15 عاما لعائلة عراقية في بكين

                                                                              مها ما جيا

 لم يخطر ببال الأستاذ عباس جواد كديمي، البالغ من العمر حاليا 51 سنة، أن تصبح الصين بلده الثاني. لقد جاء إليها من بلده الأصلي العراق قبل 15 عاما، ولم يغادرها أبدا. يعود الأستاذ عباس بذاكرته فيقول: "لم أكن أعرف عن الصين سوى معلومات قليلة عن سور الصين العظيم، ومقتطفات عن الحضارة الصينية، استقيتها من كتبنا المدرسية بالمرحلة المتوسطة. كنت مندهشا ومعجبا بالصين، وبخاصة إمكانيتها المستقلة في توفير الطعام لأكبر عدد سكان بالعالم."

في نهاية التسعينات، نجم عن حرب الخليج الثانية أن فرضت الأمم المتحدة عقوبات اقتصادية وحصارا تسبب في خسائر كبيرة للاقتصاد العراقي، ودفع التضخم لمستوى غير مسبوق، ولركود قاسٍ جدا. لذلك، عندما حانت الفرصة لعباس، وكان في السادسة والثلاثين من عمره حينئذ، للعمل في بكين، وافق عليها دون تردد كبير. قال عباس: "وصلت إلى بكين بمفردي في صيف عام 1998، ووجدت بكين أمامي تفيض بالحيوية والنشاط، بشكل معاكس تماما لواقع الحال في مدينتي بغداد. لقد كانت الصين عموما مثل خلية نحل؛ الكل فيها يعمل بجدية مثل النحل الحريص المنهمك في بناء خليته. وكانت ثمار سياسة الإصلاح والانفتاح واضحة للعيان."

وفي الحال، وقع عباس في حب بكين، ولم يتأخر طويلا في التكيف مع حياة الناس فيها. وبعد ستة شهور، استقدم عائلته؛ زوجته السيدة أنسام، وابنته سارة وابنه ياسر وابنته لينة. غالبا ما يكون الأمر صعبا على عائلة بأكملها أن تعتاد الحياة في محيط ثقافة أجنبية. على سبيل المثال، لم يُبدِ جميع أولاد عباس ميلا مبكرا للغة الصينية، الأمر الذي دفع العائلة للبحث عن مدرسة عربية. وبعد بحث دؤوب، تمكن الأب من العثور على مدرسة تديرها السفارة الليبية في بكين، وكافة مناهجها بالعربية. كانت هناك حالة أخرى صعبة نسبيا، وهي الأطعمة الحلال، التي لم تكن متوفرة في كافة المحلات أو أماكن التسوق، كما هو الحال في العراق وغيره من الدول الإسلامية. ولكن هذه المسألة سرعان ما وجدت الحل، بعثور العائلة على محل جزارة يديره مسلم صيني، واللحوم فيه مذبوحة وفقا للتقاليد الإسلامية. وبعدها، اكتشفت العائلة العديد من المطاعم التي تقدم الأطعمة الحلال الصينية وغيرها. ومع مرور الأيام، استقرت العائلة في محل إقامتها الجديد، وبدأت تشعر بالراحة التامة في هذا البلد المِضياف وشعبه الودود. قال عباس: "لقد شعرنا جميعا بكرم الضيافة والتفهم من المواطنين الصينيين. ولم أجد فارقا جوهريا أو كبيرا بين الصينيين والعراقيين. الصين ملائمة للمسلمين. نحمد الله لتوفيقه لنا بفرصة حياة هنا." من المعروف أن الدهر يومان، والحياة ليست سهلة في كل الأحيان. وفي حالة عباس، كانت الضغوط المالية قاسية على عائلة مؤلفة من خمسة أفراد. في عام 2003، انتقلت العائلة لشقة سكنية ليست كبيرة، وسط بكين. وارتفع الأجر الشهري للشقة من خمسة آلاف يوان(الدولار الأمريكي يساوي 2ر6 يوانات) في البداية إلى ثمانية آلاف يوان حاليا. وكان على العائلة أن تدفع نحو سبعين ألف يوان سنويا، كأجور دراسة جامعية وإعدادية للأبناء واحتياجاتهم الأخرى. يعمل السيد عباس حاليا في دار النشر الصينية باللغات الأجنبية في بكين، وزوجته تعمل أيضا، الأمر الذي يوفر دخلا إضافيا للعائلة. اعترف عباس قائلا: "بصراحة، أشعر بالتعب في نهاية كل يوم. وأتمنى العطلة، ولكنني أدرك تماما جسامة المسؤولية المُلقاة على عاتقي تجاه عائلتي. وأعرف جيدا أنه يجب عليّ مواصلة الجهد والعمل." ولحسن الحظ، أن تعبه وجهده باتا يثمران ويعطيان نتائج؛ فابنته سارة وابنه ياسر تخرجا في جامعة مرموقة في بكين، ويواصلان حاليا الدراسات العليا في مجال إدارة الأعمال. وتواصل ابنته الصغرى لينة دراستها في مدرسة ثانوية تعتبر من أفضل المدارس في بكين، وتابعة لجامعة مشهورة في العاصمة الصينية أيضا. إن هذه الفتاة التي وصلت بكين وعمرها سنة واحدة فقط، أصبحت الآن في الـسادسة عشرة من عمرها، وتتحدث الصينية مثل الصينيين تماما. قال عباس: "حلمي الكبير هو أن يتخرج جميع أبنائي في جامعاتهم، ويجدوا أعمالا جيدة بعد التخرج، ويتكيفوا تماما مع المجتمع الصيني، ويتمتعوا بحياة مستقرة وسعيدة. أنا أحب بلدي العراق، وأحب أيضا هذا البلد الذي يستضيفنا بكرم. وسأواصل العمل بجدٍ وإخلاص من أجل عائلتي وأولادي، وهذا واجبي كأب."