إلهعيد الربيع في شمالي وجنوبي الصين

عيد الربيع هو من التقاليد الصينية العريقة الراسخة، وأهم أعياد الصينيين، ولكن عادات الاحتفال به تختلف من منطقة الى أخرى، وخاصة بين شمالي وجنوبي الصين.

عادات مشتركة

يحتفل الصينيون بعيد الربيع منذ أربعة آلاف سنة. في هذا العيد، يقيم أبناء مختلف القوميات والمناطق احتفالات متنوعة المظاهر، وإن كانت عادة تقديم القرابين للآلهة وإحياء ذكرى الأسلاف وإزالة القديم البالي وإنشاء الجديد النامي والدعاء من أجل حصاد وافر، تمثل القاسم المشترك بين كافة الاحتفالات.

عيد الربيع هو اليوم الأول من السنة القمرية، لكن الاحتفال به يبدأ في يوم "السنة القصيرة"، أي عيد إله الموقد، قبل أسبوع من بداية السنة. حسب الأسطورة الصينية، فإن إله الموقد يصعد إلى السماء في هذا اليوم لتقديم تقرير أعماله لـ"لإمبراطور اليشمي". في هذا اليوم، تحرص كل أسرة صينية على استبدال تمثال إله الموقد القديم لديها بتمثال جديد، ووضع النذور على منصات القرابين في البيت. من العادة، عند تقديم القرابين لإله الموقد، أن يوضع نوع من الحلوى في فم التمثال، كي لا يتفوه بكلمة سيئة أمام الإمبراطور اليشمي. يختلف موعد بداية السنة القصيرة في شمالي الصين عن جنوبي الصين، إذ تبدأ في الشمال في الثالث والعشرين من الشهر القمري الثاني عشر، بينما تبدأ في الجنوب في الرابع والعشرين من الشهر القمري الثاني عشر. بمناسبة عيد الربيع، تحرص كل أسرة صينية على تنظيف بيتها وغسل الملابس وتنظيف أدوات المطبخ للاستعداد للاحتفال بالعيد، سواء في اليوم الثالث والعشرين أو الرابع والعشرين من الشهر القمري الثاني عشر. في اللغة الصينية، تنطق كلمة "تراب" و"قديم" نطقا متشابها، ومن ثم فإن تنظيف الأتربة في البيت يعني إزالة كل القديم البالي وإحضار الجديد، ما يرمز إلى التخلص من الفقر وكل الأشياء السيئة.

في عشية العام القمري الجديد، أي المساء الأخير للشهر الأخير من السنة القمرية، تكون أهم مناسبة لالتئام شمل الأسرة الصينية. في هذا المساء، يقدم الصينيون القرابين للأسلاف ويتناول أفراد الأسرة العشاء معا، ويسهرون الليل. تبلغ نشاطات ومظاهر الاحتفال بعيد الربيع ذروتها في منتصف الليل. في هذا التوقيت، يقوم الكبار والصغار من الرجال والنساء بتبادل عبارات التهنئة والتبريكات والتمني بحياة سعيدة خالية من أي سوء للسنة القادمة. ومن العادات التقليدية للعائلات الصينية إضاءة الأنوار طوال الليل، خصوصا في الغرف التي تقدم فيها القرابين للأسلاف.

في عيد الربيع، أي اليوم الأول من السنة القمرية الجديدة، من عادة الصينيين أن يطلقوا الألعاب النارية أولا في صباح العيد، تمنيا بحياة مزدهرة وسعيدة وصحة جيدة في السنة الجديدة. إضافة إلى ذلك، يقدم الصغار التهنئة بعبارات مثل "سنة سعيدة" و"نتمنى لكم صحة جيدة وعمرا مديدا" لأجدادهم ولكبار السن. في المقابل، يقدم كبار السن هدايا للصغار عبارة عن مظروف أحمر "هونغ باو" بداخله مبلغ من النقود. أثناء السير في الشوارع، يتبادل الأشخاص عبارات التهاني فيما بينهم، مثل "مبروك" و"أتمنى أن يسير كل شيء على ما يرام في السنة الجديدة". بالإضافة إلى ذلك، اليوم الأول من السنة القمرية الجديدة هو عيد ميلاد إله المكنسة أيضا. وحسب المعتقدات الصينية، يمنع استخدام المكنسة في هذا اليوم، وإلا فإن من يخالف هذا العرف سوف يفقد حظه الطيب ويخسر ماله.

