الحزب الشيوعي والحرب على الفساد في الصين

 

 

القطط السمان تتهاوي أمام قوانين الانضباط والرأي العام

محاكمة 2ر4 ملايين صيني من بينهم وزراء وكبار مسؤولين

با كي مون: الفساد يمنع وصول 30% من المساعدات الدولية لأصحابها

مطلوب دعم دولي للقضاء على عصابات الفساد ورد الأموال المنهوبة للشعوب

                                                   تحقيق أجراه: عادل صبري

 لم أتوقع وأنا أزور الصين في وفد رسمي مصري رفيع المستوى، في نوفمبر 2007، أن الصين تلك الدولة المتحفظة تتكلم علنا عن الفساد. فوكالات الأنباء والصحف الغربية تقول عادة إن الحكومة الصينية تمنع أي حوارات تتعلق بتلك القضية، فإذا بنا نجد الصحف الصينية ورئيس مجلس الدولة ون جيا باو، بل ورئيس الدولة ذاته هو جين تاو، يضعون برنامجا وطنيا لمكافحة الفساد. بعد خمس سنوات من تلك الزيارة، في مايو 2012، عدت إلى الصين وسط ضغوط إعلامية غربية غير مسبوقة على الصين تتهم بعض المسؤولين فيها بارتكاب جرائم فساد. عناوين أغلفة المجلات الغربية الكبرى مثل ((التايم)) و((الايكونومست)) وغيرهما، أشعرتني بالحرج الشديد، في زيارة رتبت لي فيها مقابلات مع مسؤولين كبار حول ما يدور في الصين من قضايا تهم العرب والأفارقة والصينيين أنفسهم، وكانت قضية الفساد على رأس تلك الأولويات. عندما وصلت إلى بكين وجدت أن الحديث عن الفساد أصبح أمرا عاديا، فلا خوف ولا حرج أن يتحدث مسؤول عن كم الفساد ونوعه على الملأ، بل إن المناقشات العلنية في المجلس الوطني لنواب الشعب وفي الصحف كشفت عن التحول الكبير في المجتمع المتحفظ عادة، وقد أثرت تلك القضية التي كانت من المحظورات في السابق. وكعادة الصينيين طرحت كل أسئلتي، فكانت الإجابات واضحة.

خطر الفساد

لم تهدأ الصين في مكافحة الفساد، منذ أعلن الرئيس هو جين تاو عن خطته الأولية للقضاء على الفساد، خاصة في الجهاز الإداري للدولة،  أمام المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني في سنة 2007 مطالبا الشعب مكافحته وعدم التستر عليه، بل وفضح المسؤولين الذين يمارسونه. وفي خطاب هام ألقاه الرئيس هو جين تاو في يوليو 2012، حذر من أن الفساد هو أحد الأخطار المتنامية التي تواجه الحزب الشيوعي الصيني، وقال: "أصبح من المهم جدا والعاجل أن يقوم الحزب بضبط نفسه وأن يفرض نظاما صارما على أعضائه". وفي خطاب آخر تحدث هو جين تاو مجددا عن مكافحة الفساد دون كلل كأحد الجهود التي لابد أن تستمر من أجل تعزيز بناء الحزب.

وتعهد رئيس مجلس الدولة الصيني، ون جيا باو، باتخاذ مزيد من الاجراءات الحازمة للحد من إساءة استخدام السلطة ومكافحة الفساد، وذلك خلال مقالة نشرت في يوليو الماضي 2012،  بمجلة ((تشيوشي)) "البحث عن الحقيقة" التابعة للحزب الشيوعي الصيني، بأن تواصل الحكومة خلال العام الأخير في فترة ولايتها، جهودها الرامية لإقامة حكومة نظيفة، بالاضافة إلى تعميق الاصلاحات وتحسين البناء المؤسسي. وجاءت المقالة تحت عنوان "دعونا نمارس السلطة تحت ضوء الشمس"، وتناولت دور الإصلاح الحكومي الصيني في مكافحة الفساد والمهام الرئيسية المقبلة عند مكافحة الفساد في العام الجاري وأهمية  التزام الحكومة بذلك. وقال ون جيا باو: "إن مبدأ مكافحة الفساد وبناء حكومة نظيفة، يجب تجسيده بالكامل عند صياغة التشريعات واللوائح، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن الاجراءات العامة الأخرى الخاصة بالاصلاح." وحث السيد ون الحكومات على كافة المستويات أن تخضع نفسها لعملية تفتيش إداري أكثر صرامة ومراقبة دقيقة، وأن تفتح الباب للرقابة الشعبية. وأن تستجيب بشكل فوري لمشكلات الناس ووسائل الإعلام، وتجري تحقيقات بشأنها، وأن تعلن نتائج تلك التحقيقات بطريقة مناسبة.

