محتويات العدد 7 يوليو (تموز) 2003

تأملات في التراث الثقافي الصيني (2- 2) الصيني

شوقي جلال

إذا كان التراث الثقافي الصيني على مدى التاريخ كشف عن خط فلسفي واحد غايته سعادة الإنسان/المجتمع على الأرض، ومحوره تناغم الوجود الإنساني مع المحيط الكوني في ضوء الالتزام بمبادئ أخلاقية محددة، إلا أن هذا لا يعني جموده وتحجره. ذلك أن شأنه شأن أي تراث ثقافي حضاري قد تعترضه فترات جمود تعبيرا عن جمود وتخلف المجتمع وعطالة فكره. ولكنه في مراحل النهوض يكشف عن صحوة فكرية، ويبرز قدرة مذهلة على الاستعادة الإبداعية لهذا المضمون في صورة متجددة، واجتهاد تأويلي ملائم لمقتضيات الأحداث والتحولات، ومن ثم يغدو قوة دافعة للمجتمع على طريق النهضة والتقدم.الفكري والثقافي مما

مثال ذلك أن الصين عاشت حقبة من الاضطرابات والفوضى امتدت من القرن السابع حتى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، والمعروفة باسم عصر الربيع والخريف والممالك المتحاربة 722/221 ق.م. وظهرت آنذاك مدارس فكرية متعددة، وبرزت شخصيات لحكماء عديدين، ومن أبرزهم كونفوشيوس، ولاو تسي، ومنشيوس. ناقشوا جميعا أزمة الإنسان والمجتمع في الصين، وطرح كل منهم رؤيته للخلاص. وساد آنذاك شعار، استعاره ماو تسي تونغ، يقول "دع مائة زهرة تتفتح، ومائة مدرسة فكرية تتبارى". وتعرف هذه الفترة أيضا بعصر المدارس الست، وهي:الفكري والثقافي مما

1. الكونفوشية، نسبة إلى كونفوشيوس 551-479 ق.م، وبرز فيها من حوارييه شيون تسي، ومنشيوس. وكان لكل مهما تأويل مميز للكونفوشية.الفكري والثقافي مما

2. الطاوية، نسبة إلى لاو تسي الذي قيل إنه عاش في القرن السادس ق.م.الفكري والثقافي مما

3. المووية، نسبة إلى مو تسي (470/391 ق.م)الفكري والثقافي مما

4. المناطقة أو الاسميون مؤسسها  هوي شي (380/300 ق.م)الفكري والثقافي مما

5. العرافون، ويمثلها تسو يين (340/260 ق.م)الفكري والثقافي مما

6. التشريعية ويمثلها فكر شيون تسي (280/233 ق.م)الفكري والثقافي مما

حاولت كل مدرسة كشف أسباب الفوضى في الأخلاق، والوجدان وطبيعة الإنسان. واجتهدت كل منها لوضع رؤيتها ومذهبها وبيان سبيلها للخلاص من الفوضى واستعادة الأمن والاستقرار، أي التناغم الاجتماعي، ومن ثم الكوني. وحددت كل مدرسة آلية الخلاص، ولكنها جميعها لم تخرج عن المحور الثقافي والنزعة الإنسانية.الفكري والثقافي مما

وأبرز مذهبين ترسخا في الوجدان والسلوك هما الكونفوشية والطاوية، إذ تبادلتا مناسبات الهيمنة الثقافية في تواز مع طبيعة الظروف والأحداث. فالكونفوشية، وهي شريعة ونظام سياسي وأخلاقي ووعاء ديني وإطار من القيم، أي دنيا ودين معا، تتميز بأنها إيجابية في عودتها إلى التغيير الأخلاقي والالتزام بقواعد السلوك لإصلاح المجتمع واستقرار نظامه. ويمثل التعليم والتربية للعامة وللحكام آلية التغيير. ولهذا فإنها تزدهر في فترات الرخاء. هذا على عكس الطاوية، فإنها سلبية تدعو الإنسان إلى الانسحاب إلى داخله، ومن ثم تروج في فترات الأزمات وشدة الاستبداد والطغيان. ولهذا تجاوبت الطاوية مع البوذية من حيث رؤية الخلاص في التوحد والاعتزال دون تدخل، وهو ما يناسب حياة الكهنة والرهبان. ودعت البشر إلى الحفاظ على الطبيعة، والطبيعة البشرية في بساطتهما الأصلية.الفكري والثقافي مما