في اليوم الخامس من السنة القمرية الجديدة، من عادة الصينيين استقبال إله الثروة وطرد إله الفقر. يستيقظ الناس في فجر ذلك اليوم ويطلقون الألعاب النارية وينظفون بيوتهم. يكون إطلاق الألعاب النارية من داخل الباب نحو الخارج، وهذا يرمز إلى طرد وإخراج جميع الأشياء السيئة.

يسمى اليوم الخامس عشر من السنة القمرية الجديدة بعيد "يوانشياو". مع نهاية هذا اليوم يكون عيد الربيع قد انتهى. في هذا اليوم، تشمل نشاطات الاحتفال التقليدية التمتع بمنظر البدر وفوانيس العيد وإطلاق الألعاب النارية وحل الألغاز التي توضع في الفوانيس واللعب بالفانوس الأرنب و غيرها من النشاطات.

نكهة الأسرة

آمن قدماء الصينيين بأن الطعام سماء للشعب، فلا شك أن عيد الربيع الذي يعتبر أكبر عيد في الصين، هو أكبر عيد أيضا لتناول الأطعمة اللذيذة والمتنوعة الخاصة بهذه المناسبة.

يفضل أهل شمالي الصين المأكولات المطبوخة من طحين القمح. قبل عيد الربيع، تنتشر في أماكن كثيرة بالشمال مظاهر إعداد أنواع عديدة من الخبز الذي ينضج بالبخار وبأشكال متنوعة، ومنها أشكال الحيوانات الدقيقة وبشكل خوخ العمر المديد، وبشكل الجبل الذي يوضع فيه العناب. الأشكال المتنوعة من خبز البخار "هواموه" هي رموز للحظ والسعادة، وتجسد أيضا مشاعر الناس لاحترام الآلهة وتمنياتهم بالبركات للأقارب وللأصدقاء وحسن الطالع للسنة الجديدة.

أما الأطعمة التقليدية الرئيسية لأهل جنوبي الصين في السنة القصيرة فهي مأكولات من الأرز، مثلا، يتناول المحليون في مدينة ناننينغ، طعام "تسونغتسي"، بينما يفضل سكان حاضرة محافظة ووشيوان ومدينة قوبينغ إعداد وتناول مقرمشات الأرز.