دور الإعلام

منذ أن أقامت الصين المكتب الوطني لمنع الفساد في سنة 2007، أصبحت قضايا الفساد، ولا سيما التي يرتكبها المسؤولون في الحكومة، تنشر في أجهزة الإعلام وتناقش علنا، في إطار السعي إلى فضح المسؤولين عن تلك الجرائم، ولتمثل رادعا نفسيا واجتماعيا أمام الراغبين في دخول تلك الدائرة المظلمة. وأشار تقرير للمكتب الوطني لمنع الفساد، إلى أنه تمت معاقبة أكثر 2ر4 ملايين مسؤول بالحكومة أو الحزب الشيوعى الصيني بسبب انتهاكات الانضباط بين عامى 1982 و2011. وذكر تسوى هاي رونغ، نائب مدير المكتب، في مايو 2012، أن 465 من المسؤولين المذنبين ممن شغلوا مناصب على المستوى الوزارى أو مستوى المقاطعات وأدين أكثر من 90 منهم بالفساد خلال العقود الثلاثة الماضية. وبين التقرير أن مسؤولين على مستوى عال، من بينهم تشنغ كه جيه النائب السابق لرئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطنى لنواب الشعب الصيني، وهو تشانغ تشينغ النائب السابق لرئيس مقاطعة جيانغشى بشرقي الصين، ووانغ هواى تشونغ النائب السابق لحاكم مقاطعة أنهوى بشرقي الصين، وتشنغ شياو يو، الرئيس السابق لوكالة تنظيم الغذاء والعقاقير فى الصين، حكم عليهم بالإعدام. وقد أحيل أكثر من 42 ألف مسؤول إلى أجهزة قضائية بتهم الفساد بين عامى 2003 و2011.

السادة المرتشون

كشف تقرير اللجنة المركزية لفحص الانضباط للحزب الشيوعي الصيني الذي نشر في 26 يوليو 2012، عن أنه منذ آخر مؤتمر وطني للحزب الشيوعي الصيني عوقب أكثر من 60 مسؤولا على مستوى الوزارات والمقاطعات لانتهاك النظام. وكان المسؤولون رفيعو المستوى من ضمن 600 ألف شخص ينتظرون العقوبة لانتهاك قوانين ونظم الحزب والحكومة منذ المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد عام 2007. وأوضح بيان اللجنة أن من بين هؤلاء تم إحالة 200 ألف مسؤول للنيابة لتورطهم في انتهاك القانون. ومن بين المتهمين وزير السكك الحديدية السابق، ليو تشي جون، الذي طرد من الحزب الشيوعي الصيني بعد التحقيق معه بتهمة الفساد في مايو 2012 وتم تسليم قضيته للإدارة القضائية. و أدين ليو تشو تشي، نائب الرئيس السابق لحكومة منطقة منغوليا الداخلية الذاتية الحكم، بتهمة تلقي رشى وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، عقب محاكمته في يوليو 2012. واتهم جهاز مكافحة الكسب غير المشروع فى هونغ كونغ المسؤول التنفيذى السابق للإدارة بالمنطقة، رافائيل هوي، والرئيسين المشاركين لشركة سونهونغكاى للعقارات، توماس وريموند كووك، بالحصول على رشى وسوء السلوك فى الوظيفة العامة خلال الفترة ما بين 2000 و2009.

