محتويات العدد 12 ديسمبر (كنون الأول) 2002
((تاريخ العلاقات الصينية العربية))

تأليف: قوه ين ده

ترجمة: تشانغ جيا مين

(بقية البا ب الثالث)

وكانت السفن العربية القادمة إلى الصين غالبا ما تقلع من سيراف وصحار قاصدة كانتون. وفي عام 758 حدث أن غزت بعض القوات العسكرية من داشي وفارس مدينة كانتون و"نهبوا مستودعاتها، وأشعلوا النيران في بيوتها، ثم انصرفوا من البحر" (1). ولما أغلقت المدينة نتيجة ذلك، تحولت السفن التجارية القادمة من البلدان العربية إلى جياوتشو (2)، ولم تعد إليها إلا في عام 792 إذ رفع الحظر البحري عن هذه المدينة في هذا العام، ودليل ذلك أن تاجرا اباضيا من البصرة يدعي ناصر بن مأمون قام بزيارة للصين عن طريق كانتون بعد عام 792. غير أن التجارة الخارجية ضعفت لفترة من الزمن نتيجة للهجمات التي بدأتها قوات هوانغ تشاو المنتفضة على مدينة كانتون عام 878، إذ تحول التجار العرب بسفنهم إلى كالاه (Kalah) على الشاطئ الغربي من شبه جزيرة المالايو، واستمروا كذلك إلى أن عادوا بها إلى هذه المدينة في غضون القرن العاشر حيث كانت عدن ميناء هاما في الملاحة العربية إلى الصين.

سفن تانغ تجوب البحر العربي

بينما كانت السفن التجارية العربية تبحر إلى الصين عادت السفن التجارية الصينية تبحر إلى عمان وسيراف والبحرين والأبلة وبغداد (3) وعدن لاستئناف التجارة. وكان في عدن مرسى خاص للسفن الصينية. وقد سبق أن عثر في سيراف على نقود يعود زمن ضربها إلى عهد أسرة تانغ. وربما سبق للسفن التجارية الصينية أن وصلت إلى الميناء اليمني الشحر وإلى السواحل الشرقية من أفريقيا. وكان بين شحنات السفن الصينية إلى البلدان العربية الحرير والقماش المقصب وأواني الخزف الصيني والورق والمسك وعود الند والكافور والقرفة وفرو الزبلين (سمور سبيرية) والسروج ..إلى آخره (4). وكانت في بغداد سوق خاصة ببيع الحرير وأواني الخزف الصيني وما إليها من البضائع الصينية.

كانت سفن تانغ مميزة بعظمة حمولتها ومتانة جسمها ومهارة بحاريها في فنون الإبحار، الأمر الذي مكنها من أن تعبر المحيط الهندي وتجوب البحر العربي حتى أصبحت معروفة للعالم قاطبة. ونظرا لضحالة مياه الخليج الفارسي وكثرة صخوره، كانت بعض السفن الصينية الضخمة الجسم والعميقة الغاطس ترسو في سيراف حيث تشحن البضائع القادمة من البصرة وعمان وغيرها من الأماكن(5). وكانت قالون الواقعة على شاطئ جنوب غربي الهند معروفة بأنها ميناء "فيه آبار مياه عذبة، يفرض على السفن الصينية وحدها تعرفة جمركية باهظة، فيلزم كل سفينة صينية بدفع ألف درهم، بينما لا يأخذ من أي سفينة غير صينية إلا مبلغا يتراوح من عشرة إلى عشرين دينارا" (6)، والمعروف أن الدرهم نقد فضي، والدينار نقد ذهبي؛ فلو كان سعر تبادل الدينار بالنسبة إلى الدرهم هو واحد إلى اثني عشر، لكانت السفينة الصينية تدفع ما بين ثلاثة أو سبعة أضعاف ما كانت السفينة غير الصينية تدفعه، ولعل استزادة التعرفة الجمركية على السفن الصينية ناتجة من عظمة حمولتها.

