اتفاقيات الاستثمار تعزز العلاقات الاقتصادية الصينية- الأمريكية

تمر منطقة آسيا والمحيط الهادئ بمرحلة غير مسبوقة من التعقيد، ليس فقط بسبب القلق الأمني السائد بين الدول الإقليمية الرئيسية، وإنما أيضا لزيادة حدة التنافس الاقتصادي بينها. الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها، تدفع بقوة مفاوضات اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، سعيا للوصول بهذا الاتفاق للتجارة الحرة إلى مسويات أعلى، بينما تدعم  الصين وتشارك بنشاط في مفاوضات الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) التي دعت لها رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان). وقد لاحت في الأفق، إلى حد ما، بوادر تنافس اقتصادي بين بكين وواشنطن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولكن حقيقة الاعتماد المتبادل بين اقتصادي البلدين يفرض عليهما تخفيف بل وإزالة التوترات الاقتصادية بينهما، ومن ثم ينبغي عليهما التخطيط لترتيباتهما الاقتصادية الإقليمية من خلال آليات ثنائية في إطار وسائل ثنائية في إطار منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (أبيك). ولا شك أن اتفاقيات الاستثمار الثنائية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت في عام 2013، إجراء هام لتعزيز التعاون الثنائي والحفاظ على استقرار منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

اختراق كبير

العلاقة الاقتصادية الصينية- الأمريكية هي حجر الزاوية للعلاقات الصينية- الأمريكية الشاملة. خلال ثلاثين عاما، منذ أن انتهجت الصين سياسة الإصلاح والانفتاح، ارتفع مستوى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين بكين وواشنطن بشكل متواصل. وفي عام 2013، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين خمسمائة وعشرين مليار دولار أمريكي، ووصل حجم الاستثمارات الأمريكية المباشرة التي استخدمت فعليا في الصين إلى ثمانية مليارات ومائتي مليون دولار أمريكي، وبلغ حجم الاستثمارات الأمريكية المباشرة في سوق الأسهم الصينية بين خمسين وسبعين مليار دولار أمريكي. وحتى عام 2012، بلغ حجم الاستثمارات الصينية في سوق الأسهم الأمريكية سبعة عشر مليار دولار أمريكي. ومع ارتفاع مستوى الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدولتين، زادت تدريجيا الخلافات التجارية بينهما. العقبتان الرئيسيتان اللتان تواجهان الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة الأمريكية هما اختلال الميزان التجاري وسعر صرف العملة الصينية (الرنمينبي)، وهما أيضا النغمتان النشاز في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. إن العلاقات الاقتصادية الثنائية في حقيقتها منفعة متبادلة، ومن أجل حل القضايا المتعلقة بالعلاقات التجارية الثنائية، أجرت بكين وواشنطن منذ عام 2006، الحوار الاقتصادي الاستراتيجي، وبعد تولي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، تم تعديل هذا الحوار ليصبح "الحوار الاستراتيجي والاقتصادي". وعبر هذه المنصة، يناقش الطرفان القضايا الاستراتيجية والطويلة الأمد والشاملة التي تتعلق بتنمية الطرفين.

في الحوار الاقتصادي الاستراتيجي الرابع الذي عقد في يونيو عام 2008، اقترح البلدان الدخول في مفاوضات اتفاقيات الاستثمار الثنائية. وفي الحوار الاستراتيجي والاقتصادي الذي عقد في يوليو عام 2013، أعلن الطرفان استئناف مفاوضات اتفاقيات الاستثمار الثنائية. الولايات المتحدة الأمريكية تريد من جانبها أن توفر أفضل الضمانات لمؤسساتها عن طريق هذه الاتفاقيات، من حيث دخول السوق الصينية، المعاملة الوطنية، مبدأ عدم التمييز، ملكية الأعمال، شروط إنجاز الاستثمار، تسوية النزاعات بشكل محايد وغيرها. وتعتبر هذه الاتفاقيات من أهم الاتفاقيات منذ توقيع الفصل السابع عشر لاتفاقيات الاستثمار في اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (نافتا). وبالنسبة للصين، فإن اتفاقيات الاستثمار الثنائية تساعدها على زيادة استثماراتها المباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية وتسوية النزاعات بشكل محايد، مما يمكّن الشركات الصينية من تجنب المعاملة غير العادلة من جانب لجنة الاستثمار الأجنبي الأمريكية. تشمل مفاوضات اتفاقيات الاستثمار الثنائية مرحلتين: المرحلة الأولى تتعلق بالبنود، والمرحلة الثانية تتعلق بالقائمة السلبية (negative list). حتى يوليو عام 2014، أجرى الطرفان ثلاث عشرة  جولة من المفاوضات. وفي يوليو عام 2014، دخل الطرفان المرحلة المتعلقة بالقائمة السلبية.

