الإصلاح والانفتاح سر تفوق الاقتصاد الصيني

 

                       بقلم: محمد سلامة

 

بانعقاد المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، تبدو الصين على موعد مع انطلاقة جديدة ووثبة ثانية لاقتصادها الذي سجل تطورا لم يحدث من قبل في دولة نامية، كما تحب أن تصف الصين نفسها. وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على التواضع وعدم الغرور بما حققه الاقتصاد الصيني من قفزات يقف أمامها المحللون كثيرا بالتفسير والتحليل والدراسة، فقد أصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بفضل الإصلاح والانفتاح العقلاني. بل إن الصين باتت في صدارة العالم في تصدير البضائع، كما سجل الإنتاج رقما قياسيا عالميا، ناهيك عن الاستثمارات الضخمة في كثير من المشروعات داخل وخارج الصين، ويعود الفضل في ذلك إلى تنفيذ الخطط الخمسية والإصلاح والانفتاح الموجه الذي حظي بمناقشات وتوصيات وقرارات حزبية وجماهيرية عميقة، دفعت البلاد إلى اختيار العديد من العوامل التي تعزز الهدف، والعمل على تفعيل آلياته، والرغبة الكبيرة في تحفيز الاقتصاد بآليات جديدة تعمق فلسفته القائمة على التحديث الموجه والاستجابة لمتطلبات المجتمع. 

 واعتبر المسؤولون الصينيون قضية الإصلاح والانفتاح عقيدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، مثلما هي ثقافية أيضا، بحيث تهدف إلى المضي قدما بفكر جديد يخاطب العالم ويطرح المبادرات الخلاقة، ويتغلب بثقة على كافة المصاعب والمخاطر، فالصين تواجه فرصا وتحديات غير مسبوقة، والفرص تتمثل في تعميق الانفتاح والمزيد من الإصلاح والنهوض بعوامل الإنتاج والاستغلال الأمثل للموارد. وفي نفس الوقت، تواجه الصين تحديات كبيرة تتمثل في المنافسة الشرسة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب والظروف الدولية التي يعتريها الاضطراب وعدم الاستقرار، فضلا عن الأزمة الاقتصادية العالمية التي تحتاج إلى حلول غير تقليدية من أجل التغلب على آثارها.   

وخلال الأعوام العشرة الماضية، اغتنمت الصين الفرصة الاقتصادية، وأحسنت استخدامها بشكل استراتيجي، رغم الوضع الدولي المتقلب، والمهام الشاقة لتطبيق الإصلاحات الداخلية.وفي تلك الفترة، تغلبت الصين على عدد من التحديات الخطيرة، وارتقت بالنظرية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية إلى مرحلة جديدة من التنمية، ويعزى السبب الرئيسي في تحقيق مثل هذه الإنجازات التاريخية، والتقدم خلال عقد من الزمان، صياغتها وتطبيقها للنظرة العلمية للتنمية التي وفرت توجها نظريا وعمليا فعالا استطاع المجتمع  الصيني قبوله دون تناقضات جوهرية.

وتدرك الصين جيدا أن تطبيق النظرة العلمية للتنمية مهمة مستمرة وطويلة الأجل وشاقة، وتواجه تحديات ومصاعب كبيرة، إلا أن هناك  تصميما أقوى ومزيدا من الإجراءات الفعالة، لتحسين تطبيقاتها، ووضعها موضع التنفيذ الاجتماعي الممنهج. ولم تنس الصين أن تغلف نظريتها في الإصلاح والانفتاح- التي نجحت باعتراف العالم كله- بغلاف فكري وثقافي، اعتبر بمثابة القوة الناعمة لتحرير العقل، واستلهاما قويا للفكر، معززا بالحكمة والإرث الثقافي والحضاري العريق للصين، وبرزت القضية إلى صدارة الاهتمام، فأصبحت قضية الحزب والشعب معا، وساهم ذلك في دفعها قدما، مستعينةبالمسار الصحيح الذي طوره الحزب و الشعب، وهذا ما يفسر نجاح التجربة التي شارك فيها الحزب والشعب الذي يرى ثمار الإصلاحات والانفتاح الموجه بخصائص صينية تتوالى وتتعاظم.

وترى الصين في رفع مستوى معيشة أبناء الشعب تحديا أمام تجربة الإصلاح والانفتاح الموجه، وكان  إرساء الأساس الحاسم لذلك في الخطة الخمسية الثانية عشرة (2011- 1015) لإقامة مجتمع ذي دخل ومستوى مرتفعين بطريقة شاملة بحلول عام 2020.ومن هنا كانت دعوة زعماء الحزب الشيوعي الصيني إلى توحيد كافة القوى و تعبئة كافة العوامل الإيجابية وعدم الوقوع في الجمود أو الركود، اعتمادا على الطبيعة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية وتنميتها.