حول الفساد

خلال زيارتي التي شملت العديد من المدن الصينية، ناقشت مع نائب عمدة مدينة  شانغهاي ما حققته الصين في قضية مكافحة الفساد، فأوضح أن هيئات فحص الانضباط والنيابة العامة فى عموم البلاد حققت  في 139621 قضية، وانتهت من معالجة 139482 قضية، وقررت عقوبات بحق 146517 مسؤولا سياسيا وانضباطيا، وإحالة 5373 مشتبها بارتكاب جرائم فساد إلى السلطات القضائية. وفي حفل عشاء أقامه على شرف مجموعة من الصحفيين العرب، أكد أن قضايا الفساد من الأمور غير المسكوت عنها، وأن المجتمع أصبح يتحدث فيها جهرا، بلا خوف أو حذر. وبين أن الصحف والناس تتناقل أخبار الفاسدين، وتتحول قصصهم لقضايا رأي عام، بعد أن أصبح المجتمع منفتحا اقتصاديا واجتماعيا. وعلل الرجل قضايا الفساد بأنها تقع في كافة المجتمعات، باعتبار أن البشر في كل مكان هم البشر، ليسوا جميعا ملائكة ولا كلهم شياطين. فالمهم في  قضية الفساد عدد الفاسيدن في المجتمع ومدى تأثيرهم على الاقتصاد، ودفة الأمور في الدولة. وأشار  المسؤول إلى أهمية تعزيز التعاون والتبادلات الدولية فى مكافحة الفساد، مبينا أن الصين وقعت اتفاقية في هذا المجال مع هيئات مكافحة الفساد في حوالي 80 دولة ومنطقة بالعالم، منها مصر وبولندا وروسيا.

إجراءات الحماية

قال لي شيويه تشين، رئيس قطاع الأبحاث باللجنة المركزية لفحص الانضباط للحزب الشيوعي الصين، إن الحزب بدأ جهودا واسعة النطاق لمكافحة الفساد بين مسؤولي الحزب والحكومة منذ عقدين من الزمن، مشيرا إلى اطلاق اللجنة عدة حملات خاصة تستهدف المشكلات البارزة مثل السفر للخارج بشكل مفرط الذي تموله الحكومة، والرشوة في التعاقدات على مشروعات البناء والأوراق المالية والأرصدة. وذكر لي شيويه تشين في تصريحات نشرتها وكالة أنباء ((شينخوا)) أنه،  حتى عام 2011 قامت اللجنة بالتحقيق في 21 ألف قضية فساد بعد فحص أكثر من 425 ألف مشروع بناء تمولها الحكومة في شتى أنحاء البلاد، وكشفت  اللجنة عن وجود أكثر من 60 ألف "صندوق خزانة صغير" ما أدى لمعاقبة أكثر من 10 آلاف مسؤول.
وقال لي إن هناك حاجة لبذل مزيد من الجهود من أجل تحسين نظام مكافحة الفساد والحد من نفوذ المسؤولين .كما تم خلال الأعوام القليلة الماضية إصدار سلسلة من السياسات لتحسين الشفافية الحكومية وكبح سوء استغلال النفوذ وضبط سلوكيات كبار المسؤولين.
وقال لي إن "الحرب على الفساد ستكون قاسية ومرهقة لكنه مع الجهود المستمرة سيكون المستقبل مشرقا.

ولكنخه قوه تشيانغ، عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، قال أمام اجتماع للجنة المركزية لفحص الانضباط بالحزب الشيوعي الصيني عقد في بكين في يوليو 2012، إن وكالات مكافحة الفساد مازالت تواجه تحديات في مجالات مثل القوى العاملة وآلية العمل. واقترح خه قوه تشيانغ، القيام بحملات خاصة لاقتلاع جذور الفساد فى المجالات الرئيسية، مثل قطاع الإنشاءات، والفعاليات التي تمولها الحكومة، واستخدام المركبات العامة وتعزيز شفافية الشؤون العامة، وتحسين حماية الشهود، واستخدام الإعلام الإجتماعى الناشىء حديثا فى محاربة الفساد. كما طالب خه العاملين فى وكالات فحص الإنضباط بالحزب بالوعى التام بالوضع الصعب"للحملة ضد الفساد، وأن يؤمنوا بالفوز فى هذه المعركة.