ومرت الكونفوشية بفترات تحول سلبا وإيجابا، بين الجمود والدينامية في التأويل. وهكذا نجدها أعاقت التطور الاجتماعي حينا بسبب الجمود والتزام الشكليات والاحتفاء بالطقوس دون محاولة تطويرها ذاتيا لمواكبة الواقع. وهي في هذا، شأن جميع المعتقدات التي يصيبها، أو يصيب أهلها، داء الجمود وتحجر الفكر وعطالة التأويل، والعجز عن تطوير النص خدمة للحياة ودفعا بها على طريق الصعود، فإذا المجتمع يركد، ويتخلف أهله ويتحولون إلى فريسة للأقوى، ومضغة لطغيان الحاكم المطلق المستبد.الفكري والثقافي مما

وعلى الرغم من أن كونفوشيوس في حكمته ومأثوراته كان محافظا في فكره، داعية إلى طاعة الحاكم، إلا أن تراثه الفكري تضمن نصوصا تسمح بتأويلها على نحو يحفز المجتمع إلى الحركة المتطورة الصاعدة. مثال ذلك أنه قال في كتابه "الحوليات" عن نظام الحكم: "لم تتشكل الحكومات لراحة ومتعة الحكام؛ ولا حتى لحفظ القانون والنظام في الدولة؛ بل لسعادة واستنارة الشعب". ويماثل هذا قولنا: "حيث المصلحة، أي مصلحة الشعب والمجتمع، فثم شرع الله." مما يعني حظر التحجر والجمود والالتزام بشكليات النص، بل أن تكون عيوننا وعقولنا على الواقع والمجتمع. وأكد كونفوشيوس في "الحوليات" على حب الإنسانية. وتعني الكلمة حب الخير للبشر. ويرى أن عظمة الإنسان تقاس باتساع نطاق الروح الإنسانية عنده، وأن يستشعر البهجة لحبه الآخرين من صميم القلب." ودار جدل بين أتباعه وحوارييه عن التقليد والتجديد، أي الالتزام بشكل النص أم بواقع وحقيقة الحياة. وتساءل بعضهم، أيهما أحب إلى النفس: كونفوشيوس أم الحقيقة؟ وكانت الإجابة أن كونفوشيوس أحب الحقيقة وسعي إليها، لذلك فإن حب الحقيقة التزام بنهج الكونفوشية وروحها.الفكري والثقافي مما

لذلك ظهر تحت عباءة الكونفوشية منذ قديم الزمن مفكرون ومؤولون حافظوا على الجوهر والقيم: العدالة، التناغم، المحبة، وإجلال الإنسان، ولكنهم تباينوا في تأويلاتهم وتحديد آلية الإنجاز. وتراوحت مذاهبهم ما بين توجه شعبي وإقرار بخيرية الإنسان وبين النقيض. ونذكر هنا على سبيل المثال منشيوي أو منغ تسي (381/279 ق.م). ومثل مذهبه الكونفوشي فلسفة سياسية وعقلانية. يقرر أن الدولة ركيزتها الأسرة، والأسرة ركيزتها النفس. يقول المحب للإنسانية محب للآخرين ودعا إلى حكومة إنسانية ضد النزعة الاستبدادية والعنف، وطالب بالعودة بالحكم إلى الشعب، بل دافع عن حق الناس في التمرد ضد الطغاة.الفكري والثقافي مما

