طريق الحرير، الممر العتيق الذي امتد عبر أوراسيا، كان شريانا حيويا للتبادل بين الشرق والغرب، حيث تجاوز الفيافي والجبال والبحار وربط بين حضارات عريقة. لم يكن هذا الطريق التجاري المزدحم مسارا انتقلت عبره السلع الثمينة فحسب، وإنما أيضا حمل تبادلات ثقافية وفكرية عميقة. اليوم يشهد طريق الحرير إحياء جديدا مبهرا. تمثل المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية نقطتين محوريتين على هذا الطريق التاريخي، وقد جمعتهما روابط ثقافية غنية عبر العصور. أما اليوم، فإن التعاون بين البلدين في المجالات الاقتصادية والثقافية يتعمق أكثر من أي وقت مضى، مما ينسج روابط جديدة في العصر الحديث.
نظرة إلى التاريخ.. لقاءات على طريق الحرير
تعود أصول طريق الحرير إلى القرن الثاني قبل الميلاد، منذ فترة أسرة هان الغربية (206 ق.م- 24م) الصينية. حينها، قام تشانغ تشيان ببعثته الدبلوماسية إلى المناطق الغربية، مما فتح الطرق التجارية التي ربطت الصين بآسيا الوسطى وبلاد العرب. تدفقت السلع الصينية الفاخرة مثل الحرير والشاي والخزف إلى بلاد العرب ومنها السعودية، عبر هذه الممرات التجارية، بينما وصلت التوابل العربية والمجوهرات وغيرها من البضائع الأخرى إلى الصين. لم تكن هذه السلع قنوات للتبادل التجاري بين الجانبين فحسب، وإنما أيضا صارت جسرا للتبادل الثقافي بين الشرق والغرب.
إن أهمية طريق الحرير تتجاوز بكثير مجرد تبادل السلع المادية، إذ شكل قناة للاندماج الفكري والديني والفني بين الشرق والغرب. عبر هذا الطريق، لم ينقل التجار العرب الدين الإسلامي والأساليب المعمارية المميزة فحسب، وإنما أيضا أدخلوا المعارف المتقدمة في الرياضيات والطب وعلم الفلك إلى الصين. وفي المقابل، انتشرت تقنيات صناعة الورق والطباعة والنسيج والخزف الصينية عبر طريق الحرير إلى بلاد العرب، مما حفز التطور الثقافي والتكنولوجي للبلدان العربية.
إلى جانب طريق الحرير البري المشهور، لعب طريق الحرير البحري دورا رئيسيا في التبادل الثقافي الصيني- العربي أيضا. فقد شهد ميناء السرين السعودي، الذي كان محطة رئيسية على طريق الحرير البحري، تبادلا تجاريا مزدهرا بين البلدين. وفي عام 2016، وقعت الدولتان اتفاقية تعاون للتنقيب الأثري المشترك لمواقع طريق الحرير وحمايتها، حيث تم اكتشاف قطع أثرية مهمة مثل الخزف الصيني في تلك المواقع. ثم توج هذا التعاون بتوقيع ملحق للاتفاق بين هيئة التراث السعودية ومصلحة الدولة للآثار بالصين في السابع عشر من أكتوبر 2024، مما ضمن تعميق واستدامة هذا المشروع الأثري المشترك. لم يكن ازدهار طريق الحرير مجرد تدفق للموارد المادية، بل كان أيضا اندماجا ثقافيا ودينيا وتكنولوجيا، ساهم في تشكيل تنوع الحضارة العالمية المعاصرة، وأرسى أساسا تاريخيا للتبادل الودي بين السعودية والصين.
