هل تتجنب الصين أخطاء الغرب الاقتصادية؟

حسين إسماعيل                            

أثبتت الصين، حتى الآن، قدرة فريدة على انتهاج نظام سياسي وآليات حكم تتفق مع تاريخها وواقعها، وتجنب التطبيقات الخاطئة للممارسة، التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. وقد تجسد النهج السياسي الواقعي للصين في المقولة الشهيرة للأب الروحي للإصلاح والانفتاح الصيني، دنغ شياو بينغ، بأنه ليس المهم هو لون القط، طالما أنه يأكل الفأر. والمعنى هو أن محك نجاح أي فكر أو ايديولوجيا تتبناها الدولة هو النتائج الفعلية التي تحقق الخير للشعب. وقد أوضح السيد دنغ غير مرة أن اقتصاد السوق، مثلا، ليس حكرا على النظم الرأسمالية، فاقتصاد السوق يمكن أن يكون في النظم الاشتراكية. وقد أدخل الزعيم الصيني الذي قاد تحول الصين في نهاية سبعينات القرن العشرين، أدبيات السياسة مصطلحات غير مسبوقة، ومنها اقتصاد السوق الاشتراكي، والاشتراكية ذات الخصائص الصينية. وتؤكد الصين دائما على خصوصيتها في قضايا تتعاطى معها دول أخرى في العالم الثالث من دون دراسة لمدى توافقها مع تاريخها وواقعها ومرحلة النمو التي تمر بها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والنظام السياسي والاجتماعي وغيرها.

على المستوى الاقتصادي، أثبتت الصين مرة أخرى قدرة يشهد بها العالم على تجاوز العثرات الاقتصادية التي وقعت فيها كثير من دول العالم خلال السنوات الخمس المنصرمة، فهل تستطيع الصين تجنب الأخطاء الاقتصادية التي وقع فيها الغرب؟

هذا السؤال سعى تشن بينغ، الباحث في مركز اللجنة الأكاديمية للاقتصاد السياسي بجامعة فودان بشانغهاي، إلى تقديم الإجابة عليه، في مقالة نشرتها مجلة ((بيجينغ ريفيو)) في عددها الأخير لسنة 2012. يرى تشن بينغ أن الأزمة المالية التي نشأت أولا في الولايات المتحدة الأمريكية توفر للصين تجربة تاريخية نفيسة لرؤية الآثار المدمرة لسياسات الاقتصاد الكلي التي وضعها الاقتصادي البريطاني اللورد جون ماينارد كينز (1881- 1946) وعالم الاقتصاد الأمريكي، صاحب نوبل في العلوم الاقتصادية ميلتون فريدمان (1912- 2006). لقد طبقت الإدارة الأمريكية في البداية سياسة نقدية توسعية على نطاق كبير ثم سياسة مالية واسعة النطاق. لم يفلح ذلك في كسر احتكار الضغمة المالية ولا في إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية والإنفاق العسكري، مما أدى إلى أزمة مالية. لقد أسفرت تلك السياسات عن نسبة بطالة عالية وتباطؤ الانتعاش الاقتصادي. ومؤخرا أعلن الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي عن توسيع الدورة الثالثة لبرنامج التسهيلات الكمية الذي فجر تضخما عالميا واضطربات اجتماعية. وينصح الباحث الصيني بضرورة الوعي بحدود سياسات الاقتصاد الكلي الغربية وتجنب السقوط في شرك التضحية بالتنمية المستدامة من أجل فوائد قصيرة المدى، وهو الأمر الذي يفعله الغرب حاليا.

والحقيقة أنه منذ ثلاثينات القرن العشرين، كان ينظر إلى السياسة المالية الكينزية والسياسة النقدية القائمة على تعاليم ميلتون فريدمان على أنها أداة فعالة لإنقاذ رأس المال وتجنب حدوث كساد كبير آخر، مثل الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن، هدف هاتين الأداتين  السياستيين  محصور في التوازن الاقتصادي القصير المدى، وهذا بدوره يحافظ على الوضع القائم لجماعات المصالح الراسخة.