إلى جانب ذلك، تساعد اتفاقيات الاستثمار الثنائية المؤسسات الأمريكية على الاستثمار في الصين. وقد وصف وزير الخزانة الأمريكي جاكوب ليو إعلان الطرفين تفعيل مفاوضات اتفاقيات الاستثمار الثنائية، بالاختراق الكبير.

الفوز المشترك للتجارة الصينية- الأمريكية

تتمثل الأهداف الرئيسية لواشنطن من توقيع اتفاقيات الاستثمار الثنائية هي: أولا، حماية الاستثمارات الأمريكية في الدول الأخرى؛ ثانيا، تعزيز اتخاذ المزيد من السياسات الموجهة نحو السوق للتعامل مع الاستثمار الأجنبي بشكل مفتوح وشفاف وعدم التمييز؛ ثالثا، تعزيز تطور وتنفيذ معايير القوانين الدولية المتفقة مع أهدافها المذكورة. بعبارة أكثر تحديدا، هذه الأهداف هي: أولا، أن اتفاقيات الاستثمار الثنائية، والتي تشمل كل مراحل الاستثمار وكل القطاعات، سوف تساعد المؤسسات الأمريكية في دخول السوق الصينية. جوهر المفاوضات هو "القائمة السلبية" للصناعات، فباستثناء الصناعات المدرجة في "القائمة السلبية"، يمكن للمؤسسات الأمريكية أن تدخل أي سوق أخرى للصناعات. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية هذه الاتفاقيات وسيلة هامة لمساعدة مؤسساتها في دخول السوق الصينية. ثانيا، أن واشنطن ترى أن هذه الاتفاقيات سوف تساعد مؤسساتها في الحصول على المعاملة الوطنية ومعاملة عدم التمييز بصورة عميقة. حسب استطلاع للرأي أجراه مجلس الأعمال الأمريكي- الصيني، فإن المؤسسات الأمريكية ترى أن تحدياتها الرئيسية في السوق الصينية هي: الموافقات الإدارية، منافسة المؤسسات الصينية، عدم العدالة في تنفيذ القانون، قيود ومعايير وتقييم الاستثمار وغيرها. سوف تساعد هذه الاتفاقيات المؤسسات الأمريكية في الحصول على المزيد من المعاملة الوطنية. ثالثا، أن هذه الاتفاقيات سوف ترفع معايير العمل ومعايير ظروف العمل. وفقا لبنود الاتفاقية الثنائية للاستثمار التي وافقت عليها واشنطن في عام 2012، فإن معايير العمل وظروف العمل والإدارة في البلد المتلقي للاستثمار الأمريكي، يجب أن تصل إلى مستوى أعلى نسبيا. رابعا، مطالبة واشنطن لبكين بتخفيف أو إزالة القيود عن نسبة امتلاك الشركات الأمريكية للاستثمار في الصين، الأمر الذي يغير قواعد عمل الشركات الأمريكية في الصين. وعلى سبيل المثال، لا يجوز أن تتجاوز ملكية الاستثمار الأجنبي 50% في صناعة السيارات وفي قطاع التأمين على الحياة، وهذا يقيد تطور المؤسسات الأمريكية في السوق الصينية. هذه الاتفاقيات سوف تساعد في فتح السوق الصينية أمام الشركات الأمريكية.