النهضة المعاصرة.. التعاون السعودي- الصيني على طريق الحرير الحديث
منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية والصين في عام 1990، يدعم البلدان بعضهما في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية، خاصة في الشؤون الدولية والإقليمية، حيث يؤكدان على مبادئ التعددية والتعاون الدولي. شكلت هذه الثقة السياسية المتينة أساسا متينا للتقدم المشترك. مع الدفع المشترك لمبادرة "الحزام والطريق" و"رؤية السعودية 2030"، أتيحت فرصة تاريخية جديدة للتعاون الثقافي والاقتصادي بين البلدين. لا ينعكس هذا التعاون في المجالين السياسي والاقتصادي فحسب، بل يتجسد أيضا في التفاعلات الإنسانية المثمرة يوما بعد يوم. تُعيد السعودية، التي كانت حلقة رئيسية في طريق الحرير القديم، تأكيد دورها كمحور إستراتيجي يربط الشرق بالغرب في العصر الحديث.
على الصعيد الاقتصادي، يتميز التعاون السعودي- الصيني بدرجة عالية من التكامل. فقد وفرت مبادرة "الحزام والطريق" فرصا غير مسبوقة للبلدين في مجالات البنية التحتية والتعاون في مجال الطاقة والاستثمارات المالية وغيرها. حيث تشارك الشركات الصينية بنشاط في مشروعات البنية التحتية السعودية، بينما توفر السعودية، كدولة رائدة في إنتاج الطاقة على مستوى العالم، إمدادات طاقة مستقرة للصين. وقد أسهم هذا التعاون الاقتصادي المتبادل المنفعة في تعزيز النمو الاقتصادي لكلا البلدين وحقق نتائج مثمرة.
يمثل التعاون الاقتصادي بعدا واحدا في العلاقات السعودية- الصينية، بينما يلعب التعاون الثقافي دورا محوريا لا يقل أهمية. شهدت السنوات الأخيرة تعددا في مستويات التبادل الثقافي بين البلدين، حيث ساهمت التبادلات الثقافية والزيارات المتبادلة في تقريب المسافة بين الشعبين.
فعلى سبيل المثال، عرض بينالي الدرعية للفن المعاصر في عام 2021 أعمالا لاثني عشر فنانا صينيا، وقاد العرض المديرالعام لبينالي الدرعية، الذي يشغل أيضا منصب الرئيس التنفيذي لمركز الفن المعاصر (UCCA) في الصين. كما وقعت هيئة التراث السعودية مؤخرا خطة تنفيذية للتعاون مع المتحف الوطني الصيني والقصر الإمبراطوري (المدينة المحرمة) ومتحف شانغهاي، الأمر الذي أرسى أساسا للتعاون الفني بين البلدين في المستقبل. وبجانب ذلك، تتواصل المؤسسات الثقافية والفنانون والأكاديميون عبر معارض وملتقيات ومهرجانات ثقافية لعرض روافد الحضارتين، مما يعمق التفاهم والصداقة بين الشعبين. وفي الثامن والعشرين من مارس 2024، أعلنت وزارة الثقافة السعودية في بكين عن إطلاق "جائزة الأمير محمد بن سلمان"، التي تهدف إلى دعم التقارب الثقافي والحضاري بين السعودية والصين وتعزيز التبادل بين شعبيهما في مجالات الأدب والتعليم والإعلام والفنون، من خلال منح مالية للباحثين والفنانين واللغويين والمترجمين من البلدين، تشجيعا لجهودهم المستمرة في مجال الثقافة الإبداعية. كما تجدر الإشارة إلى مشاركة السعودية النشيطة في مشروع "مكتبة الصين ودول الخليج العربية للتواصل الإنساني والثقافي والتعلم المتبادل بين الحضارتين الصينية العربية"، الذي يسعى لبناء منصة للتبادل اللغوي والتعاون الثقافي الصيني- العربي، مما يؤكد تعميق التعاون الإنساني والثقافي بين البلدين باستمرار.
