تأسست العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية والمملكة العربية السعودية في عام 1990، مما فتح حقبة جديدة من التعاون الودي بين البلدين. وفي العام التالي، وصلت أول شحنة نفط سعودية إلى الصين عبر رحلة بحرية امتدت آلاف الأميال، لتمثل بداية العلاقة الرسمية بين شركة أرامكو السعودية وسوق الطاقة الصينية. على مدار خمسة وثلاثين عاما، ومنذ أول صفقة للنفط الخام إلى الاندماج العميق للسلسلة الصناعية المتكاملة اليوم، أصبحت أرامكو السعودية أهم الشركاء الدوليين للصين في مجال الطاقة. وحتى الآن، تجاوز إجمالي حجم استثمارات أرامكو في الصين 240 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات تقريبا حاليا)، وتغطي أعمالها مجالات متنوعة تشمل توريد النفط الخام، والتكامل بين التكرير والبتروكيماويات، والبحث والتطوير في التقنيات المنخفضة الكربون، مما أسّس سلسلة إيكولوجية متكاملة من توريد الطاقة إلى التنسيق الصناعي. في مقابلة خاصة مع مجلة ((الصين اليوم))، قال نادر العرفج، المدير العام- أرامكو الصين: "هذه المسيرة من التعاون ليست مجرد تطور في علاقة الشراكة التجارية، بل هي ممارسة حية للثقة الإستراتيجية المتبادلة بين الصين والسعودية."
نادر العرفج، المدير العام- أرامكو الصين
من تجارة النفط الخام إلى التعمق الصناعي
عندما دخلت أول ناقلة نفط سعودية ميناء صينيا في عام 1991، كان ذلك إيذانا ببدء التعاون في مجال الطاقة بين أرامكو السعودية والصين. وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما، حققت الشركة قفزة نوعية من مجرد تاجر للنفط الخام إلى لاعب متكامل في مجال التكرير والبتروكيماويات، ومن مشارك في السوق إلى شريك في بناء سلاسل الصناعة، وذلك تحت مظلة هوية مزدوجة كـ"مورد مستقر" و"مستثمر إستراتيجي". وقد اتسمت عملياتها في الصين بسمات تطور مرحلي واضح المعالم.
كان عام 2007 نقطة تحول إستراتيجي لأرامكو في الصين، ففي ذلك العام، أسست الشركة بالشراكة مع حكومة مقاطعة فوجيان وشركة سينوبك (الشركة الصينية للبترول والكيميائيات) وإكسون موبيل، شركة فوجيان للتكرير والبتروكيماويات برأسمال مسجل بلغ 40 مليار يوان، لتُعد آنذاك واحدة من أكبر قواعد التكامل بين التكرير والبتروكيماويات في الساحل الجنوبي الشرقي للصين. في نفس الفترة، أسست أرامكو بالتعاون مع سينوبك شركة سينوبك سنمي (فوجيان) للبترول، وبذلك تم إنشاء شبكة لتوزيع وبيع المنتجات البترولية بالتجزئة تغطي مقاطعة فوجيان بأكملها، لتتحقق لأول مرة منظومة متكاملة تجمع بين الإنتاج والتكرير والتوزيع والبيع. لقد كسر نموذج "إنشاء مصنع بالمشاركة+ التشغيل المحلي" الإطار التقليدي للتجارة البترولية الأحادية، مُرسيا نموذجا تعاونيا رائدا لمشاركة الشركات الأجنبية في صناعة التكرير والبتروكيماويات الصينية.
في عام 2012، أنشأت أرامكو مقرها الآسيوي في بكين، حيث قامت بدمج موارد فروعها في اليابان وجمهورية كوريا وسنغافورة والهند، لبناء شبكة تجارة واستثمارات في الطاقة تغطي منطقة آسيا والمحيط الهادئ. لم يعزز هذا القرار كفاءة التعاون مع الشركات المحلية الصينية فحسب، وإنما أيضا وضع حجر الأساس لموقعها الإستراتيجي كرافعة رئيسية في سوق الطاقة بشرقي آسيا. وتشير البيانات إلى أنه من عام 2007 حتى يونيو 2025، حافظت أرامكو على موقعها كأكبر مورد للنفط الخام البحري للصين لمدة ثمانية عشر عاما متتاليا. وعلى مدى العقد الماضي، بلغ عدد شحنات النفط من أرامكو إلى الصين حوالي 4500 شحنة، بمعدل ناقلة واحدة تقريبا يوميا تغادر الموانئ السعودية متجهة إلى السواحل الصينية، مع حجم إمدادات سنوي ثابت يتجاوز 80 مليون طن، ما يمثل حوالي 15% من إجمالي واردات الصين من النفط الخام. قال نادر العرفج: "إنشاء المقر الآسيوي في بكين يعكس التزامنا الطويل الأجل تجاه السوق الصينية. فالصين ليست فقط سوقا استهلاكية مهمة للطاقة على المستوى العالمي، وإنما أيضا محور رئيسي في التخطيط الإستراتيجي لأرامكو السعودية."