تعاون دولي

دعا تشو يونغ كانغ، عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، خلال الندوة الرابعة للاتحاد الدولي لأجهزة مكافحة الفساد والتي عقدت بمدينة داليان الصينية في يونيو ا 2012، المجتمع الدولي إلى تنفيذ تعاون محكم حول استرداد الأموال التي سرقها مسؤولون فاسدون. وقال تشو إن الصين تولي اهتماما كبيرا باسترداد ومصادرة تلك الأموال وعززت جهودها لإعادتها مع عائدات الجرائم الأخرى، مشيرا إلى أن الصين سنت قوانين تحكم غسيل الأموال ومصادرة الأموال في حالات الفساد. و في أبريل 2012، تعهدت السلطات الرياضية في الصين بكشف تفاصيل الفساد الكروي واستئصاله. وقد بدأت قضية فساد كرة القدم عام 2010 عندما تم اعتقال العشرات من مسؤولي النوادي في جمعية كرة القدم الصينية والحكام واللاعبين بتهم التلاعب في نتائج المباريات والمراهنة والرشوة.  وفي الشهر نفسه ، أطلقت نيابة الشعب العليا حملة وطنية لمكافحة الفساد لحماية مصالح سكان الريف.  وقال هو تسه جيون، مساعد النائب العام لنيابة الشعب العليا، إن الحملة تستمر عامين وستركز على إقامة دعوى قضائية فى الجرائم ومنع الانتهاكات في الزراعة والقطاعات المتصلة بها. ودعا  وكلاء النيابة إلى التركيز على قضايا الرشوة والابتزاز ومساعدة السلطات المحلية على تحديد الثغرات المؤسسية التي قد تسمح بإساءة استغلال المال العام .

لائحة المرتشين

أصدرت الصين لائحة لمكافحة الفساد على مستوى مسؤولى القرى في مايو 2011، للحيلولة دون تلقى المسؤولين على مستوى القرى رشاوى، وسوء استخدام السلطة. تهدف اللائحة التي أصدرها المكتب العام لمجلس الدولة والمكتب العام للجنة المركزية للحزب الشيوعى الصيني، إلى تدعيم الروابط بين قادة القرى والقرويين  من أجل تعزيز الديمقراطية ، وحماية مصالح المزارعين، و الاستقرار الريفي. وطبقا للائحة، يحظر على مسؤولى القرى الحصول على أصول جماعية بالاختلاس مثل الأرض وغيرها من الموارد الطبيعية، والتلاعب فى الانتخابات القروية وإساءة استخدام سلطاتهم سعيا للحصول على مكاسب أو خدمات غير مشروعة لأسرهم. وحذرت الحكومة المركزية من أن أي مكاسب غير مشروعة حصل عليها المسؤولون الفاسدون ستتم مصادرتها أو استعادتها، وستتم إحالتهم الى المحاكمة. وشرعت الحكومة الصينية  في مايو 2011  في تنظيم بطاقات الهدايا لوقف الثغرات التي يمكن أن تساعد المسؤولين الفاسدين في النجاة من المساءلة عند تلقيهم رشى، وفقا لوثيقة صدرت عن مجلس الدولة. وجاء في الوثيقة التي نشرت على الموقع الالكتروني لمجلس الدولة " إن قانون بطاقات الهدايا التجارية يهدف إلى منع غسيل الأموال والسحب غير الشرعي للأموال، والتهرب من الضرائب والرشوة.

جرائم الفساد كثيرة ومتنوعة، تحدث يوميا في أنحاء العالم، لكن العبرة في نهاية المطاف تكون بما تقوم به الدولة في مواجهة هذه الظاهرة وقدرتها على الضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين. وهذا ما وجدناه جليا في الصين، التي تصل عقوبة الفاسدين فيها إلى الإعدام.