو حياة أفضل ضمن الإطار العام للتنمية الوطنية، وتقوم بتصميم وتحويل المطالب الحقيقية للشعب في مجالات مثل الدخل والرعاية الصحية ورعاية المسنين والتعليم، إلى مشروعات تنموية منهجية مستدامة، وذلك من خلال السياسات العامة العلمية والمهنية. وبهذا تحقق الصين ترابطا وثيقا وتفاعلا إيجابيا بين "المنطق الكبير" للتنمية الوطنية و"المنطق الصغير" لحياة الشعب اليومية.
"الحوكمة بالأهداف".. حكمة الصين وإسهامها في حضارة الحوكمة الإنسانية
يعد التخطيط في حد ذاته من الثروات المشتركة للبشرية، وهو من ثمار الحضارة المؤسسية الإنسانية، ويحمل السعي المشترك للبشر نحو تنمية منظمة. فمن تصور ماركس لتخطيط الدولة، إلى أفكار المفكرين اليساريين الألمان حول التخطيط، وصولا إلى الممارسات الواسعة النطاق في الاتحاد السوفيتي، شهدت فكرة التخطيط تطورا مستمرا في مسار الحضارة الإنسانية. قامت الصين بالتحويل والابتكار على أساس ظروف الدولة بعد أن استفادت من مفهوم التخطيط، فطورت في القرن الحادي والعشرين نمطا جديدا للتخطيط، لا يعيد تشكيل التصورات النمطية السائدة عن الاقتصاد المخطط التقليدي فحسب، وإنما أيضا يقدم أفكارا واتجاهات جديدة للحوكمة العالمية.
هناك كثير من الأفكار حول خطة التنمية الوطنية. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، ظهرت فكرة تفيد بأن كيانات اقتصاد السوق موزعة والمعلومات مشتتة، وبالتالي فإن الاقتصاد المخطط المركزي لا يصلح للتطبيق. نعرف أن الخطط التي تضعها الحكومة الصينية ليست مشتتة، بل هي تخطيط قائم على معرفة شاملة ومتكاملة، تتضمن معارف كلية تعد ضرورية لتشغيل المجتمع البشري. وفي مجالات "المعرفة الكلية"، يعتبر التخطيط الأداة الأكثر فاعلية. أما في المجالات الجزئية التي تتطلب تجميع المعلومات من القاعدة إلى القمة، فإن آلية السوق هي الأكثر كفاءة. وتكمن جوهرية التجربة الصينية في الدمج العضوي بين التخطيط وأعمال السوق، بحيث يلعب كل منهما دوره في مختلف المستويات والمجالات، وفي نفس الوقت، يشكلان ميزة تكاملية. وقد أصبحت الخطة الخمسية في الصين اليوم تخطيطا شاملا لتنمية الدولة، يغطي الاقتصاد والمجتمع والثقافة والإيكولوجيا وغيرها، أي أنها تمثل شكلا من "تخطيط المعرفة الكلية". وتقدم الخطة الخمسية الصينية للبشرية "حكمة الصين" الثمينة لاستكشاف خطة ونمط حوكمة أفضل في القرن الحادي والعشرين. ومن خلال ممارسة "الحوكمة بالأهداف" الفريدة، تسهم الصين في تقديم "مشروع الصين" كحل ممكن لمستقبل أنماط الحوكمة على مستوى العالم.
--
يان يي لونغ، أستاذ في كلية الإدارة العامة بجامعة تشينغهوا.