وجبة عشية العام القمري الجديد تكون في الغالب أهم وجبة في العيد، في شمالي وجنوبي الصين. الناس، الذين يعيشون بعيدا عن مسقط رأسهم، يفضلون ويتمنون تناول العشاء مع أسرهم في عشية السنة القمرية الجديدة. في شمالي الصين، يفضل الناس إعداد وصنع طعام جياوتسي، وهو عبارة عن كرات من العجين محشوة باللحم والخضراوات مع أفراد أسرهم في عشية العام القمري الجديد. ولأن شكل جياوتسي يشبه سبيكة الذهب، يأكلها الناس رجاء الحصول على أموال كثيرة في السنة الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، يوضع في جياوتسي مع حشوتها أشياء أخرى، مثل الحلوى والفول السوداني والعناب والكستناء واللحم، وقطعة من النقود المعدنية أيضا. الذي يتناول جياوتسي المحشوة بالحلوى، يعني أنه سيتمتع بحياة سعيدة وجميلة في السنة الجديدة. والذي يتناول جياوتسي التي تحتوي على قطعة نقود معدنية يعني أنه سيحصول على كثير من المال، أما تناول جياوتسي المحشوة بالكستناء، فرمز للتمني بحياة أفضل لآكلها. السمك أيضا طبق لا غنى عنه في عشاء الصينيين في عشية العام القمري الجديد. في اللغة الصينية، كلمتا "السمك" و"الفائض" لفظتان متجانستان، لذلك، لا بد من الاحتفاظ بالسمك في الأكل لليوم الأول من السنة القمرية الجديدة، رجاء الحصول على أكثر مما يتمنون ويرغبون به. في مناطق جنوبي الصين، كعكة رأس السنة طعام لا غنى عنه في وجبة عشاء عشية العام القمري الجديد. فكلمتا "الكعكة" و"الترقية" تلفظ بنفس النطق في اللغة الصينية، لذا، فأكل كعكة رأس السنة يرمز إلى الارتقاء في الحياة والأعمال في السنة الجديدة. من عادة أهل الجنوب الجلوس حول الموقد وتجاذب أطراف الحديث، ويسمى هذا التقليد بـ"ويلو". وقد تناولت كاتبة النثر الصينية المشهورة سي يوي مشهد ويلو في مقالها ((عشية العام القمري الجديد)) حيث قالت: "في الليل، جلس جميع أفراد أسرتي حول المائدة المستديرة . بدأت جدتي بترديد الدعاء، بينما تناول أخوالي نخب العيد وتناول الأطفال قطعا من المقانق باللحم المفروم. وبدأت أمي وجدي بغناء مقطوعات من أوبرا شيانغجيوي (أوبرا نشأت في مقاطعة فوجيان). وهكذا أحيينا عشية العام القمري الجديد بجو من البهجة والمتعة والدفء الأسري."

يتناول أبناء شمالي وجنوبي الصين طعاما متشابها في عيد الربيع. يسمي أبناء الشمال طعام العيد بـ"يوانشياو"، بينما يسميه أبناء جنوبي الصين بـ"تانغيوان"، مع أن كلتيهما معجنات من الأرز اللزج، لكن تختلف كثيرا في طريقة الصنع ومكونات الحشوة. فيتم صنع "يوانشياو" بوضع الحشوة على مسحوق الأرز اللزج، ودحرجتها حتى تصير كرات أرز لزجة. أما صنع "تانغيوان" فيتم بوضع حشوتها في عجينة الأرز اللزج، ثم تعجن تصبح مستديرة، وأنواع حشوتها متنوعة جدا، منها حشوات المكسرات من الجوز واللوز والفول السوداني وبذور البطيخ والسمسم، وأيضا من معجون الفاصوليا والزعرور والحبوب الخشنة والفواكه والأزهار، إضافة إلى حشوات اللحم المقطع مع الخضراوات المملحة واللحم مع الفطر. أما "يوانشياو"، فأنواع حشوتها ليست كثيرة، تكون عادة السمسم الأسود ومعجون الفاصوليا وغيرها من المواد الحلوة.

نشاطات العيد في الشمال وفي الجنوب

من نشاطات عيد الربيع في شمالي الصين، التجول في مهرجان المعابد، بينما في الجنوب يفضلون مشاهدة رقصة التنين ورقصة الأسد.

زيارة مهرجان المعبد نشاط ثقافي تقليدي. المهرجان يضم سوق المطاعم المؤقتة والمبيعات المتنوعة في الحانات ومقاهي الشاي، كما يضم نشاطات التسلية والترفيه المتنوعة المفضلة لكثير من الناس. ويعرض فيه أيضا الكثير من الأقنعة والتماثيل الخشبية ولعب السيارات والتماثيل الصلصالية وغيرها من البضائع، مما يجذب الأطفال. بالإضافة إلى ذلك، هناك الألعاب الشعبية التقليدية أيضا التي تجذب اهتمام وأنظار الجميع.

