بحر الصين الجنوبي وآفاق منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان

في السنوات الأخيرة، أثارت فيتنام والفليبين وغيرهما من دول رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، توترات متصاعدة مع الصين بشأن النزاع على السيادة في بحر الصين الجنوبي. بيد أن ذلك لم يكن له تأثير كبير على السياق العام للعلاقات بين الصين ورابطة آسيان في سعيهما إلى التنمية السلمية والفوز المشترك. وقد طرحت بكين في الفترة الأخيرة، أفكارا جديدة لحل قضية بحر الصين الجنوبي، التي تمثل عائقا أمام جهود الصين وآسيان لتعزيز التعاون التجاري والاستراتيجي بينهما، وهكذا لم تفلح جهود واشنطن لاحتواء الصين وتفكيك آسيان والتدخل في مسيرة التكامل بشرقي آسيا.

الخطة الأمريكية

نزاع الصين مع فيتنام والفليبين وغيرهما من دول جوار جزر بحر الصين الجنوبي، موجود منذ زمن طويل، وقد ظلت الصين ملتزمة بمبدأ "التمسك بالسيادة، وتجميد الخلافات، والتنمية المشتركة" في حل القضايا المعنية. ولفترة طويلة، منذ سبعينات القرن الماضي، لم تكن قضية بحر الصين الجنوبي قضية إقليمية ساخنة، وإنما مجرد احتكاكات صغيرة كانت تتوارى دائما بفضل الجهود الدبلوماسية للأطراف المعنية، فحققت منطقة بحر الصين الجنوبي حالة من السلم بشكل عام. ولكن، بعد عام 2009 الذي أعلنت فيه واشنطن عودتها إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وعززت وجودها العسكري والدبلوماسي في دول آسيا والمحيط الهادئ، ظهرت سلسلة من الأحداث الإقليمية الساخنة منذ عام 2010، ومنها حادثة غرق الفرقاطة تشيونان وقضية بحر الصين الجنوبي وقضية جزر دياويوي وغيرها. وقد استغلت اليابان وكوريا الجنوبية هذه الأحداث للقيام بمناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية والتقرب إليها، في وقت تصاعدت فيه حدة التوترات بين الصين وفيتنام والفليبين. وهكذا تحول الاتجاه الرئيسي لمنطقة شرق آسيا تدريجيا من "الاقتصاد والتعاون والفوز المشترك" إلى "الأمن والشكوك والمعادلة الصفرية".الأكثر من ذلك، أن تحالف آسيا- المحيط الهادئ الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وهو من تراث الحرب الباردة، هو المهيمن على الرؤية الأمريكية للاندماج الاقتصادي الإقليمي. على هذه الخلفية، سعت واشنطن إلى إقامة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ، لتكون بديلا لمنظومة "آسيان- الصين- اليابان- كوريا الجنوبية" و"منطقة التجارة الحرة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية"، وفقا لخطة أمريكية للتكامل الاقتصادي الإقليمي، ولجعل تكامل شرقي آسيا في إطار تقوده واشنطن.

إضافة إلى التدخل في مسيرة تكامل شرقي آسيا، تريد واشنطن تحقيق هدفين؛ الأول هو اختلاق "الخطر الصيني"، لاحتواء نهوض الصين السلمي. إن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية المتكرر في قضية بحر الصين الجنوبي، لا يهدف إلى تأجيج الصراع بين الصين والدول المجاورة لها في منطقة بحر الصين الجنوبي فحسب، وإنما أيضا تعظيم شكوك هذه الدول في استراتيجية التنمية الصينية وإثارة قلقهم من التعاون مع بكين، مما يشوه صورة الصين في العالم. ويضع حواجز أمام مسيرة نهوض الصين. الثاني هو رغبة واشنطن في تفكيك آسيان واختطافها بقضية بحر الصين الجنوبي، مما ينحرف بمسار آسيان الرئيسي في التعاون مع الصين. من خلال تأجيج خلاف بحر الصين الجنوبي، نجحت واشنطن في دهورة علاقات كل من فيتنام والفليبين مع الصين، حيث انتشرت مشاعر سلبية تجاه الصين في هذين البلدين، فشهدنا حوادث قتل الصينيين في الفليبين، وأعمال شغب ضد الشركات الصينية في فيتنام. حاليا، تكثف واشنطن جهودها في تحريض الفليبين وفيتنام، ليدفعا آسيان إلى صياغة إعلان مشترك بشأن بحر الصين الجنوبي، ولتوسيع مشاعر البلدين السلبية تجاه الصين إلى آسيان باعتبارها منصة متعددة الأطراف. وقد أثارت قضية العلاقة مع الصين خلافات معلنة وغير معلنة بين أعضاء آسيان، مما يهدد بتفكيك آسيان ومصالحها ويزيد من صعوبة التعاون بين آسيان والصين في المرحلة القادمة.

مخاطر على آسيان

ثمة ثلاثة عوامل ساعدت على نجاح واشنطن في توظيف قضية بحر الصين الجنوبي. الأول، أن منطقة شرقي آسيا تفتقر إلى نمط جديد للتعاون الأمني، فباستثناء التعاون الاقتصادي، يكون التعاون في المجالات الأخرى متأخرا، يواجه مشاكل كثيرة خلفتها فترة الحرب الباردة. وهذا هو السبب الأصلي لوجود تحالف آسيا والمحيط الهادئ ولعب دوره في المنطقة خلال فترة الحرب الباردة. الثاني، وجود خلافات كثيرة بين أعضاء آسيان، تتمثل في اختلافات الأعضاء في الأهداف الاستراتيجية والمصالح الوطنية بعد توسيع التحالف، إضافة إلى فتور حيوية أعضاء آسيان إلى حد ما بشأن تعزيز التكامل الإقليمي. الثالث،  "مفهوم التوازن بين الدول الكبيرة"، فبنظرة واقعية، تريد آسيان الحصول على فوائد من كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وبعبارة أخرى تريد "االاعتماد على بكين في الاقتصاد وفي الأمن على واشنطن"، وتأمل آسيان أن تتواصل الضوابط والتوازنات بين بكين وواشنطن  لتحقيق استقلالية آسيان ومرونتها إلى أقصى درجة ممكنة.

