ملف العدد < الرئيسية

خريطة التنمية المنهجية الصينية تلهم العالم

: مشاركة
2025-08-15 11:40:00 الصين اليوم:Source أحمد سلام:Author

مع اقتراب إسدال الستار على الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021- 2025)، وتبلور ملامح الخطة الخامسة عشرة (2026- 2030)، يقف العالم في لحظة تأمل إستراتيجية أمام التجربة التنموية الصينية، التي باتت تمثل أحد أكثر النماذج التخطيطية ديناميكية وتأثيرا في العصر الحديث. لقد تجاوزت الصين مرحلة أن تكون مجرد معجزة اقتصادية إلى أن تصبح مرجعا تنمويا يُدرّس في مراكز الفكر، ويُتابع بدقة من صانعي السياسات، وتستشهد به الأمم الطامحة إلى بناء مستقبل مزدهر ومستقر.

إن العقل التخطيطي الصيني لا يقوم فقط على استشراف الاتجاهات واستباق الأزمات، بل ينطلق من فهم عميق لتحولات الداخل وتغيرات الخارج، ويترجم ذلك إلى أهداف كمية ونوعية، تسندها سياسات عامة محكمة، وتنفذ في إطار من الالتزام المؤسسي والانضباط المجتمعي. في كل خطة خمسية، لا تكتفي بكين بترتيب أولوياتها الاقتصادية، بل تعيد هندسة النمو وتعيد تعريف الجودة وتربط التنمية بالإنصاف الاجتماعي والاستدامة البيئية والابتكار التكنولوجي والانفتاح الواعي على العالم.

إن ما تقدمه الصين اليوم عبر خريطة تنميتها المنهجية، ليس مجرد نموذج شرقي بديل للحداثة الغربية، بل هو طرح حضاري جديد يزاوج بين الرؤية الطويلة الأمد والنتائج القابلة للقياس، بين الدولة القائدة والسوق الفعالة، بين العدالة الاجتماعية والطموح الوطني. ومن هنا، فإن قراءة هذه التجربة، في ضوء التحولات الدولية المتسارعة والتحديات المشتركة للبشرية، تفتح آفاقا واسعة لفهم كيف يمكن للتخطيط العلمي والحوكمة الذكية أن يصنعا فارقا، ليس فقط داخل حدود الصين، بل على امتداد العالم.

إنجازات الخطة الرابعة عشرة.. أرقام تفوق التوقعات

النمو الاقتصادي الصيني وتأثيره العالمي. هنا تتحدث الأرقام وهي لا تكذب ولا تتجمل، والأرقام في الحالة الصينية أبلغ من أي خطاب، ومع اقتراب ختام الخطة الخمسية الرابعة عشرة، تكشف البيانات عن إنجازات تنموية حقيقية تجاوزت التوقعات في الاقتصاد والابتكار والتحول الأخضر، مما يعزز الثقة في نموذج التخطيط الإستراتيجي الصيني ويفتح الطريق لطموحات أكبر في الخطة المقبلة.

خلال السنوات الأربع الأولى، حققت الصين نموا سنويا في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 5ر5% في المتوسط، وأكملت زيادة إجمالية في الاقتصاد تقارب 35 تريليون يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات تقريبا حاليا)، وهو ما مكنها من الإسهام بما يصل إلى 30% من نمو الاقتصاد العالمي السنوي بحلول منتصف 2025.

الانخراط الاجتماعي والرفاه. حققت الصين إنجازات ملموسة في حماية حقوق المواطن، حيث توسعت تغطية التأمين الاجتماعي إلى أكثر من 327ر1 مليار شخص بحلول نهاية عام 2024، كما زاد عدد الأطباء بنسبة 4ر3 لكل ألف نسمة، وتجاوز عدد الوظائف الجديدة في المناطق الحضرية 12 مليون وظيفة سنويا، مما يعكس قدرة الاقتصاد على استيعاب النمو السكاني والتحول الحضري.

