عيد الربيع وعام الكلب


عيد الربيع، الذي يسميه الصينيون "تشون جيه"، يصادف اليوم الأول من العام الجديد وفقا للتقويم القمري الصيني التقليدي. هو عيد، كما كل الأعياد التقليدية للشعوب، لالتئام شمل الأسرة إذ يحرص كل فرد مهما كان بعيدا على أن يعود إلى موطنه، ولهذا تشهد الصين في فترة عيد الربيع أكبر حركة سفر في العالم سنويا.

يرجع تاريخ عيد الربيع إلى ما قبل آلاف السنين. وتقول واحدة من الأساطير العديدة حوله، إنه في الصين القديمة كان يعيش وحش له قرنان اسمه "نيان" (كلمة نيان تعني سنة بالصينية). كان "نيان" المخيف بشكل رهيب يعيش في قاع البحر طوال السنة ولا يخرج إلى الشاطئ إلا في عشية العام الجديد فيأكل المواشي ويقتل الناس. بسبب ذلك، كان الناس في كل القرى يفرون في عشية العام الجديد، ويأخذون صغارهم وكبارهم إلى الجبال البعيدة لتجنب المأساة المتوقعة عندما يخرج "نيان". ذات يوم، وبينما كان أهل قرية زهور الخوخ يتأهبون للاختباء جاءهم من خارج القرية متسول عجوز يحمل في يده عصا وفي ذراعه حقيبة. كانت عيناه تبرقان مثل النجوم وكانت لحيته فضية اللون. القرويون الذين أصابهم الفزع، أسرعوا للهروب. منهم من كان يغلق النوافذ ويقفل الأبواب، ومنهم من كان يحث المواشي ويدفع الأغنام. وسط صياح الناس وصهيل الخيول، لم يهتم أحد بهذا المتسول. فقط جدة عجوز تعيش في أقصى شرقي القرية أعطت المتسول لقيمات من الطعام ونصحته بأن يفر إلى الجبال ليتجنب الوحش. بيد الرجل تحسس لحيته وقال مبتسما: "إذا سمحتم لي بالبقاء في داركم طوال الليل فسوف أبعد عنكم الوحش." نظرت إليه العجوز غير مصدقة. حاولت أن تقنعه بالفرار ولكنه ابتسم من دون رد. في النهاية لم تستطع الجدة المسنة إلا أن تفر إلى جبل تاركة دارها. في منتصف الليل، اندفع "نيان" إلى القرية، فوجد الأجواء مختلفة تماما عما كانت في العام السابق. كانت دار الجدة في شرقي القرية ساطعة الأنوار وأبوابها مغطاة بأوراق حمراء. أصيب الوحش بصدمة فأطلق صرخة عالية غريبة، وحملق بغضب نحو الدار لبرهة، ثم اندفع حتى اقترب من الباب. فجأة انفجرت أصوات مفرقعات. توقف الوحش ولم يجرؤ على التقدم خطوة. بدا واضحا أن ما أخاف الوحش هو اللون الأحمر ولهيب النار والانفجارات. وعندما فتح باب دار الجدة العجوز، خرج المتسول في رداء أحمر ضاحكا في فناء الدار، أصيب الوحش بالهلع وفر هاربا.

كان اليوم التالي هو أول يوم في أول شهر قمري. عندما عاد الناس من مخابئهم ووجدوا أن كل شيء على ما يرام، انتابتهم الدهشة. أدركت الجدة العجوز ما حدث وأخبرت أهل القرية عن وعد المتسول. تدفق القرويون إلى دار الجدة فرأوا الأبواب المغطاة بالأوراق الحمراء وأكوام الخيزران مازالت مشتعلة وتطلق أصوات فرقعة في الفناء، وبضع شمعات مازالت مضيئة في الغرف. انتشرت القصة وتحدث الناس عنها، واعتقدوا أن ذلك الرجل المتسول كائن سماوي جاء ليبعد عنهم المآسي ويجلب لهم البركات، وأن الأوراق الحمراء واللباس الأحمر والشمع الأحمر والألعاب النارية المتفجرة هي الأدوات السحرية لإبعاد الوحش "نيان".

منذ ذاك، وفي عشية كل عام جديد، صارت كل عائلة تلصق على باب دارها دوبيتات من الشعر مكتوبة على أوراق حمراء، وتطلق الألعاب النارية وتجعل البيوت مضيئة وتبقى ساهرة. وفي الصباح الباكر لليوم الأول من العام الجديد، يرتدي الجميع ملابسهم وقبعاتهم الجديدة ويذهبون إلى أقاربهم وأصدقائهم لتهنئتهم بالعام الجديد. هذه التقاليد مستمرة حتى يومنا هذا.

في السادس عشر من هذا الشهر، فبراير 2018، تستقبل الصين عاما قمريا جديدا، كما ترحب كلاب الصين بعامها، بعد انتظار دام اثنتي عشرة سنة. وبهذه المناسبة، سيصدر البريد الصيني طابعين احتفاء بعام الكلب، قيمة كل منهما 2ر1 يوان.