وكان القراصنة يظهرون في عرض البحار بين حين وآخر، فقد أفادنا المسعودي أنه بين الإجراءات الاحتياطية التي اتخذت لمقاومة النهب والسلب في البحر أن يتجهز التجار في كل أسطول من السفن الصينية بالسلاح الناري والغاز، والأسطول قد يقل أربعمائة تاجر وخمسمائة عسكري. ولذلك (كان القراصنة) لا يجرؤون على مهاجمة سفن هذا الأسطول (7). وقد أدت هذه التدابير العسكرية التي لجأت إليها السفن الصينية في حماية الملاحة إلى تأمين سلامة التجارة على امتداد المياه بين الصين والبلدان العربية، وإلى تطوير العلاقات الاقتصادية الصينية العربية.

والإسهام الآخر الذي قامت به السفن التجارية الصينية هي أنها ساعدت العرب على القيام بالملاحة إلى شرقي آسيا، وقد أفاد المسعودي أن "التجار في منطقة الخليج الفارسي لم يستطيعوا أن ينجزوا رحلاتهم البحرية الأولية عابرين البحر الجنوبي من المياه الصينية إلا على متن السفن الصينية الكبرى"(8).

3- ازدهار التجارة الصينية فيما وراء البحار والتجار العرب الذين نشطوا في تجارتهم في الصين

بلغت حكومة سونغ حد الإفراط في النفقات، فعانت من ضيق مالي. لكن "بعض الموارد المالية في جنوب شرقي البلاد كان يأتي من السفن التجارية" (9)، لذلك سعت حكومة سونغ سعيا حثيثا لتنمية التجارة في ما وراء البحار رغبة في استغلال الأسواق والسفن التجارية لزيادة الدخل السنوي. وزادت من اعتمادها على الأسواق والسفن التجارية حين لاذت بالركن الجنوبي من البلاد عام 1127. وقد بلغت الصين في ذلك الوقت مستوى عاليا جدا في صناعة السفن وفنون الإبحار، إذ أن السفن العابرة للمحيطات، والتي صنعت في هذا العصر، كانت عظيمة الحمولة متينة الحسم، وكان "ظهرها مستويا كل الاستواء، ومقدمها ضيق كحد السيف" (10)، وكانت سرعتها كبيرة إذا ما مخرت عباب اليم. وكان استعمال البوصلة في عهد أسرة سونغ يعتبر إنجازا خارقا لفنون الإبحار، وقد فتح عهدا جديدا في تاريخ الملاحة، حيث "استوعب البحارون علوم الفلك، فكانوا يسترشدون في تحديد مواقعهم بالنجوم ليلا وبالشمس نهارا، وبالبوصلة إذا كانت السماء غائمة." (11) لقد ساعدت الفنون المتقدمة في الملاحة على تطور المواصلات البحرية في عهد أسرة سونغ، فشهدت ازدهارا لم يسبق له مثيل. وبلغت العلاقات الاقتصادية بين الصين والبلدان العربية من التطور ما لم تبلغه من قبل، إذ قامت بين الطرفين تجارة متعددة الأشكال، علاوة على التجارة التقليدية المشروطة بتقديم الهدايا للحكومة الصينية تحت شعار دفع الجزية والإتاوة وتلقى عطايا منها ردا على هذه الهدايا.

السفن التجارية الصينية على سواحل البلاد العربية وسواحل شرقي أفريقيا

كانت حكومة سونغ تشجع على التجارة الخارجية، حتى إنها أجبرت التجار على الخروج في رحلات بحرية (12). وخلال الرحلات إلى البلاد العربية وشرقي أفريقيا شقت السفن التجارية الصينية خط ملاحة مباشرا بين سومطرة ومنطقة مهرة التي تقع على الطرف الجنوبي من جزيرة العرب (بما فيها ظفار من عمان والشحر الواقعة على شاطئ الشمال الشرقي من اليمن حاليا)، فأصبحت الرحلة البحرية بين الصين والبلاد العربية ذهابا وإيابا باستغلال الرياح التجارية، لا تستغرق أكثر من سنة.

