معجم الأمثال الصينية.. إشراقات مستقبلية



منذ أن خاض الإنسان منعرجات مسيرة الزمان والمكان، أهدر أشواطا باحثا عن الحقيقة والحكمة المنطوية وراءها، وظل في مسيرته تلك يفكر ويفند ويستقصي مستلهما إشراقات وومضات تحفزه وتدفعه نحو استكشاف المزيد من الغوامض والمكنونات، فظل يترنح بين منعطفات فكرية ونفسية روحية إلى أن بلغ بعضا من دوائر الوعي المنفلت- من أسر الجمود والرتابة الذهنية- التي سمت به نحو أفق الاحتواء الكوني والإنساني فأفرز دفقات من المعرفة الثابتة، ليتسنى له الرد على الاستفهامات الكبرى المؤرقة. وهكذا ظلت معركة التدافع البشري في تهالك وتطاحن، فكان حصاد التجربة المريرة، التي كان وقودها الإنسان عقلا ونفسا وروحا، تراثا عبقريا خالدا من تنويعات المعرفة واتحافات الفكر وقطوف العلم ولباب الأشياء، فاقترب من أعتاب معبد الحكمة في محاولة احتضان التاريخ للمستقبل.

ولعل درر التراث المعرفي الصيني والموروثات العتيقة سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وعقائديا، تعد جديرة بالاستحضار والوجود، حتى في زمن السيادة التكنولوجية الرفيعة وما بعده، إذ أنها تنطوي على آلاف الحكم والأمثال والمأثورات، التي تعد حصاد وعصارة التجربة التاريخية للحضارة الصينية الضاربة في أعماق التاريخ. لكن، رغم المشاق البحثية العديدة لتلك الملحمة، فقد رصد أطرافها في مغامرة رائدة تصدى لها الكاتب التونسي شاكر لعيبي، محاولا تقديم مكنونات الثقافة الصينية خلال "معجم الأمثال الصينية" الذي طرح خلاله مقاربات ومقارنات علمية مع الثقافات الأخرى، وقد تصدرتها الثقافة العربية الإسلامية، طارحا لسؤال محوري هو: هل كان لاو تسي، رائد الحكمة الصينية وصاحب كتاب الطاو، معروفا لدى العرب في الشام أو اليمن أو الحجاز في القرنين الخامس والسادس الميلاديين؟ وكيف نفسر التطابقات بشأن بعض الأفكار مع مثيلتها في الإسلام؟ ومقررا بأنه بعيدا عن الجدال حول فكرة الإنسان الكامل التي تحدث عنها متصوفة الإسلام ومنهم ابن عربي والحلاج وغيرهما، وبعيدا عن مفهومي الجلال والكمال فإن هناك تماثلا بين تلك الفكرة وبين الـ"جونتسي" أو الإنسان الطيب عند كونفوشيوس. ومعنى ذلك أن هناك تقاطعات مثيرة بين أمثال الصينيين والتعابير الصوفية الإسلامية المرتبطة بالحقيقة والحكمة والفضيلة. ويقدم الكاتب شاكر لعيبي استدلالا آخر على مدى عمق التواصل بين الثقافة العربية والثقافة الصينية كانت نواته تلك الرحلات التجارية إلى الصين وما يجاورها، إذ سمحت بنقل بعض أمثال الصين. لقد تجلت آثار ذلك في توصيفات الجاحظ إذ قال: فأما سكان الصين فإنهم أصحاب السبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة وأصحاب الخرط والتصاوير والنسج والخط ورفق الكف في كل شىء يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره وتباينت صنعته وتفاوت ثمنه.

بجانب ذلك، ينبهنا الكاتب إلى شىء خطير ساقه ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) وهو أن اسم بغداد مشتق من اسم ملك صيني إسمه "باغ"، إذ كان تجار الصين إذا انصرفوا إلى بلادهم بأرباحهم الطائلة من سوق بغداد قالوا: (بغ داد) أى الربح الذى حصلنا عليه من عطية الملك.

وقد أكد شاكر لعيبي على بديهة فكرية فحواها، أن تلك الأمثال الصينية لا تتساوى في قيمتها إذ إن بعضها براغماتي والآخر ذو مستوى رفيع، وبعضها الآخر عادي مألوف، وهو شأن أي تصنيف يختلف فيه الوزن النسبي للمفردات حتى لو كانت ذات طبيعة واحدة. لكن، في كل الأحوال تلتمس فيها الروح الثقافية الصينية، وكذلك هي في جملتها إنما تعبر عن منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والنظام العائلي ومكانة المرأة التي لم تختلف في مضمونها عن غالبية الأنساق الأبوية الآسيوية. وبصفة عامة، يطيب لنا أن نسرد على القارىء بعضا من قطوف الحكمة الصينية المتضمنة في ذلك المعجم الصغير الحجم العظيم القيمة ونذكر منها: أن معرفة الآخر علم ومعرفة الذات ذكاء المبادىء تحكم الشرفاء والقوانين تحكم الأشرار للخطايا القديمة ظلال طويلة من الصعب أن يشتري المال أصول الحكمة لسان المرأة سيفها وهي لا تسمح له بالصدأ قط. إلى غير ذلك من الأسس والمنطلقات التي يمكن أن تكون داعمة للوعي الإنساني ومحققة للوجود الفاعل، وهي أسباب منطقية تعد دافعة لقراءة المعجم مرات ومرات.

----

د. محمد حسين أبو العلا، كاتب وأستاذ علم الاجتماع السياسي في مصر.