يعزو الاقتصاد الكلي تقلبات السوق إلى خلل سطحي في الطلب الكلي، وينكر تقسيم العمل الناجم عن الثورة التقنية من جانب العرض وصعود وسقوط القوى العالمية، والتغيرات الهيكلية الناجمة عن النظام العالمي الجديد. إنه يخدع الناس بإجراءات افتراضية مبنية على علم النفس الجماعي. ولكنه يرفض إجراء أي تعديل هيكلي في السياسة أو الاقتصاد. إن صنع القرار هكذا يركز على الاقتصاد الداخلي ويهمل تأثير التنافس الدولي على السياسة الداخلية في اقتصاد مفتوح. وبدلا من مواجهة المشكلات، نجد الحكومات الغربية توظف الاقتصادات الكلاسيكية الجديدة للتغطية على لعبة جماعات المصالح تلك. بهذه الطريقة من التفكير، يصبح من المستحيل تقريبا الخروج من أزمة اقتصادية سالمين.

إن ما سمي بـ"صفقة روزفلت الجديدة" هي التي أخرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. واضطرت واشنطن لشن حروب لدفع اقتصادها. وقال تشن بينغ إنه حذر في مؤتمر ملبورن سنة 2009 من أنه إذا لم ترغب واشنطن في العمل مع الصين والاتحاد الأوروبي لإعادة هيكلة النظام العالمي، فإنها لن تكون قادرة على التعافي تماما من الأزمة المالية. ويؤكد السيد تشن على أن الحرب الليبية والتوتر في شمال شرقي آسيا  وفي بحر الصين الجنوبي  يبين أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية قد وقعتا بالفعل في ما أسماه بشرك كينز- فريدمان.

يقول السيد تشن إن السؤال الآن، هو كيف سيتعلم الاقتصاديون الصينيون من تلك الدروس ويعززون التطور المستقل للاقتصاد.

لقد تبنت الصين سياسات مالية ونقدية مشابهة للدول الكبرى خلال الأزمة المالية سنة 2008، ولكن تأثير هذه السياسات كان أفضل كثيرا من السياسات التي طبقت في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية واليابان. السبب هو أن صانعي السياسة الصينيين فهموا مزالق تطبيق نظريات كينز/ فريدمان وطبقوا سياسة مالية توسعية مع تخفيف السياسة النقدية لحفز الطلب المحلي وتخفيف الضغط الدولي.

تكمن مشكلة الولايات المتحدة الأمريكية في معدلات الديون المفرطة لسكانها وشركاتها وحكوماتها على مختلف المستويات، والتكلفة العالية للرعاية الاجتماعية والإنفاق العسكري. كما أن النظام القانوني الأمريكي أضعف تدريجيا القدرة التنافسية الدولية لشركاتها، بحيث لا يجرؤ المستهلكون ولا الشركات على الاستهلاك أو الاستثمار بعد أداء خدمة ديونهم. على النقيض من ذلك، تكمن مشكلة الصين في هوامش الربح الضئيلة. تفتقر معظم الشركات الصينية إلى التقنيات الجوهرية الأصلية أو قنوات التسويق، ومن ثم فإن أرباحها أقل بكثير من الشركات الغربية. ولكن إذا قامت الصين بتوسيع نظام رعايتها الاجتماعية أو زيادة رواتب موظفيها كثيرا بإجراءات إدارية، فقد يسبب ذلك إفلاسات ضخمة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وسيكون ذلك معاكسا تماما لرغبتها في حفز الاستهلاك. 

وسواء كان غرض السياسة المالية التوسعية هو حفز الاستهلاك أو تحسين المكونات الجوهرية للشركات، ينبغي تحليل كل حالة على حدة. لا ينبغي أن تتبع الحكومة عشوائيا سياسات الدول الأخرى. في الحالة الصينية، ينبغي أن تحسن الحكومة القدرة الدولية لشركاتها وعمالها وأن تخلق وظائف من خلال تطوير صناعات جديدة. على النقيض من ذلك، سوف يؤدي حفز الاستهلاك القصير المدى إلى استنزاف قدرة الإبداع التكنولوجي للشركات ومن ثم مفاقمة الأزمة الحالية.  

