أربعون عاما من الإصلاح والانفتاح في الصين
حرية بعيدة المدى وازدهار متزايد

 

عندما نتحدث عن الصين حاليا، فإننا نرى ونتحدث عن بلد ناهض وديناميكي وسريع النمو، أصبحت قوته الاقتصادية معيارا ونموذجا عالميا. الصين منتشرة في كل مكان: التكنولوجيا الصينية المتطورة على وشك أن تغزو السوق العالمية، السلع الاستهلاكية الصينية أصبحت جزءا لا يتجزأ من مراكز التسوق في العالم، والمسافرون الصينيون أيضا يهيمنون على قطاع السياحة.

ما يبدو أنه طبيعي جدا اليوم، كان يصعب تصوره منذ وقت ليس ببعيد. شخصيا، كان أول لقاء لي مع شخص من الصين في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. فقبل بضع سنوات فقط، بدأ هذا البلد، الذي كان مغلقا إلى حد كبير في ذلك الوقت، في الانفتاح بحذر على العالم الخارجي وإدخال إصلاحات هامة في الداخل. وفي هذا السياق، تم السماح أيضا لأول دفعة من الطلاب الصينيين بالسفر إلى الخارج ضمن برنامج للتبادل الثقافي.

في مسكني بالقسم الداخلي في ألمانيا آنذاك، التقيت بصديقتي الطالبة الصينية الودودة لي جي، التي جاءت إلى ألمانيا لتعلم اللغة الألمانية والدراسة لفصل دراسي واحد في كلية الاقتصاد بجامعة فرايبورغ. على الرغم من الحواجز اللغوية، جرت بيننا العديد من المحادثات الجيدة والمشوقة في ذلك الوقت.

كان من المثير جدا بالنسبة لي أن أتعلم وأطلع لأول مرة على الحياة في الصين. لي جي، من ناحية أخرى، كان لديها فضول لمعرفة المزيد عما يحرك ويثير اهتمام الناس في ألمانيا.

أتذكر في إحدى المرات أنها أعطتني علبة دواء حمراء صغيرة (علامة أبو فاس الشهيرة) لعلاج نزلة للبرد والزكام والرشح. وهو عقار مستخدم منذ فترة طويلة. ولا أزال احتفظ بعلبة الدواء الصغيرة، كهدية تذكارية حتى اليوم.

كانت أياما حافلة بالأحداث عندما اجتمع مندوبو الحزب الشيوعي الصيني في العاصمة الصينية بكين، من 18 إلى 22 ديسمبر عام 1978، في الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني. ما تقرر هناك في قاعة الشعب الكبرى كان بمثابة التغيير البعيد المدى الذي يصفه المؤرخون عند التطرق إليه، في بعض الأحيان بـ "الثورة الجديدة" أو "الثورة الثانية". نحن نتحدث هنا بالطبع عن تطبيق وإدخال "سياسة الإصلاح والانفتاح"، التي سبق أن أشرت إليها أعلاه.

كان الموضوعان الرئيسيان للمؤتمر العام في عام 1978 هما: "تحرير الفكر" و"الديمقراطية". وعلى وجه التحديد، أشار مصطلح "الإصلاح والانفتاح" إلى مجالين هامين من مجالات السياسة العامة هما: الإصلاحات داخل الصين نفسها والانفتاح الخارجي النشيط على العالم الخارجي.

كانت الإصلاحات في الداخل تهدف إلى تغيير جذري في النظام الاقتصادي والمؤشرات الأخرى، التي عملت في الماضي على تباطؤ مسيرة تنمية القوى الإنتاجية في الصين. وكخطوة أولى نحو الانفتاح، بدأت قيادة الدولة الجديدة آنذاك إنشاء أربع مناطق اقتصادية خاصة (بما في ذلك شنتشن). والخطوة الأخرى، كانت خطة فتح المناطق الساحلية والنهرية والحدودية حتى تتم المشاركة الكاملة في العولمة الاقتصادية.