ويجب أن نضع في الاعتبار أن التنمية السريعة للصين خلال الثلاثين عاما الماضية، اعتمدت على الإصلاح والانفتاح، وتواصل الصين صياغة مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي،مدركة التحديات التي ظهرت أثناء التنفيذ، كالتضخم والتلوث البيئي والدخول في أعماق ثورة الاتصالات والمعلومات، وانتهاج التكنولوجيا طريقا بالتوازي مع الإنتاج التقليدي الكلاسيكي الذي يعتمد على وفرة الأيدي العاملة الرخيصة بوعي وثبات أكبر.‏

فالصين بسكانها الذين يبلغ عددهم مليارا وثلاثمائة وخمسين مليون نسمة، تضع في اعتبارها تسريع جهود تحويل نمط التنمية الاقتصادية، باعتبارها المهمة المحورية، وهو أمر ضروري لتجديد شباب الصين، فيما تعد التنمية العنصر الأساسي لحل جميع المشاكل التي تواجهها البلاد، وهو من القرارات الاستراتيجية التي أصدرها الحزب الشيوعي الصيني في مؤتمراته العامة.

وتعزيز الإصلاح الاقتصادي لا ينجح بدون إصلاح النظام السياسي، ومن هنا كان الحزب ولجنته المركزية- أعلى سلطة في البلاد- ومدارس الحزب الفكرية والعقائدية على موعد مع الانفتاح السياسي، بإشراك أكبر لقطاعات واسعة من الشباب، والطوائف والقوميات والمناطق الصينية، والذي من شأنه التكامل بين قيادة الحزب والشعب، وتطوير ديمقراطية شعبية أوسع انتشارا، والاهتمام بشكل أكبر بممارسة الدور الهام لحكم القانون في إدارة البلاد والمجتمع، والتركيز على العدالة الاجتماعية، وضمان الحقوق والحريات الشاملة للشعب وفقا للقانون.

وتسعى الصين إلى التركيز على ضرورة تحقيق تقدم ملموس في التعليم والبطالة والرعاية الصحية والمعاش والإسكان من أجل رفاهية الشعب بشكل أكثر عدلا، والالتزام الصارم بسياسة الحفاظ على الموارد وحماية البيئة الوطنية، وتعزيز مفهوم التنمية الخضراء، وإعادة التدوير وخفض انبعاثات الكربون وتوفير بيئة عمل وحياة أفضل، ولا يتأتى ذلك إلا بالالتزام بمبدأ ضبط الحزب لنفسه، وإدارته بصرامة، مع تقوية بنائه الأيديولوجي والتنظيمي والمؤسساتي، وتعميق الإصلاح الشخصي، ومواجهة الفساد أينما كان .

محطات هامة

بدأت الصين أسلوبا صاعدا من القاع والقاعدة إلى القمة، عندما بدأت تجربة الإصلاح في القطاع الزراعي عام 1978، وسارت على هذا النهج في القطاعات الأخرى، وأصبحت أكثر ثقة بتعديلات سياستها منذ عام 2002، فقد جعلت الاقتصاد القائم على المعرفة أكثر وضوحا، وتبنت نمطا لتنمية أكثر استدامة وصداقة للبيئة. من هنا يمكن تفسير نتائج عملية تغيير الاستراتيجية الاقتصادية، والتي آتت أُكلها، حيث أطلقت حزمة تحفيز قيمتها أربعة تريليونات يوان (640 مليار دولار أمريكي) عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، وانتقلت ببراعة من الاعتماد على التصدير إلى تنمية السوق المحلية، على خلفية التراجع  العالمي في الطلب على السلع الصينية، ووضع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي المزيد من القيود على وارداتها من الصين مثل فرض رسوم إغراق على السلع الصينية ورسوم حمائية وجمركية وغيرها من آليات فرملة الإنتاج الصيني الموجه للتصدير، ولكن ثبت محدودية مردود مثل هذه الإجراءات. وفي نفس الوقت، خفضت الصين من لوائحها البيروقراطية، وتدخلات الدولة التي تعرقل الاستثمار القادم من الخارج، وسمحت للبلاد بتحقيق مستوى من الانفتاح نادرا ما يوجد لدى الدول الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية. وكما انطلقت الصين لتصبح ثاني أكبر دولة مصدرة في العالم، صارت أيضا ثاني أكبر دولة متلقية للاستثمار الأجنبي المباشر في العالم، مع منافسة المنتجات الأجنبية في كافة قطاعات الاقتصاد تقريبا.

إن ملامح الإصلاح الاقتصادي الصيني كان من نتاج المجتمع واحتياجاته وأهدافه أكثر من كونه تطبيقا للنظرية السياسية، فقد كان الإصلاح مختلفا عما تم في الاتحاد السوفيتي السابق الذي اختار العلاج بالصدمات، فمات بالسكتة القلبية، مما أدى إلى الانهيار الاقتصادي. الاعتدال الذي يقوم على الحكمة والتريث والدراسة المتأنية، وإصلاح الخلل في آليات السوق وأدوات الإنتاج، والتركيز على تلبية احتياجات الشعب الأكثر إلحاحا، وإعطاء الأولوية للإصلاحات الاقتصادية على السياسية، خلق مناخا مواتيا لإصلاح اقتصادي ناجح بخلفية اجتماعية يناسب الظروف الوطنية للصين رغم أنه لايرتقي إلى  حد الكمال.