قبل عام 2000، كان تدفق الاستثمار المباشر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من جانب واحد هو الجانب الأمريكي. المؤسسات الأمريكية تستثمر في الصناعات الكثيفة العمالة وقطاع التصنيع في الصين، ولكن المؤسسات الصينية لم تكن لديها القدرة والفرصة للاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن أجل تحقيق ضمان القيمة وزيادة احتياطي النقد الأجنبي، كانت الحكومة الصينية تقوم بشراء سندات الخزانة الأمريكية وسندات أخرى. بعد عام 2000، ازدادت قدرة المؤسسات الصينية على الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد زاد حجم الاستثمار الصيني المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية من 587 مليون دولار أمريكي عام 2007، إلى خمسة مليارات ومائتي مليون دولار أمريكي. حاليا، حجم الاستثمار الصيني المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من الاستثمار الأمريكي المباشر في الصين. لكن، الاستثمار الصيني المباشر يواجه دائما التمييز والتحيز من لجنة الاستثمار الأجنبي الأمريكية. في عام 2005، فشلت مؤسسة CNOOC في الاستحواذ على شركة يونوكال، وفشلت شركة ZTE الصينية في شراء مؤسسة أمريكية، وفشلت شركة سانيي المحدودة للصناعة الثقيلة في الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية. فشل المؤسسات الصينية المتكرر في الاستثمار المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية جعل بكين تدرك ضرورة الدخول في مفاوضات اتفاقيات الاستثمار. أولا، لأن اتفاقيات الاستثمار الثنائية تساعد المؤسسات الصينية على نيل معاملة أكثر عدالة وتجنب تسييس الاستثمار. ترتاب الإدارة الأمريكية دائما في أهداف استثمار المؤسسات الصينية بحجة قلقها على أمنها الوطني. هذه الاتفاقيات سوف تضمن المعاملة الوطنية للمؤسسات الصينية، وتتيح لها اللجوء إلى هيئة محايدة لحل نزاعات الاستثمار. ثانيا، أن هذه الاتفاقيات تسهم في معالجة مشكلة اختلال الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية. يتم الجمع بين اختلال الميزان التجاري بين البلدين وسعر الصرف والتوظيف، ومن ثم فإن استثمار المؤسسات الصينية المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية سيساهم في تخفيف هذه الحالة. خلال الخمس سنوات الأخيرة، وفرت المؤسسات الصينية التي تستثمر في الولايات المتحدة الأمريكية 70 ألف وظيفة داخل الأراضي الأمريكية. ثالثا، أن هذه الاتفاقيات تسهم في دفع الإصلاح الاقتصادي في الصين. لقد أدى تطبيق الإصلاح والانفتاح في الصين لمدة أكثر من ثلاثين سنة إلى تعزيز التنافس الخارجي ودفع إصلاح السوق المحلية. وقد عزز انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 تنمية اقتصادها ومستوى سوقها. سوف تصبح اتفاقيات الاستثمار الثنائية بين البلدين قوة داعمة خارجية لتعميق الإصلاح في الصين.

دفع تطور العلاقات الصينية- الأمريكية

تسعى بكين وواشنطن إلى إقامة علاقات من نمط جديد بين القوى الكبرى، تقوم على عدم الاحتكاك وعدم المواجهة، والاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة والفوز المشترك. المنفعة المتبادلة والفوز المشترك هما أساس علاقة البلدين. تساهم اتفاقيات الاستثمار الثنائية في دفع تطور العلاقات الصينية- الأمريكية. أولا، لأن هذه الاتفاقيات سوف تضع أساسا قانونيا أكثر متانة لعلاقات التبادل التجاري، مما يساهم في تفادي تسييس العلاقات التجارية. فالمؤسسات الصينية تستطيع أن تحصل على معاملة عادلة أكثر للاندماج والاستحواذ في الولايات المتحدة الأمريكية، وتسهم الاتفاقيات في تخفيف قيود لجنة الاستثمار الأجنبي الأمريكية. ثانيا، لأن هذه الاتفاقيات تساعد في حل النزاعات التجارية القائمة، والتي تشمل اختلال الميزان التجاري والخلاف حول سعر صرف الرنمينبي ودخول السوق وغيرها. خلال العشر سنوات الأخيرة، ازداد عدد النزاعات التجارية الثنائية باستمرار، مما يتطلب وسيلة لحلها وتخفيفها. فهذه الاتفاقيات تساعد في دفع توازن وتناغم العلاقات التجارية الثنائية. أخيرا، وتحت مظلة ضمان هذه الاتفاقيات، سيرتفع حجم تدفق الاستثمار المباشر في الاتجاهين. وسوف يأتي الاستثمار الصيني المباشر في الولايات المتحدة الأمريكية بفرص توظيف وتطور وابتكار واتصالات مع سوق الصين ومؤسساتها في الولايات المتحدة الأمريكية. وتحت مظلة دفع قوة السوق، سوف تزداد علاقات التفاهم والتبادلات بين الشعبين أيضا.

تشيو بوه: نائب رئيس معهد العلاقات الدولية في جامعة الصين للشؤون الخارجية