سياسة الإصلاح والانفتاح تعني في المقام الأول الابتعاد عن الصراع الطبقي كمبدأ توجيهي، والتحول نحو التنمية الاقتصادية في البلاد باعتبارها المقدمة أو الشرط الأساسي. إن الإصلاحات التي أدخلت في ذلك الوقت تعني التخلي النهائي عن النموذج السوفيتي للاقتصاد المخطط الاشتراكي، والتحول نحو الاشتراكية الصينية بهدف دفع التنمية السلمية والتحديث الاشتراكي للبلاد.

وفي معرض الحديث عن سياسة الانفتاح في الصين، فإن هذا الموضوع يرتبط ارتباطا وثيقا باسم السياسي الرئيسي الذي بدأ التحول من الاقتصاد المخطط بشكل متشدد، إلى دولة أكثر حرية ونظام اقتصادي أكثر حرية، ولا شك أنه مهندس الإصلاح والانفتاح، الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ.

لم يكن دنغ شياو بينغ هو "أبو سياسة الانفتاح" الصينية فحسب، وإنما أيضا الزعيم الذي وضعت إصلاحاته الأساس لقصة النجاح الاقتصادي المثيرة في الصين، حيث تطورت الصين خلال أقل من ثلاثة عقود من دولة فقيرة تنتمي إلى العالم الثالث إلى واحدة من القوى الاقتصادية الرائدة في العالم. كما أن إصلاحاته كانت الأساس لتفوق الصين على الدول المتقدمة وحتى على بلدي ألمانيا من حيث القوة الاقتصادية في وقت مبكر، منذ ما يقرب من عشر سنوات مضت. دنغ شياو بينغ قال: "عندما كان لين بياو وعصابة الأربعة يرتكبون جرائمهم الشنعاء، كانت الحقوق الديمقراطية للشعب الصيني تداس وتسحق في جميع أنحاء البلاد."

لم يعد هناك أي أثر وبقايا لهذه المأساة اليوم. تحررت الصين، بفضل سياستها المتمثلة في الإصلاح والانفتاح، وتحولت من الفقر والخمول إلى مجتمع مليء بالطاقة والحيوية.

شوارع وساحات مدن وقرى الصين، تدهشك بالحياة المبهجة والتنوع ومظاهر التطور والرفاهية للشعب الصيني في حياته اليومية. لقد تمكنت سياسة الإصلاح والانفتاح من إحياء الحضارة الصينية وإعطاء الشعب الثقة بالنفس والفخر بالنجاح الاقتصادي والسياسي المتزايد.

لقد مرت أربعون سنة على تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح. ومن دون أدنى شك، أنه من دون الخطوة الشجاعة والقرار الجريء لدنغ شياو بينغ، ما كان ليحدث ما نراه من الانفتاح والتحرر الذي تشهده الصين حاليا في المجال السياسي والاجتماعي.

الآن، يوجد مجتمع عالمي متطور ومتنوع جدا في الصين. خلال إقامتي في الصين منذ عام 2005 وما بعدها، لم ألحظ خلال مناقشاتي المثيرة للجدل مع أبناء الشعب الصيني أن هناك موضوعات أو قضايا محرمة. بل على العكس من ذلك، فوجئت كثيرا بشغفهم للمناقشات والإبداع، والتفكير الحر مع العديد من المحاورين.

في الصين حاليا، تجد ازدهارا وتنوعا في المجال الثقافي لم يكن من الممكن تصوره قبل بضع سنوات: من أوبرا بكين إلى المسرح التجريبي، من الأغاني الشعبية التقليدية إلى الموسيقى الكلاسيكية الصينية والأوروبية إلى موسيقى التكنو والراب، تقريبا كل نوع من أنواع الموسيقى موجود في قطاع الموسيقى في الصين في الوقت الحاضر. ونفس التنوع موجود في مجال الفنون المسرحية ومجال الكتابة. في عام 2009، وباعتبارها البلد ضيف الشرف في معرض فرانكفورت للكتاب، استطاعت الصين تقديم مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعمال الأدبية، من الصعب حصر غزارة أنواعها وأساليبها، ومن بينها الطبعة الألمانية- الصينية المنشورة حديثا من روايتي الأولى "حول سحر الأفعى البيضاء".