تتكون دورة الأبراج الصينية، من اثني عشر برجا يمثل كل منها سنة، ويرمز لكل سنة بحيوان: الفأر، الثور، النمر، الأرنب، التنين، الثعبان، الحصان، الخروف، القرد، الديك، الكلب، وأخيرا الخنزير.

على أي حال، تستقبل الكلاب عامها بعد أن شهدت الصين خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية تغيرات كبيرة، لم يكن هذا الحيوان اللطيف استثناء منها. ولكن، وكما هو الحال مع البشر، ليست الكلاب سواء، فكلاب الشوارع غير الكلاب التي يقتنيها الأفراد وينفقون عليها ببذخ، كما أن هذه وتلك ليست مثل الكلاب البوليسية التي تحظى بعناية فائقة، فقبل اثنتي عشرة سنة كانت نفقات الكلب البوليسي الواحد في بر الصين الرئيسي في السنة أكثر من خمسمائة دولار أمريكي، ومع ارتفاع الأسعار ربما تتجاوز التكلفة حاليا ألف دولار أمريكي، بل إن الجهات المعنية توفر لها مقابر لدفنها فيها، بعد أن تمضي فترة شيخوختها معززة مكرمة في دور رعاية خاصة للكلاب المسنة!

هناك أرقام متباينة لعدد الحيوانات الأليفة في الصين، وإن كان هناك إجماع على أن مقاطعة قوانغدونغ في جنوبي البلاد تحتضن العدد الأكبر منها. في السادس عشر من أكتوبر عام 2015، ذكر تقرير لصحيفة ((تشينا ديلي)) الصينية التي تصدر بالإنجليزية، إن قوانغدونغ بها عشرة في المائة من مائة مليون حيوان أليف مسجل في أنحاء الصين، وفقا لمسح أجراه مركز تشونغجينغتشيشين لاستشارات المعلومات الدولية في بكين، والذي توقع أن يرتفع هذا العدد بنسبة 10% سنويا، ما يعني أن الرقم حاليا يقترب من مائة وثلاثين مليونا، ويعني أيضا أن واحدا من كل ثلاثة عشر صينيا لديه حيوان أليف مسجل. وفي ترتيب المقاطعات التي تأوي الحيوانات الأليفة، يأتي بعد قوانغدونغ، جيانغسو، وتشجيانغ، وشانغهاي، وبكين، وشاندونغ، على التوالي. ومن حيث المدن، تتصدر قوانغتشو القائمة، تليها بكين وشانغهاي وتشونغتشينغ ووهان. اللافت في هذه الدراسة، أن الكلاب تأتي في مقدمة الحيوانات الأليفة التي يربيها الصينيون، بنسبة 62%، ما يعني أن الصين بها على الأقل سبعون مليون كلب مسجل، فإذا أضفنا إليها الكلاب غير المسجلة فإن العدد قد يتجاوز ضعف هذا الرقم. ومن بعد الكلاب، تأتي القطط بنسبة 19% ثم السلاحف بنسبة 6%، متقدمة على أسماك الزينة والأرانب والطيور!

وقد وجد هذا المسح أن 11% من العائلات الصينية تنفق أكثر من عشرة آلاف يوان (الدولار الأمريكي يساوي 6ر6 يوانات) سنويا على رعاية الحيوان الأليف، بينما ينفق 32% منهم من ألف إلى ثلاثة آلاف سنويا. ويقدر المعنيون أن عائدات هذا القطاع في بر الصين الرئيسي بلغت أكثر من 15 مليار يوان في عام 2015!

أصحاب الحيوانات الأليفة في الصين معظمهم من متوسطي العمر، فمعظمهم تقل أعمارهم عن 45 سنة، فأعمار 6% أقل من 37 سنة، في حين تتراوح أعمار 37% منهم بين 25 و30 سنة، و24% منهم بين 31 و35 سنة، و18% منهم بين 36 و45 سنة، أما الفئات العمرية فوق 45 سنة فلا يمثلون أكثر من 8%.

ومواكبة للتطورات التي شهدتها الصين خلال السنوات الأخيرة، صار اقتناء كلب أليف عملية ميسرة، وعلى سبيل المثال أصبح ممكنا لأي فرد في بكين الحصول على كلب وقتما يشاء بتحديد موعد مع مركز إيواء الكلاب الضالة في بلدة تشيليتشو بحي تشانغبينغ، الذي لا يبعد أكثر من أربعين دقيقة بالسيارة من وسط المدينة. هذا المركز الذي تبلغ مساحته ثلاثين ألف متر مربع وتتولى إدارته مصلحة الأمن العام ببكين أنشئ عام 1998، ويقدم للكلاب الضالة الرعاية البيطرية والعلاج وخدمات التبني، فضلا عن أنه مزود بمستشفى بيطري وكافتيريا للكلاب وخبراء متخصصين وحرّاس لضمان المعاملة الطيبة للكلاب، وتأمين إمدادهم بالطعام المغذي. وبالنسبة لخدمات التبني هناك رقم هاتف مُعلن للمركز يمكن لأي شخص، تتوفر فيه المؤهلات المطلوبة، أن يتصل به لتحديد موعد للذهاب إلى المركز ومعاينة الكلاب على الطبيعة لاختيار الكلب الذي يريد أن يتبناه. وأهم شرط يجب توفره في طالب تبني الكلب أن يكون لديه بيت وأن يحمل شهادة بذلك من الحي السكني الذي يقيم به. ولكن اللوائح في العاصمة الصينية تحظر أن يكون لدى الأسرة الواحدة أكثر من كلب واحد