وبعد هزيمة الصين في حرب الأفيون (1840-1842)، ثم هزيمتها أمام اليابان (1894-1895)، وكذا مع تأثير علوم الغرب ومظاهر تقدمه العسكرية والفكرية، تساءل مفكرون صينيون محدثون عن دور الكونفوشية المحافظة في الهزيمة، ومسؤولياتها في إشاعة نزعة التواكل والاستسلام وحرفية الشكليات. وكان للهزيمتين وقع الصاعقة على الصين التي ظلت طوال تاريخها تؤمن بأنها الأمة المركز في العالم، وأنها الأكثر تقدما حضاريا، فنا وتقانة وعلما، ومن ثم ليست بحاجة إلى الآخرين. ظهرت اجتهادات تدعو إلى المصالحة والتوفيق بين مقتضيات التغيير العصري وبين الكونفوشية التقليدية التي لا تسمح بالخروج عن معاييرها في السياسة والاقتصاد.الفكري والثقافي مما

وبدأت محاولات الاجتهاد والتجديد. وكشفت الكونفوشية عن جوهرها الدينامي في التأويل. وعمل مفكرون عصريون على تجديد وتثوير التراث الثقافي الصيني لدفع الصين إلى التحديث الاجتماعي العصري. وأثمرت الجهود ثورة وطنية وفكرية بقيادة صون يات صن، أعلنت معها قيام أول جمهورية في الصين. ولكن الواقع الاجتماعي والفكري تراجع بعد وفاة الزعيم الوطني صون يات صن. وعادت الصين من جديد في ظل حكم الكومينتانغ إلى الهيمنة الأجنبية من الخارج.الفكري والثقافي مما

وامتد هذا الواقع الانهزامي حتى نجحت ثورة الصين بقيادة ماو تسي تونغ وإعلان جمهورية الصين الشعبية. ولكن الثورة الجديدة لم تعمد إلى تجديد وتطوير الفكر الكونفوشي، بل اتخذت رؤية مغايرة. قالت إنه تقليد، ودعت إلى نبذ التقليد. وكان لهذا آثاره السلبية على الشخصية الصينية. وبلغت النكسة أشدها مع دعاة ما سمي "الثورة الثقافية". ولكن بعد إخفاق هذه "الثورة"، بدأ رد الاعتبار لفكر كونفوشيوس والمفكرين الصينيين في صورة ثورية جديدة تلبي مقتضيات التطوير العصري.الفكري والثقافي مما

بدأت في ثمانينيات القرن العشرين مع ثورة التصحيح، عملية إحياء الكونفوشية في صورة تأويلية إبداعية تحافظ على الروح وتدعم تماسك المجتمع، وتعزز الانتماء والكبرياء القومي، حتى تكون الكونفوشية أساسا لنظام عصري. ويجتهد المفكرون الآن لبيان على أي نحو يمكن للكونفوشية أن تسهم في العولمة الثقافية.الفكري والثقافي مما

ويرون في هذا الصدد أن تحافظ الصين على تراثها الثقافي، ولكن في صورة إبداعية وتجديدية مرنة تلائم مقتضيات حضارة العصر، وتدعم عملية التطوير الاجتماعي. ويحرصون على أن تسهم الكونفوشية في صورتها هذه إيجابيا في تغذية ثقافات العالم مثلما تفيد منها، أي تبادل النفع والتأثير من خلال التفاعل الإيجابي. إذا كانت الكونفوشية تعتمد مبدأ التناغم وحب الطبيعة دون سلبية، فإنها في صورتها الجديدة المتطورة تدعم الوئام بين الإنسان والإنسان وبين المجتمعات، أي نزعة إنسانية جديدة بين مجتمعات وأمم العالم في تناغم، وتدعم الوئام بين الإنسان والبيئة، وهو ما يعني أيضا الحفاظ على التوازن الأيكولوجي، لأن الأرض بيت ومأوى الإنسان. ومن ثم العمل على إصلاح الطبيعة والتنمية العلمية التقانية دون جور أو إفساد للطبيعة، مأوى البشرية الآن ومستقبلا. وتمتد هذه النظرة الكونفوشية الجديدة إلى تأكيد حب الحياة، لتكون الدنيا موطن سعادة وأرضا للسلم والرخاء. ومثلما كان الإمبراطور يحمل مسؤولية تهيئة أسباب التناغم في المجتمع، كذلك فإن مسؤولية الدول كنظم قومية حاكمة، وكذا المنظمات الدولية والإنسان الفرد، يحملون جميعا مسؤولية تهيئة أسباب الوئام والتناغم بين الدول والقوميات والبشر في ثقة واحترام متبادلين.الفكري والثقافي مما