إن إعادة التوجه فيما يتعلق بالمجتمع المتناغم، كما بدأته القيادة الصينية السابقة في عهد هو جين تاو، لم يكن من الممكن تصوره أو تحقيقه لو لم يكن هناك دنغ شياو بينغ، في الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة للحزب الشيوعي الصيني في ديسمبر 1978، التي جاءت بإصلاحات جلبت المزيد من الحرية والازدهار للملايين من الصينيين.

لا يمكن إنكار أنه لا تزال هناك فجوة واختلافات اقتصادية واجتماعية كبيرة بين المقاطعات الصينية الشرقية والغربية، والتي تعرف بالشرق الغني والغرب المتخلف نسبيا. ومع ذلك، فإن ادعاءات بعض وسائل الإعلام الغربية، بأن الصين تهمل المقاطعات الغربية لصالح الشرقية، هي بلا شك غير دقيقة وغير صحيحة ولا أساس لها. بدون الازدهار الاقتصادي للمناطق الناجحة على الساحل الصيني، لم يكن من الممكن تطوير المناطق الأقل نموا وتعزيزها على نحو شامل كما تمارسه الحكومة الصينية اليوم. لا يوجد سوى عدد قليل جدا من البلدان في العالم التي تعمل وتبذل حكوماتها الجهود مثلما تقوم به الحكومة الصينية من جهود كبيرة من أجل حل فجوة الثروة في مختلف المناطق والتعويض عن الظلم الاجتماعي، كما نراه في الصين في وقتنا الحالي.

كما أن مشروعات إحياء وتنشيط طريق الحرير القديم، أو ما يعرف عالميا حاليا بـ"مبادرة الحزام والطريق"، التي تشارك فيها أكثر من 70 دولة ومنظمة حتى الآن، ستسهم أيضا بلا شك إسهاما كبيرا في التنمية المشتركة للصين في جميع مناطقها، وكذلك لكافة المشاركين بالمبادرة. "حزام واحد، طريق واحد"، أو "الحزام والطريق"، أي الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، هي المبادرة، التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013 خلال جولة رسمية له في وسط وجنوبي آسيا. الهدف من هذه المبادرة هو توسيع نطاق الانفتاح وتكثيف التعاون مع البلدان الأخرى على أساس المنفعة المتبادلة، وبالتالي إعطاء دفعة جديدة للاقتصاد الوطني والدولي. مع مبادرة "الحزام والطريق"، لم تنجح الصين في استمرار واستدامة سياسة الإصلاح والانفتاح فحسب، وإنما أيضا في رفعها إلى مستوى أعلى.

المفهوم الجديد لإصلاح جانب العرض يعتبر أيضا استمرارا لسياسة دنغ شياو بينغ في الإصلاح والانفتاح. وأكد شي جين بينغ في تقريره أمام المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني "أنه بالنظر إلى الإصلاح الهيكلي لجانب العرض كنقطة مركزية في إصلاحاتنا، فإن التغيير في نوعية وكفاءة وقوى دفع التنمية الاقتصادية في الصين يجب أن يكون مدفوعا بنشاط إلى الأمام." وفي ظل هذه الخلفية، ومن أجل تحفيز الاقتصاد من خلال الابتكار، والتخلص التدريجي من وسائل الإنتاج القديمة المتهالكة، وتخفيض الديون وزيادة القدرة والطاقة الإنتاجية، فضلا عن خفض الأعباء الضريبية، تهدف الحكومة الصينية إلى إطلاق قوى إنتاج جديدة في الشركات الصينية، وبالتالي تحسين قدرتها التنافسية. وبالإضافة إلى ذلك، تعتزم الحكومة الصينية تكثيف سياستها المالية النشيطة ومواصلة سياستها النقدية المعتدلة أو الحذرة الحالية. والهدف الرئيسي هو تحسين الهيكل الاقتصادي- لتعزيز النمو والازدهار.