على صعيد التعاون السينمائي، أضفت فعاليات "عروض ليالي الفيلم السعودية" التي احتضنتها بكين مؤخرا حيوية جديدة على التعاون السينمائي بين البلدين. قدمت هذه الفعاليات الإبداعات السينمائية السعودية وثقافتها، وأتاحت فرصة للجمهور الصيني لفهم أعمق للثقافة السعودية. لم يقتصر هذا التبادل الثقافي على إثراء حياة الشعبين فحسب، وإنما أيضا أطلق شرارات إبداعية في مجال الفنون لكلا الجانبين. أصبح ازدهار صناعة السياحة محركا جديدا للتبادل بين البلدين، حيث يتزايد عدد السياح الصينيين الذين يستكشفون التراث الثقافي والمناظر الطبيعية الفريدة للسعودية. وبالتوازي مع تعزيز التعاون الأثري السعودي- الصيني، ظهرت أدلة مادية جديدة تجسد عمق التبادل التاريخي بين الحضارتين الصينية والعربية.
التطلع إلى المستقبل.. فرصة جديدة للتتبادل الثقافي
بالتطلع إلى المستقبل، نجد أن التبادل الثقافي بين السعودية والصين يتمتع بأفق واسع، خاصة في حماية واستكشاف التراث الثقافي، فالبلدان لديهما إمكانية تعاون كبيرة. يمكن تحقيق استكشاف وحماية موارد التراث الثقافي المثمر على طول طريق الحرير بشكل أفضل عن طريق مشروعات مشتركة في استكشاف وحماية التراث الثقافي، الأمر الذي لا يجذب اهتمام المجتمع العالمي فحسب، وإنما أيضا يدفع ثقافات البلدين إلى المسرح العالمي.
لا يقتصر التبادل الثقافي بين السعودية والصين على المستوى المادي فحسب، وإنما أيضا يشتمل على الاهتمام بالتبادل على المستوى الروحي والفكري. في عام 2019، أدرجت السعودية اللغة الصينية ضمن المناهج الدراسية، ومع الانتشار التدريجي لتعليم اللغة الصينية في السعودية، يسعى البلدان من خلال تعزيز التبادل والتفاعل بين الشباب إلى تنشئة جيل جديد يتمتع برؤية دولية وقدرة على الفهم عابرة للثقافات، مما سيقيم جسر صداقة أكثر متانة. وفي الوقت ذاته، يشهد عام 2025 تنظيم السعودية والصين بشكل مشترك "العام الثقافي السعودي- الصيني" كمشروع مهم لتعميق التعاون الثقافي بين البلدين. خلال هذا الحدث، تم تخطيط وتنفيذ سلسلة من الفعاليات، التي تشمل معارض فنية عابرة للثقافات وتبادلات أدبية وعروض أفلام وزيارات تبادلية للفنانين، لعرض الإنجازات الثقافية المتميزة لكلا الجانبين. إن هذا ليس توارث وحماية للتاريخ والثقافة فحسب، وإنما أيضا هو استكشاف وابتكار للثقافة المعاصرة.
لا يمثل طريق الحرير رمزا تاريخيا للتبادل التجاري والثقافي بين السعودية والصين في الماضي فقط، بل يشكل أيضا منصة مهمة للتبادل الثقافي في العصر الحديث. مع تعميق مبادرة "الحزام والطريق" و"رؤية السعودية 2030"، يشهد طريق الحرير إحياء جديدا، حيث تتقدم التبادلات الثقافية السعودية- الصينية نحو مستوى جديد. في هذا السياق التاريخي، يندمج توارث التاريخ مع الابتكارات التكنولوجية الحديثة، ليكتبا معا فصلا جديدا للتبادل الثقافي بين البلدين. وفي المستقبل، ومن خلال التعاون والتبادلات الأعمق، سيبرز البلدان بالتأكيد بتألق جديد في موجة العولمة، ويجلبان المزيد من الفوائد لشعبيهما، ويساهمان بقوة جديدة في تنوع ثقافات العالم.
----
تشانغ فان، موظفة في وزارة الثقافة السعودية.