الابتكار والتقنيات الحديثة. زاد الإنفاق على البحث والتطوير بنسبة تقارب 50% منذ عام 2020، حيث بلغ الإنفاق 2ر1 تريليون يوان، مع بلوغ نسبة الإنفاق على البحث والتطوير إلى الناتج المحلي ما يقارب 68ر2%، وهي تقترب من مستويات الدول المتقدمة، مما مهد الطريق لتقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية في قطاعات رئيسية مثل الرقائق والذكاء الاصطناعي والطاقة الجديدة.

التحوّل الرقمي والبنية التحتية الريفية. توسعت تغطية شبكة الجيل الخامس إلى أكثر من 90% من القرى الإدارية بحلول عام 2024، متجاوزة هدف الخطة المقرر في 2025.

التنمية الإيكولوجية والاستدامة الخضراء. أنتجت الصين ما يزيد على 4ر3 تريليونات كيلووات/ ساعة من الطاقة المتجددة في عام 2024، متجاوزة الهدف المحدد بـ3ر3 تريليونات، وأسهمت الطاقة النظيفة بأكثر من ثلث إنتاج الكهرباء على المستوى الوطني وانخفض استهلاك الطاقة لكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6ر11%، مما أدى إلى خفض الانبعاثات بنحو 1ر1 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون، ما يوازي تقريبا نصف انبعاثات الاتحاد الأوروبي لعام 2024.

التصنيع الذكي والتدوير الاقتصادي. أعادت هذه الخطة توجيه الصناعة نحو التصنيع الذكي والتدوير الكامل للموارد، مع استهداف زيادة الكفاءة بنسبة 20%، وتطبيق إستراتيجيات الاقتصاد الدائري في أكثر من 60% من الحدائق الصناعية الوطنية حتى عام 2025.

 المنهج الصيني في التنمية.. أسرار التفوق والتميز

التخطيط الإستراتيجي الطويل الأمد مع مراجعة مرحلية. تعتمد الخطة الخمسية على أهداف واضحة قابلة للقياس ومحددة زمنيا، مع نظام تقييم مرحلي مرن يتيح تعديل السياسات خلال السنوات الخمس. هذه الآلية تمنح استقرارا واستمرارية ومرونة في آن واحد. وقد أطلقت القيادة الصينية إستراتيجية "التداول المزدوج" التي تتخذ من السوق المحلية دعامة أساسية مع تعزيز السوقين المحلية والخارجية، مع المحافظة على الانفتاح نحو التعاون العالمي في الوقت نفسه.

التنمية الخضراء كمحرك للتحول الحضاري. أصبحت التنمية الإيكولوجية جزءا لا يتجزأ من رؤية الصين. من خلال خفض الانبعاثات، وتوسيع إنتاج الطاقة النظيفة، وتحسين جودة المياه وإعادة التدوير، تخطو الصين بثبات نحو هدف الحياد الكربوني في عام 2060.

الشمول الاجتماعي وتقليص التفاوت. تنتهج الصين سياسة إعادة توزيع الدخل، وقد توسعت برامج الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية والتعليمية لتشمل كافة الفئات، مع تركيز خاص على المناطق الريفية والمجموعات ذات الدخل المنخفض، مما عزز العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

قراءة مستقبلية.. ملامح الخطة الخمسية الخامسة عشرة (2026- 2030(

بينما لا تزال التفاصيل الكاملة للنص الرسمي قيد الإصدار، فإن مؤشرات الأداء الصحفية والاقتصادية والحكومية والخبراء والمراقبين، تشير إلى خمسة محاور رئيسية ستحدد توجهات التنمية في العقد القادم، وهي:

أولا: دفع الاستهلاك المحلي ليصبح المحرك الأول للنمو. يتوقع الخبراء أن يقوم الاقتصاد الصيني بتعزيز دور الاستهلاك المحلي في النمو الاقتصادي، عوضا عن الاعتماد القوي على الاستثمار والبنية التحتية. من المتوقع أن تتجاوز مبيعات التجزئة خمسين تريليون يوان بنهاية عام 2025، مع حزمة من التدابير التحفيزية للأسر لتعزيز الإنفاق، خاصة في المناطق الريفية وكبار السن.