ويدعو أصحاب التأويل الجدد للثقافة الكونفوشية إلى أن يكون هدف العولمة الثقافية كعملية تاريخية، هو تصعيد وتجميع ثقافات مختلف القوميات في العالم والارتقاء بها دون هيمنة ثقافة بذاتها وفرضها عسفا باعتبارها ثقافة عالمية. وهكذا يكون الهدف في ضوء النظرة الإنسانية الجديدة إنجاز تطور كامل لثقافات مختلف القوميات والأمم. وهكذا أيضا تكون العولمة الثقافية في الظرف الكوني الجديد، جهدا مشتركا على طريق ازدهار ثقافات الأمم، ومن خلال إسهامات إيجابية لكل أمة في إطار مبدأ الوئام والتناغم.الفكري والثقافي مما

ويلقي هذا الجهد التأويلي ضوءا كاشفا لدور التراث الثقافي الاجتماعي، وكيف يكون إحياؤه أو حياته رهن طبيعة حياة المجتمع وفعاليته التجديدية النشطة. إذ تبين الحاجة الماسة دائما وأبدا إلى تجديد التراث الثقافي وتطويره ليكون قوة دفع لتطوير المجتمع. ويكشف كذلك عن أن جمود الفكر يعني جمود فعل التطوير والتغيير في المجتمع، مما يشكل عقبة كؤودا تحول دون المجتمع ومواكبة التحولات الحضارية مع اختلاف العصور. المشكلة في حامل التراث الثقافي، فهما وفعالية وإبداعا وليست في التراث ذاته.الفكري والثقافي مما

يمثل التراث الثقافي في حالة الجمود في عصور التخلف عبئا ثقيلا على المجتمع، ويجنى عليه ركودا وتحللا. ولكن مسؤولية الإنسان عن التطوير ومواجهة التحديات من خلال الفعل الاجتماعي الإنتاجي تعنى تطوير وتجديد الإطار الفكري بما يبدعه من فكر جديد قرين استعادة التراث على نحو إبداعي.الفكري والثقافي مما

التراث الثقافي للمجتمع، ولأي مجتمع، هو في صورته حركة  حية متطورة مع حياة وتطور المجتمعات، وليس تقليدا ثابتا واجب الإتباع شكلا مع امتداد الأجيال والقرون، ومن ثم ليست نصا مقدسا مكرورا جامدا. إذ بقدر ما تكون حياة التراث الثقافي حياة متجددة ومتطورة رهن تطور المجتمع ووفاء لاحتياجاته، كذلك فإن حياة وتطور المجتمع رهن تطور التراث في صورة تغذية متبادلة وتكامل مشترك.. فالمجتمع الجديد لا يولد من عدم، وليس تكرارا لتقليد، وإنما يولد من رحم القديم، حاملا بعض صفاته المعدلة. ويأتي الميلاد الجديد قرين فعل اجتماعي نشط إنتاجي إبداعي يولد فكرا جديدا وإطارا ثقافيا جديدا للعمل .. وهكذا يغتني الإنسان/ المجتمع، ويغتني، ويتطور مرحليا التراث الثقافي.. فكر جديد وفعل إنتاجي إبداعي جديد.. وعقل جديد.. ومن ثم تطور حضاري مطرد، وضمان اجتماعي للتقدم والازدهار الفكري والثقافي مما يعطي المجتمع قدرة على حماية الذات ونضج وازدهار الهوية.الفكري والثقافي مما

--+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-+-

 

 

 

 


 

 

كلنا شرق
Address: 24 Baiwanzhuang Road, Beijing 100037 China
Fax: 86-010-68328338
Website: http://www.chinatoday.com.cn
E-mail: chinatoday@263.net
Copyright (C) China Today, All Rights Reserved.