في المناطق الجنوبية، أصبحت رقصة التنين ورقصة الأسد من أهم مراسم الاحتفال. رقصة التنين تقليد شعبي صيني خاص. حسب الأسطورة الصينية القديمة، التنين يمكنه السيطرة على الغيوم والأمطار وإزالة الكوارث ووهب النعم، إنه رمز للسعادة ولجميع الأشياء الجيدة، لذلك، يكون الغرض من رقصة التنين عادة الدعاء من أجل السلام والحصاد الوافر. مع آلاف السنين من التطور والتنمية، أصبحت رقصة التنين الرقصة التقليدية التي تتميز بحركات رشيقة ونشيطة وجميلة ورومانسية.

التقاليد الصينية تتطور

تقاليد السهر في ليلة رأس السنة و"ويلو" والتجول في مهرجان المعبد ومشاهدة رقصة التنين ورقصة الأسد توارثها الأجيال منذ آلاف السنين. في السنوات الأخيرة، مع التطور التكنولوجي، رُفِدت الثقافة الصينية العريقة بأشكال وأساليب ترفيه جديدة.

لم يعد المظروف الأحمر الذي يحوي بداخله مبلغا من النقود والذي يقدمه كبار السن للصغار فقط، بل أصبح جميع الناس بإمكانهم إعطاء هذا المظروف الأحمر لأقاربهم وأصدقائهم عبر تطبيق "ويتشات" ووسائط التواصل الاجتماعي الأخرى. مع أن المظروف الأحمر الافتراضي يحتوي على مبلغ بسيط من المال، يتمتع الناس بهذه الهدية وبهذا النوع من التهنئة. وفقا للإحصاء، في عشية العام القمري الجديد لعام 2017، أرسل واستلم مستخدمو تطبيق ويتشات 2ر14 مليار مظروف أحمر، كما تم إرسال مليار مظروف أحمر عبر أكبر وسيلة صينية للتواصل الاجتماعي- ويبو- من خلال التعاون مع نجوم ومتجر تيانمو على الإنترنت، إضافة لذلك، شارك 342 مليون مستخدم في نشاط المظروف الأحمر لتنسنت كيو كيو لكسب ثلاثة مليارات و777 مليون مظروف أحمر فيها نقود وقسائم.

تقديم التهاني والتمنيات والتبريكات بين الأفراد والأصدقاء عبر ويتشات هو اتجاه شعبي أيضا. في الماضي، كان الناس يرسلون تحياتهم وتمنياتهم لأفراد أسرهم وأصدقائهم عن طريق ساعي البريد. بعد اختراع الهاتف، استخدمه الناس للاتصال من أجل تقديم التحية وتهنئة بعضهم البعض. أما اليوم فيستخدم الناس ويتشات وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي للتهنئة والتمنيات الطيبة للأصدقاء في كل أنحاء الصين والعالم في نفس الوقت.

حاليا، لا يكتفي الناس بالتمتع وقضاء أوقات طيبة من خلال اجتماع الأسرة فقط؛ فبفضل وسائل البث الحي والتواصل الاجتماعي، يرغب كثيرون في مشاطرة أفراحهم مع كثير من الأشخاص وفي أماكن مختلفة. على سبيل المثال، بإمكان الناس نقل مظاهر عشائهم واحتفالهم عشية السنة القمرية للآخرين بواسطة تطبيقات البث المباشر، أو مشاطرة الآخرين مظاهر وعادات الاحتفال بعيد الربيع المحلية في الشوارع عبر تطبيق غوبرو. مثلا، عندما يتناول شخص "يوانشياو"، يرى مستخدمو تطبيق البث المباشرة وهو يقدم له "تانغيوان"، وبذلك بإمكان الجميع التمتع بالمظاهر والثقافات المختلفة في مكانين مختلفين في نفس التوقيت.

هناك اختلافات كثيرة في العادات التقليدية بين جنوبي وشمالي الصين منذ القدم. تؤثر أشكال العادات الجديدة في التقاليد القديمة. ورغم تغير أشكالها ونمطها، يعلق الناس أمنيات التئام شمل الأسرة ومشاعر الاشتياق للأهل والآمال الطيبة للسنة الجديدة على تلك العادات، التي تظهر تنوع الثقافة الصينية وتوافقها.