ثانيا: تعزيز القوى المنتجة الحديثة النوعية والقدرات التكنولوجية. من المتوقع أن يزداد الدعم للاستثمار في الذكاء الاصطناعي والرقائق والتكنولوجيا الحيوية والحوسبة الكمومية، عبر تقنيات عالية التمويل ومحاور ابتكار مركزية، وفتح مسارات رواتب وتقنيات استقطاب الأكفاء داخليا وخارجيا.

ثالثا: التحول الإيكولوجي وتكثيف منظومات الحياد الكربوني. من المتوقع أن تتحول الآليات من تحديد الطاقة إلى التحكم الشامل في الانبعاثات من خلال إنشاء نظام محاسبة مزمن للكربون، وتوسيع البنية التحتية للطاقة النظيفة، وتعزيز الاستثمار في مشروعات مثل تكنولوجيا التقاط الكربون والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والمدن الذكية منخفضة الكربون.

رابعا: التكيف الاجتماعي مع الشيخوخة الديموغرافية. سيتضمن النظام إصلاحات تدريجية في سن التقاعد وتوسيع خدمات رعاية كبار السن وتحفيز مشاركة النساء والشباب في سوق العمل. كما قد يشمل دعما أكبر للأسر من خلال خدمات رعاية الأطفال والرعاية الطويلة الأجل.

خامسا: الانفتاح الآمن والتنمية الدولية. من المتوقع استمرار تعزيز الانفتاح الاقتصادي عبر تحرير الاستثمار الأجنبي في القطاعات الرئيسية، مع تبني "الانفتاح الآمن" الذي يجمع بين الانخراط العالمي والحد من التعرض للمخاطر الخارجية. كما ستتواصل مبادرة "الحزام والطريق" ومبادرة "التنمية العالمية" ومبادرة "الأمن العالمي" ومبادرة "الحضارة العالمية" لتعميق العلاقات الدولية وتوسيع الدور الصيني في التنمية العالمية.

النموذج الصيني.. إلهام عالمي وتحول في مسار التنمية

في حقيقة الأمر، ونحن في زمن تعثرت فيه نماذج التنمية التقليدية أمام أزمات متتالية، برز النموذج الصيني كاستثناء مبهر يزاوج بين التخطيط المركزي والمرونة التنفيذية. لم يعد نجاح الصين مجرد تجربة محلية، بل بات مصدر إلهام للدول النامية والمتقدمة على حد سواء، بفضل قدرتها على تحقيق إنجازات غير مسبوقة عبر رؤية طويلة المدى، وآليات تقييم مرحلية تضمن التصحيح الذاتي، وتكيف السياسات مع المتغيرات. لا يفرض النموذج الصيني نفسه بالقوة، بل بالأرقام والنتائج، وبما يقدمه من بديل واقعي لنظريات اقتصادية لم تعد وحدها كافية لصناعة التقدم.

خلاصة القول، إن الخطة الخمسية الرابعة عشرة نجحت في وضع الصين على منحنى النمو النوعي، من خلال مزيج من الابتكار والبنية التحتية الرقمية والاستدامة والتوسع الاجتماعي. تتضح إرادة الدولة في تحقيق تحول الاقتصاد نحو نموذج يقوم على الاستهلاك الداخلي والتكنولوجيا الخضراء، لتصبح الصين نموذجا عالميا للتنمية الممنهجة.

أما الخطة الخمسية الخامسة عشرة، المرتقبة في الفترة من عام 2026 إلى عام 2030، تأتي في ظل تحديات كبرى، ومنها النمو الضعيف عالميا والضغوط الداخلية والتحولات التقنية، إلا أنها تستند إلى أرضية قوية مبنية على إنجازات الخطة السابقة، مع وضوح الرؤية والتركيز على المحاور الصحيحة، يتجدد الأمل في أن تكون الصين دائما مثالا ملهما، ليس فقط لنفسها، بل للعالم أجمع.

--

أحمد سلام، المستشار الإعلامي الأسبق بسفارة مصر لدى الصين، وخبير في الشؤون الصينية.

©China Today. All Rights Reserved.

24 Baiwanzhuang Road, Beijing, China. 100037

互联网新闻信息服务许可证10120240024 | 京ICP备10041721号-4