تبدو السياسة النقدية سهلة التشغيل، ولكن تأثيرها يكون سيفا ذا حدين. لقد افترض فريدمان خطأ أن أسعار السوق يمكن تحديدها بكمية النقد فقط، ومن ثم اعتقد أن التوسع النقدي يمكن أن يجنب صراعات الفوائد ويمنع وقوع أزمة مالية. بيد أن ذلك ليس إلا خيالا نظريا يكون له أثر في اقتصاد مغلق بدون أي ابتكار مالي أو منافسة دولية. لقد طبقت الولايات المتحدة الأمريكية، في ظلال الأزمة المالية العالمية، فائدة نسبتها صفر وتوسعا نقديا أثار هروبا للرأسمال بمبالغ ضخمة. تدفقت الأموال إلى سوق شرقي آسيا حيث معدلات النمو عالية أو إلى سوق الدولار الأوروبية ذات نسبة الفائدة العالية. صارت السياسة النقدية الفيدرالية ضعيفة وعاجزة مع استنزاف الأموال. إن العامل الحاسم في الاستثمار ليس هو تكلفة الاقتراض، وإنما النمو الاقتصادي المستقبلي أو العوائد المتاحة في مناطق وصناعات عديدة.

      لكل هذا، ينصح السيد تشن الصين بالحذر الشديد في تطبيق السياسات النقدية مثل زيادة معدلات الفائدة أوشروط احتياطي البنوك. هذه السياسات لن تزيد الضغوط على تقييم الرنمينبي (العملة الصينية) وتجذب رأس المال الدولي الساخن فقط، وإنما أيضا ستزيد المخاطر على الرهون العقارية وتمويل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتفاقم بصورة أكبر آفاق التوظيف للجامعيين وللعمال المهاجرين.

الصين، مقارنة مع عجز النظام السياسي الأمريكي الجامد، طبقت إصلاحات جريئة في تسويق المؤسسات والبنوك المملوكة للدولة خلال هذه الأزمة، وكانت النتيجة أن ملايين من العاملين في المؤسسات المملوكة للدولة تم تسريحهم. ولكن الصين أيضا عليها أن تتصدى لمشكلاتها في قطاع العقارات، وخاصة التكلفة العالية للإسكان في المدن الساحلية بسبب المضاربين ومجموعات المصالح المحلية، خاصة وأن برنامج الضريبة العقارية التجريبي يستهدف المشترين الجدد فقط. ينبغي على الصين أن تسرع باتخاذ إجراءات لمنع فقاعة الإسكان من الخروج على السيطرة.

وينصح تشن بينغ الصين بعدم اتباع النظام المالي العالمي غير المعقول الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وأن تفهم موضعها الخاص، ومواضع المنافسين وتغير استراتيجيتها من الدفاع السلبي إلى استراتيجية إيجابية نشيطة. ينبغي أن تكون الصين جسورة وذات رؤية وتضع استراتيجياتها المالية الدولية الخاصة بها. لقد أحسنت الصين بتعميم تسوية الصفقات بالعملات المحلية بين دول مجموعة (BRICS)، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ولكنها لم تمس قلب البيئة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. دول جنوبي أوروبا غارقة في مستنقع الديون السيادية. إذا انهارت منطقة اليورو، سوف تتعزز الهيمنة المالية للدولار الأمريكي أكثر. الصين فقط هي التي تستطيع مساعدة الاتحاد الأوروبي على الخروج من الأزمة وتقلل من اعتماده على الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أثبتت الأزمة المالية بوضوح أنه على الرغم من أن الدول الغربية مازالت تقود العالم في التطور التكنولوجي إلا أنها الآن تتبع الصين في التنمية الاقتصادية.

هذه رؤية تحليلية لنهج الصين في التعاطي مع الأزمة المالية العالمية ورؤيتها المستقبلية للنظام الاقتصادي العالمي، وأحسب أن دولاً عربية عديدة، وخاصة التي شهدت، ومازالت تشهد، توترات خلال الفترة الأخيرة وتواجه ظروفا اقتصادية بالغة السوء، يمكنها أن تتعلم من الصين. ليس المطلوب أبدا هو انتهاج السياسات الاقتصادية الصينية وإنما التعلم من طريقة تفكير وتعامل الصينيين مع مشكلاتهم وفق ظروفهم وليس تقليد ومحاكاة الآخرين.