غير أن الانتشار الواسع لاقتناء الكلاب في مدن الصين لا يخلو من مشكلات، وعلى رأسها الإصابة بداء الكلب. وقد فرض هذا الواقع على السلطات الطبية في بكين مثلا فتح العديد من العيادات الطبية المتخصصة لداء الكلب تعمل على مدار الساعة لاستقبال حالات الإصابة بعضة الكلب وتخصيص خط هاتف ساخن لمن يعضه كلب. وربما تفاديا لوقوع إصابات ناتجة عن عضة الكلب، أصدرت بلدية بكين قبل أكثر من عشر سنوات لوائح تحظر وجود أي كلب يتجاوز طوله 35 سم في أماكن معينة مثل المراكز المزدحمة بوسط المدينة. وقد احتج أنصار حماية الحيوان بأن الحظر يجب أن يوجه إلى أصناف معينة من الكلاب وليس على أساس الطول والحجم. وردت مصلحة الأمن العام، المعنية بحماية وتأمين سلامة المواطن والكلب معا، بأن الكلاب الضخمة والتي يصعب تبنيها في البيوت سوف تنقل إلى الجهات التي تحتاج كلاب حراسة أو إلى مركز الإيواء حتى توافيها المنية! ورد المحتجون بأن التركيز يجب أن ينصب على رفع نوعية أصحاب الكلاب وليس فقط أخذ الكلاب بعيدا، وطالبوا باتخاذ إجراءات مشددة ضد المزارع غير المرخصة قانونيا لتربية الكلاب والأفراد الذين يتربحون من بيع الكلاب.

انتشار الكلاب الواسع بين البشر، دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة، يمكن أن يكون عنصر تهديد ليس فقط لأمن وسلامة المواطن وإنما أيضا لصحته وحياته. وحسب تقرير لوزارة الصحة الصينية أصبح داء الكلب من بين أكثر الأمراض المعدية القاتلة في الصين. ولهذا تطبق بكين منذ نهاية أكتوبر 2006 لوائح حيازة الكلب التي تهدف إلى تسجيل كل كلاب البيوت والتأكد من تطعيمها، ومصادرة الكلاب غير المسجلة. وأصدرت مصلحة أمن العاصمة إشعارا بأن كل صاحب كلب يريد أن يتخلى عنه يمكن أن يذهب إلى أقرب قسم شرطة ويسلمه هناك. وتشهد بكين أيضا حملات لنشر التوعية بتربية الكلاب بطرق متحضرة، حيث تدعو المواطنين إلى تنظيف مخلفات الكلاب بالشوارع وتدريب الكلاب وعدم أخذها إلى الأماكن العامة، ضمانا لسلامة وطمأنينة البشر. وفي شانغهاي، تم زرع شرائح رقمية تمنع انتشار داء الكلب. هذه الشرائح الرقمية تتضمن رقم هوية يستخدم للاستدلال على معلومات؛ منها فصيلة الكلب وجنسه ولونه وعنوان وصورة صاحبه. أما مدينة قوانغتشو، فقد ابتكرت طريقة جذابة لتشجيع أصحاب الكلاب المسجلة وغير المسجلة لمنع الأمراض ذات العلاقة بالكلب، وذلك بتقديم دعم مالي لهم.

الجهود التي تبذلها السلطات المعنية في الصين للتعامل مع ظاهرة تزايد الكلاب تحظى بتقدير كبير من المواطنين، خاصة أن توجه الزيادة في اقتناء الحيوانات الأليفة في هذا البلد يتعاظم يوما بعد يوم مع التحسن الملحوظ في مستويات المعيشة والتغيرات التي يشهدها المجتمع الصيني والتي تجعل من الحيوان الأليف، وبخاصة الكلب، بديلا في أحيان كثيرة للإنسان. إن تنامي عدد المسنين وتزايد أعداد الأسر التي تختار عدم إنجاب أطفال وكثرة عدد العزاب والعازبات في الصين والحياة بعيدا عن الأهل لأسباب مختلفة، كلها ظواهر تفرض وجود تعويض نفسي، قد يكون الكلب قادرا على توفيره.

تطور الصين لا يستفيد منه الصينيون فحسب وإنما أيضا حيواناتهم.