وقد ورد في كل من المصادر الصينية والعربية القديمة ذكر للتجارة التي قامت بها السفن الصينية في عهد أسرة سونغ في البلدان العربية، إذ أفاد الإدريسي في كتابه ((نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)) أن السفن التجارية الصينية كثيرا ما كانت تصل إلى عدن ومدخل الفرات. كما جاء في ((أخبار البلدان)) أن السفن التجارية الصينية كانت تنطلق من الزيتون إلى البلدان العربية. وقد ذكر الطبيب العربي المروزي (توفى حوالي 1120) "أن الصينيين كانوا يشترون جميع البضائع بالنقود" (13)، والنقود التي اكتشفت في مقديشو شواهد كافية على وصول السفن التجارية الصينية إلى الصومال في شرقي أفريقيا. كانت السفن الصينية في عهد سونغ ضخمة الجسم، عميقة الغاطس، تبلغ حمولتها مئات الأطنان، لذلك "كان التجار الصينيون الذين يسلكون الطريق البحري، يستبدلون بسفنهم سفنا صغيرة في قالون إذا ما قصدوا مواصلة الرحلة إلى داشي" (14). وكان من يقدمون من داشي إلى الصين، يستقلون السفن الصغيرة باتجاه الجنوب ليصلوا إلى قالون، ثم يستبدلون بها سفنا كبيرة ليواصلوا رحلتهم إلى الشرق الأقصى. وكانت (Sanfuqi) (15) ميناء كبيرا في الخط البحري بين الشرق والغرب، حيث كان التجار الصينيون القاصدون إلى داشي يصلحون سفنهم فيها، ويبيعون بضائعهم ويشترون بضائع أخرى. وكانت من بين البضائع المنقولة إلى البلدان العربية والبلدان الأخرى، الأواني الخزفية والحرير والذهب والفضة والنقود والحديد والرصاص والقصدير والسيوف وجلود القرش والمخمل وغيره من الأقمشة. وكانت الأواني الخزفية من أهم صادرات الصين، وكان الخزف الصيني الأزرق من لونغتشيوان يصدر بكميات عظيمة إلى الخارج، ويلقى إقبالا عظيما في شتى البلدان العربية.

وفي أثناء التجارة بين الصين والبلدان العربية، سبقت لكل من صحار وعدن والقلزم- ميناء مصري على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر يومئذ- أن قامت بوساطة هامة، كما سبق للفاطميين أن حققوا نماء في الصناعة وازدهارا في التجارة في ذروة أيامهم في مصر في القرن الثاني عشر، حيث أقاموا علاقات تجارية وثيقة جدا مع البلدان الواقعة على سواحل البحر الأبيض ولا سيما إيطاليا غربا؛ ونمت تجارة الترانزيت مع الصين والهند شرقا، فنقلت كميات هائلة من البضائع الصينية والهندية إلى أوربا وشمال أفريقيا، عبر مصر من البحر الأحمر، بينما كان ميناء الإسكندرية دائما ما يشهد سفنا كثيرة ترسو في عرض مياهها، وهي قادمة من دول أوربا إلى مصر لتبتاع الخزف الصيني والحرير والبخور وغيرها من البضائع.