شركة فوجيان المتحدة للبتروكيماويات، تأسست بالشراكة بين شركة أرامكو السعودية وشركة إكسون موبيل وشركة فوجيان لتكرير البترول والكيماويات.
في مجال المشروعات الكبرى، هناك مشروع شركة ينبع أرامكو سينوبك للتكرير (ياسرف) الذي بدأ الإنتاج في أواخر عام 2014، الذي أرسى نموذجا جديدا للتعاون العابر للحدود يقوم على "المعالجة في السعودية والاستهلاك في الصين". بلغ حجم الاستثمار في هذا المشروع أكثر من ستة مليارات دولار أمريكي، بطاقة تكريرية تبلغ 20 مليون طن سنويا، وهو ينتج وقودا نظيفا بمواصفات يورو 5 ومواد بتروكيماوية عالية القيمة، مع تخصيص أكثر من 70% من إنتاجه للسوق الصينية. وفي الفترة من عام 2023 إلى عام 2024، تم إطلاق مشروع هواجين- أرامكو في بانجين بمقاطعة لياونينغ، ومشروع قولي المتكامل للتكرير والبتروكيماويات في فوجيان. ويضم المشروع الأخير وحدات تكرير بطاقة 16 مليون طن سنويا، ووحدة إثيلين بطاقة 5ر1 مليون طن سنويا، ورصيفا للنفط الخام بسعة 300 ألف طن، معتمدا تقنيات بيئية متطورة تخفض كثافة الانبعاثات الكربونية بأكثر من 25% مقارنة بالمصافي التقليدية، مما يمثل مرحلة جديدة من التعاون الصيني- السعودي في مجال التكرير والبتروكيماويات تتسم بالتطور والاستدامة البيئية.
التوافق الإستراتيجي وتمكين البيئة
في ظل تزايد عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، توصف أرامكو السعودية الصين بأنها "واحة اليقين". قال نادر العرفج: "البيئة التجارية الصينية التي تشهد تحسينا مستمرا، والمنظومة الصناعية الشاملة، والإصرار الإستراتيجي في تحول الطاقة، توفر توقعات تنموية مستقرة للشركات المتعددة الجنسيات، وهذا يشكل الأساس المتين لالتزام أرامكو السعودية بتعزيز حضورها في السوق الصينية." وتتمتع الصين، كثاني أكبر اقتصاد في العالم، ليس فقط بأكثر النظم الصناعية اكتمالا على مستوى العالم، وإنما أيضا تظهر مرونة تنموية قوية في مجالات مثل تحول الطاقة والابتكار التكنولوجي، مما يوفر مساحة تنمية واسعة للشركات العابرة للحدود مثل أرامكو السعودية.
في السنوات الأخيرة، واصلت الحكومة الصينية تعزيز انفتاح السوق، حيث قامت تدريجيا بتخفيف القيود على دخول الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة وتبسيط إجراءات الموافقات، خاصة في ظل إطار التنمية الجديد "التداول المزدوج". وقد تشكلت علاقة تكامل قوية بين الطلب الصيني على المواد الكيماوية العالية الجودة وتقنيات الطاقة المنخفضة الكربون من جهة، والتوجه الإستراتيجي لأرامكو السعودية من جهة أخرى. تخطط أرامكو السعودية لتحويل أربعة ملايين برميل يوميا من النفط الخام إلى مواد كيماوية عالية القيمة بحلول عام 2030، وقد تحقق بالفعل أكثر من نصف هذا الهدف. وتبرز الصين، كأكبر سوق مستهلكة للمنتجات البتروكيماوية عالميا (بأكثر من 50% من الطلب العالمي)، كمنطقة محورية لهذه الإستراتيجية. كما تتفوق الصين في مجال الابتكار التكنولوجي، حيث تنتج حاليا 80% من الألواح الشمسية العالمية، و70% من بطاريات الليثيوم أيون، و70% من مركبات الطاقة الجديدة، مما يوفر قاعدة صلبة للتعاون الثنائي في تحول الطاقة.
في إبريل عام 2025، مثل توقيع اتفاقية توسعة مصفاة ينبع (ياسرف) مشروعا محوريا لربط مبادرة "الحزام والطريق" بـ"رؤية السعودية 2030". هذا المشروع المشترك الإستراتيجي بين أرامكو السعودية (بنسبة 5ر62%) وشركة سينوبك الصينية، باستثمارات تتجاوز عشرة مليارات دولار أمريكي، يشمل إضافة وحدة تكسير بالبخار بطاقة 8ر1 مليون طن سنويا، ووحدة إنتاج عطريات بطاقة 5ر1 مليون طن سنويا، ليُشكل سلسة صناعة متكاملة من "التكرير- البتروكيماويات- المواد الجديدة". عند اكتماله، سيرفع المشروع قدرة المصنع من المنتجات الكيماوية بأكثر من 40%، بإنتاج سنوي يصل إلى ثلاثة ملايين طن من المواد الكيماوية المتطورة، 60% منها مخصص للسوق الصينية. الجدير بالذكر أن المشروع يدمج نظام "المصفاة الذكية" مع تميز الصين في المجال الرقمي والآلي، ليكون أول قاعدة تكرير وبتروكيماويات في العالم تدير عملياتها رقميا بالكامل، مع تحسين كفاءة الطاقة بنسبة 15% وخفض كثافة الانبعاثات الكربونية بنسبة 12%، ليصبح نموذجا عالميا للتطوير الأخضر في قطاع التكرير.