في ظل الخطة الأمريكية التي وظفت نزاع بحر الصين الجنوبي لوضع حواجز أمام التعاون بين الصين وآسيان، تواجه آسيان ثلاثة أنواع من التحديات، الأول، أنه إذا فترت عزيمة تعزيز مسيرة التكامل الاقتصادي والرغبة في تشكيل الهيكل الأمني الإقليمي، فإن  إطار آسيان سيتم تهميشه أو استبداله بهيكل أمني وترتيبات اقتصادية بقيادة أمريكية. وإذا حدث ذلك، فإن آسيان لن تكون القوة السياسية والاقتصادية الجوهرية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بل ستصبح منصة حوار هامشية، أو قد تتجه إلى هاوية التلاشي. الثاني، أن وضع قضية بحر الصين الجنوبي في مكانة كبيرة بجدول أعمال آسيان الرئيسي، سوف يثير خلافات بين الأعضاء تؤدي في النهاية إلى تفكك الرابطة. الثالث، أن آسيان باعتبارها عنصر توازن بين الدول الكبيرة، إذا سمحت بأعمال بعض الدول الإقليمية لتأجيج التوترات في بحر الصين الجنوبي، فلن تستفيد من الضوابط والتوازنات بين الدول الكبيرة، بل ستزيد خطر المواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وبالتأكيد فإن النزاع بين هذين البلدين هو ما لا تريده آسيان، كما أنها لا تستطيع تحمل عواقبه.

المستقبل مستحق للانتظار

حاليا، هناك ثلاثة عناصر تدفع الصين وآسيان لاجتياز الحفر التي تركتها قضية بحر الصين الجنوبي.

الأول، تواصل الصين وآسيان تعزيز تعاونهما الاقتصادي، بسبب الاعتماد المتبادل والذي لا بديل له. خلال "العقد الذهبي الأول" للشراكة الاستراتيجية بين الصين وآسيان، ارتفع حجم التبادل التجاري بين الطرفين من 767ر54 مليار دولار أمريكي في عام 2002، إلى 61ر443 مليار دولار أمريكي في عام 2013. حاليا، الصين أكبر شريك تجاري لآسيان التي تمثل ثالث أكبر شريك تجاري للصين خلال ثلاث سنوات متتالية، ورابع أكبر سوق لصادراتها وثاني أكبر مورد لها. بدأت في أغسطس هذا العام مفاوضات نسخة محدثة من منطقة الصين- آسيان للتجارة الحرة. وقد استغرق بناء النسخة المحدثة من منطقة التجارة الحرة أربع سنوات فقط مما يدل على عزم الجانبين على دفع تعاونهما الاقتصادي.

الثاني، أن الجانبين توافقا على "الطريق المزدوج" في حل قضية بحر الصين الجنوبي، مما وضع الأساس لمنع تضرر التعاون الاقتصادي بين الطرفين بسبب قضية بحر الصين الجنوبي. في أغسطس هذا العام، اقترح وزير خارجية الصين، وانغ يي، أثناء اجتماعات وزراء خارجية آسيان في ميانمار، آلية "الطريق المزدوج" لحل قضية بحر الصين الجنوبي، والتي تعني أن تقوم الأطراف المعنية بحل النزاعات المعنية بشكل سلمي من خلال المشاورات الودية المباشرة، بينما تتحمل الصين وآسيان معا مسؤولية أمن منطقة بحر الصين الجنوبي واستقرارها. وقد لقي هذا الاقتراح قبولا من وزراء خارجية آسيان. هذه الآلية لا تحبط الخطة الأمريكية في قضية بحر الصين الجنوبي فحسب، وإنما أيضا تُخرج آسيان من مأزق التوازن بين المصالح العامة ومصالح الدول الأعضاء، كما تزيح عقبة القضايا الساخنة من طريق تنمية التعاون الاقتصادي بين الصين وآسيان.

الثالث، قيام الصين وآسيان بالتعاون الأمني والبحري بشكل كامل، وقد أبدى الجانبان عزمهما على تحقيق انفراجة في قضية بحر الصين الجنوبي وتعزيز التعاون الاستراتيجي. في اجتماعات وزراء خارجية آسيان التي عقدت في أغسطس هذا العام، حددت الصين عام 2015 "عام التعاون البحري بين الصين وآسيان"، بهدف إجراء الحوارات والتعاون مع الدول الساحلية في منطقة بحر الصين الجنوبي، خصوصا في مجالات الاقتصاد البحري، والمواصلات البحرية، والبيئة البحرية، والوقاية من الكوارث وتخفيف آثارها، والأمن البحري، وغيرها من المجالات. كما عبرت الصين عن رغبتها في صياغة نمط تعاون يتم التوافق عليه بين الأطراف، لتعزيز التنمية البحرية المشتركة من خلال الحوار والمشاورات، لتحقيق التنمية السلمية والفوز المشترك.

إن ما سبق يعزز ثقتي بالحكمة الاستراتيجية لقادة آسيان، وبالآفاق المشرقة لبناء منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان.

دونغ تشون لينغ: باحث مساعد في قسم الدراسات الأمريكية بالمعهد الصيني لدراسات العلاقات الدولية المعاصرة.