سياسة التجارة الخارجية في عهد أسرة سونغ والتجار العرب القادمون إلى الصين

لقد سعت الحكومة الصينية في أسرة سونغ إلى تنمية التجارة في ما وراء البحار، ففي مايو من العام الرابع في فترة يونغ شي من عهد الإمبراطور تاي تسونغ (987) من أسرة سونغ "أرسل ثمانية أفراد من حاشية البلاد ليتوجهوا في أربع بعثات، ومع كل منها حصة من المراسيم الإمبراطورية وسبائك الذهب والأقمشة، إلى بلدان ما وراء البحر الجنوبي لاجتذاب من يتقدم بالهدايا إلى الصين ولشراء البخور والعقاقير وقرون الكركدن واللآلئ وكافور بورنيو. وكان ضمن كل حصة من المال والمتاع ثلاثة مراسيم إمبراطورية خالية من المهدي إليه، ليمنحوا بها حيث يصلون" (16). أما اجتذاب من يتقدم بالهدايا إلى الصين فكان المقصود به استقدام التجار الأجانب ليقدموا الهدايا إلى البلاط، ويقوموا بالأعمال التجارية. أما المراسيم الخالية من المهدي إليه، فكانت براءات مخصصة للتجار الأجانب لم يكتب عليها الاسم بعد. وفي العام الثاني من فترة تسونغ نينغ من عهد الإمبراطور هوي تسونغ (1103)، صدر مرسوم آخر يطلب من إدارة شؤون السفن الأجنبية والتجارة الخارجية أن تستقدم الأجانب الذين يقدمون الهدايا. وفي العام السابع من فترة شاو شينغ من عهد قاو تسونغ (1137) من أسرة سونغ الجنوبية أصدر الإمبراطور مرسوما يقول "إن أعظم الخيرات هي واردات السفن التجارية الأجنبية. إن أحسنا التدبير، فستعود علينا بين حين وآخر بفضة تقدر بملايين الليانغات (الليانغ وحدة وزن للفضة)، أليس هذا أفضل من أن نجبي الأموال من الرعايا." (17) وفي العام السادس عشر من نفس الفترة أصدر مرسوما آخر يقول "إن الواردات من السفن الأجنبية والتجارة الخارجية تساعد خزانة الدولة إلى حد كبير، فيفضل أن نتبع السياسة السابقة لاستقدام من في الأرض النائية بحيث يشكلون جسر لتبادل الثروات والنفائس." (18) وبذلك يتضح لنا هدف أسرة سونغ من الاهتمام بالتجارة الخارجية.

  (البقية في العدد القادم)

ملاحظات:

(1)    ((Tongjian)) جـ 220. ربما يكون أولئك العساكر التازيان والفرس هم الجنود التازيان الذين سبق لهم أن نصروا أسرة تانغ في تهدئة فتنة آن لو شان، وقصدوا في العودة إلى بلادهم الطريق البحري بدل الطريق البري الذي أغلق في وجههم.

(2)        هي هانوي حاليا التي سبق لها أن كانت مقر مفوضية آننان التابعة لأسرة تانغ.

(3)         ((مروج الذهب)) جـ 1 ص 140.

(4)        راجع ((المسالك والممالك)) ص 69- 70.

(5)        ((أخبار الصين والهند)) الطبعة الصينية ص 7- 8.

(6)        نفس المصدر السابق، ص 8.

(7)         المسعودي: ((أخبار الزمان))، بيروت عام 1966، ص 62.

(8)         ((أخبار الصين والهند))، الطبعة الصينية، مقدمة الطبعة الفرنسية ص 25.

(9)        ((تاريخ سونغ- الاقتصاديات))، لائحة إدارة الأسواق والسفن التجارية.

(10)  شيوي جينغ: ((رحلتي إلى كوريا عند بعثي رسولا إليها في فترة شيوان خه))،جـ 2، كراسة 34، مادة السفن الزائرة ضمن ((مخزونات مكتبة المعوزين))، مجموعة 16.

(11)    ((أحاديث بينغتشو))، جـ2.

(12)  راجع ((أحاديث بينغتشو)) و((مجموعة المهمات الرئيسية في أسرة سونغ))، مادة 144 من قانون العقوبات 2.

(13)  نقلا عن تشو يي ليانغ: ((ما اكتشف حديثا مما كتبه العرب عن الصين في أوائل القرن الثاني عشر)) ضمن ((مجموعة الرسائل حول تواريخ أسرتي وي وجين والأسرتين الجنوبية والشمالية))، دار الصين، عام 1963.

(14)    ((دليل ما وراء الجبال الجنوبية))، جـ2.

(15)  هي بالمبانغ التي تقع على شاطئ الجنوب الشرقي من سومطرة وتسمى (Jugang) أيضا.

(16)    ((مجموعة المهمات الرئيسية في أسرة سونغ))، مادة 2 من "الموظفون" 44.

(17)     نفس المصدر السابق، مادة 20 من "الموظفون" 44.

(18)    نفس المصدر السابق، مادة 24 من "الموظفون" 44.

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

كلنا شرق
العلاقات الصينية اليمينية.. تنطلق إلى آفاق جديدة
((تاريخ العلاقات الصينية العربية))

 

Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.