ومن المهم الاعتراف بأن العقد الماضي كان عقد الانطلاق في الإصلاح الاقتصادي والسياسي والثقافي، معتمدا على مبادرات الإصلاح التي واكبت العصر وآلياته ومفاهيمه وقيمه الإنسانية قبل المادية، ومن المؤكد أن الإصلاح الاقتصادي يحاول إيجاد آليات للسيطرة على النتائج السلبية في المجال الاجتماعي والتي خلقتها الظروف، مثل عدم التوازن في توزيع الثروة والاحتكارات التي يمكن أن تجد لها موطئ قدم في السوق الصينية الكبيرة في المستقبل القريب، وكانت الأرضية التي سارت عليها تلك الإصلاحات والانفتاح الموجه هو التوافق المجتمعي حول ضروراته وآلياته وأهدافه.

ويشير المحللون الاقتصاديون إلى أن الصين ستصبح أكبر منتج ومصدر للتكنولوجيا، وخاصة في مجال الاتصالات والمعلومات الرقمية في القريب العاجل، بعد أن وضعت الأساس للتحول من دولة منتجة للسلع الاستهلاكية، إلى مركز عالمي للتصميم والابتكار. وإذا كانت الصين قد نجحت في خلق تنمية غير عادية، فإنها قد استفادت من تجارب الآخرين، وأخذت من الرأسمالية محاسنها، وابتعدت عن احتكاراتها ووحشيتها المادية، ولم تنغلق على النظرية الشيوعية بجمود وقوالب دون ديناميكية تخاطب أهداف المجتمع، فقدمت للعالم نموذجا جديدا وغير تقليدي للنمو، يتميز بأنه أكثر تناغما وسلميا، حيث قلبت الموازين في تعريف القوة بأنها ليست العسكرية التي تكدس الأسلحة، بل الاقتصادية التي تستطيع إحداث التوازن في العلاقات الدولية.

لقد حققت الصين نموا سنويا لناتجها المحلي الإجمالي بلغ قرابة 12%، في وقت كانت القوى العظمى تعاني من آثار الأزمات المالية والاقتصادية. وإذا كان النمو قد تباطأ قليلا خلال العام الحالي، فإن حزمة التوجهات الاقتصادية التي تبنتها القيادة الصينية خلال المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني كفيلة بالانطلاق نحو آفاق جديدة، وتكريس استراتيجية التقدم الشامل للإصلاح والانفتاح، ولا نغفل تأثير الاضطرابات والنزاعات في مناطق عديدة بالعالم، وعلى سبيل المثال الشرق الأوسط الذي شهد ثورات وتغيير الأنظمة في تونس ومصر وليبيا فضلا عن اليمن والأزمة الدامية في سوريا، مما أدى إلى انخفاض نسبي للصادرات الصينية إلى تلك الدول وتوقف بعض المشاريع والاستثمارات انتظارا للاستقرار ووضوح الرؤية.

مكمن النجاح في التجربة الصينية هو التفكير الواقعي دون الاندفاع وراء أوهام التحول السريع لآليات السوق، فالتحول كان بقدر يتطلبه المجتمع، وفي نفس الوقت عدم إغفال العوامل والظروف المحلية والدولية، فالتفكير السليم ومخاطبة الواقع والانضباط والتكيف مع الظروف التي يشهدها الإصلاح والانفتاح، ساهم في تطوير النظرية، ومنحها الزخم الضروري للاستمرار حيث تجدد نفسها وتنفض عنها عوامل الركود والانكماش والانتقائية، فالتحول الاقتصادي ساهم في الاستغلال الأمثل للأيدي العاملة الرخيصة في الإنتاج الكمي الوفير وبالتالي التصدير على نطاق واسع وجذب الاستثمارات وتقليل معدل الفقر، حيث انخفض بنسبة لم تحدث في دولة أخرى، فوصل إلى 30% في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وأصبح الآن أقل من 10% وتسعى الدولة جاهدة إلى تقليل تلك النسبة طبقا للخطة الخمسية الحالية والتي ستليها.

إن الفضل يعود إلى قادة البلاد والآباء والرواد أمثال الزعيم ماوتسي تونغ وشو ان لاي ودنغ شياو بينغ وجيانغ تسه مين وهو جين تاو، وغيرهم ممن ساهموا في تطوير الصين ووضعها في تلك المرتبة التي فاقت الولايات المتحدة الأمريكية أو تكاد، والفضل أيضا للشعب الذي وثق في قيادته، فالثقة كما تقول الحكمة الصينية أغلى من الذهب.

 

محمد سلامة صحفي مصري يشغل منصب مدير عام تحرير جريدة المسائية المصرية