التحول الأخضر وتأهيل الكوادر
في ظل التحول العالمي في قطاع الطاقة، تستجيب أرامكو السعودية بفاعلية لأهداف الصين المتمثلة في "الكربون المزدوج"، حيث تدمج إستراتيجيتها للاقتصاد الكربوني الدائري مع خريطة التنمية المستدامة الصينية، لتشكيل نموذج ثنائي المحرك يرتكز على الابتكار في التقنيات المنخفضة الكربون من جهة، وتنمية الكوادر البشرية من جهة أخرى، لدفع التعاون نحو آفاق أكثر استشرافا.
في مجال الابتكار التكنولوجي المنخفض الكربون، أنشأت أرامكو السعودية "مركز الابتكار للمواد غير المعدنية" في بكين في عام 2022، لتركيز الجهود على تطوير حلول بديلة للمواد التقليدية العالية الانبعاثات. وفي مدينة سوتشيان بمقاطعة جيانغسو، نجح المركز في إنشاء أول طريق عالمي من الأسفلت الممزوج بمواد بلاستيكية معاد تدويرها، حيث استُبدل 20% من الأسفلت التقليدي ببلاستيك حراري معاد تدويره، و50% من مواد الحشو بالبلاستيك الحراري المعاد تدويره، مما خفض تكاليف الإنشاء بنسبة 6ر18%، وقلل الانبعاثات الكربونية بنسبة 36%، وقد أُدرج هذا الإنجاز في دليل تقنيات خفض الكربون بقطاع النقل الصيني. أما في مشروع "الملاعب الخضراء" بالتعاون مع الاتحاد الصيني لكرة السلة، فقد استخدمت حبيبات بلاستيك معاد تدويره من الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) في تجديد العديد من ملاعب التجمعات السكنية في بكين، باستخدام أكثر من مائة طن من البلاستيك المعاد تدويره، حيث يجسّد مبادئ الاقتصاد الدائري مع تعزيز البنية التحتية الرياضية للتجمعات السكنية المحلية. كما تدير أرامكو السعودية صندوقا للاستدامة والصناعة بقيمة ملياري دولار أمريكي، استثمر حتى الآن في 12 شركة ناشئة صينية في مجالات الطاقة الجديدة والمواد المتطورة، لدعم التطبيقات التجارية لتقنيات مثل إنتاج الهيدروجين ومواد ألياف الكربون.
في مجال تأهيل الكوادر، يظل "برنامج المنح الجامعية لغير الموظفين" الذي أُطلق في عام 1998 أيقونة للتبادل التعليمي الصيني- السعودي. حيث يتم سنويا اختيار نخبة من خريجي المدارس الثانوية السعودية لدراسة التخصصات الهندسية في تسع جامعات صينية رائدة، منها جامعة تشينغهوا وجامعة تشجيانغ، بدعم كامل من البرنامج. وبعد إعادة تشغيل البرنامج في عام 2023، انتظم طلاب الدفعة الأولى المكونة من 80 طالبا في الدراسة. لتعزيز فعالية التأهيل، أطلقت أرامكو بالتعاون مع الجامعات الصينية برنامج "التدريب+ البحث العلمي"، كما تنظم بانتظام "المنتدى الصيني‑ السعودي للشباب في مجال الطاقة"، فتشكلت بذلك آلية مستدامة لتبادل الأفراد تُضخ زخما متواصلا في التعاون الثنائي.
من أول شحنة نفط في عام 1991 إلى توسعة مشروع التكامل بين التكرير والبتروكيماويات في عام 2025، ومن التجارة التقليدية إلى الابتكار الأخضر، تمثل مسيرة أرامكو السعودية في الصين على مدى 35 عاما ليس فقط تاريخ توسع شركة عابرة للحدود، وإنما أيضا قصة تطور تعاون ثنائي قائم على الثقة والمنفعة المتبادلة. في ظل الإطار الاستراتيجي لـ"التداول المزدوج" و"رؤية السعودية 2030"، يرفع الطرفان تعاونهما إلى مستويات جديدة- من التكامل في سلاسل الصناعة إلى وضع المعايير المشتركة، ومن الابتكار التقني إلى التمازج الثقافي. سيسهم هذا التعميق المستمر للشراكة ليس فقط في ضخ زخم مستقر لدفع عجلة التنمية الاقتصادية الصينية العالية الجودة، وإنما أيضا سيوفر حلولا ذات قيمة مرجعية للتحول العالمي في مجال الطاقة وترقية الصناعات، مجسدا بذلك قدرة التعاون المتعدد الأطراف على صنع اليقين في عصر يموج بعدم الاستقرار.