في افتتاح قمة مجموعة العشرين في هانغتشو في الثالث من سبتمبر 2016، ألقى الرئيس شي جين بينغ كلمة رئيسية بعنوان "نقطة انطلاق جديدة للتنمية الصينية، خارطة طريق جديدة للنمو العالمي". ومن بين أمور أخرى، قال الرئيس شي: "يتساءل الكثير من الناس ما إذا كان الاقتصاد الصيني يستطيع تحقيق نمو مستدام ومستقر، وما إذا كانت الصين ستواصل سياستها في الإصلاح والانفتاح، وما إذا كانت جمهورية الصين الشعبية يمكنها أن تتجنب فخ الدخل المتوسط. الأفعال والإنجازات تتحدث بصوت أعلى من الكلمات. فقد ردت الصين على هذه الأسئلة بعمل حقيقي." وذكر شي أن الصين تقف عند نقطة انطلاق تاريخية جديدة لتعميق إصلاحاتها بشكل شامل، وخلق قوة دافعة جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وأضاف شي أن الصين تدخل الوضع الطبيعي الجديد لتنميتها الاقتصادية وإعادة هيكلة اقتصادها، وهو عصر من التفاعل العميق بين الصين وبقية العالم، فضلا عن عهد لانفتاح أكثر اتساعا للبلاد.

لذلك، يمكننا أن نكون مهتمين ومندهشين بالتطورات القادمة التي سنشهدها في الصين في المستقبل القريب!

ملاحظة وإضافة أخرى عن صورة الصين في الغرب: في رأيي، أن العديد من تقارير وسائل الإعلام الغربية عن وضع حقوق الإنسان في الصين، هي إما أحادية الجانب أو غير مدروسة جيدا. بالتأكيد، لا تزال هناك أشياء تستحق الانتقاد في الصين حاليا. غير أن اتجاه الصحفيين الغربيين إلى تقليص الحالة الراهنة للبلاد وحصرها في صورة دولة تتجاهل بشكل دائم حقوق مواطنيها في الحرية، هو بالتأكيد ليس إنصافا للوضع الحقيقي.

إن قراءة الصحف الغربية، تجعل القارئ في كثير من الأحيان يحصل على انطباع بأن المحررين الذين يكتبون عن الصين يقومون فقط بنسخ نصف الحقائق والاستعانة بها من بعضهم البعض، ولم يسبق لهؤلاء الكتّاب أن زاروا الصين وشاهدوا الواقع بأم أعينهم.

إن عملية الإصلاح الإداري والقضائي المستمرة، حسنت بشكل كبير وضع حقوق الإنسان في الصين، ولكنها ربما مازالت محجوبة إلى حد كبير في وسائل الإعلام الغربية وعن قرائها. سيكون من الأفضل للصحفيين الغربيين الاطلاع على صورة الوضع الحقيقي في الصين من أرض الواقع مباشرة، بدلا من أن يستندوا بشكل غير دقيق في تقاريرهم إلى بيانات وإحصاءات من أطراف ثالثة، دون معرفة مدى دقة وصحة معلوماتهم.

بعد أربعة عقود من سياسة الإصلاح والانفتاح، هناك حقيقة واحدة ملموسة وجلية: ليس الشعب الصيني هو المستفيد وحده من التنفيذ الناجح لسياسة الانفتاح لدنغ شياو بينغ، فالعالم كله مستفيد منها.

الصين حاليا أحد أهم محركات الاقتصاد في العالم. وبينما يستفيد الناس في بلداننا الغربية من المنتجات الصينية، الرخيصة منها والعالية الجودة، فإن الصين هي أيضا واحدة من أكبر وأكثر الأسواق المربحة في العالم للشركات الغربية. لا يمكن تصور مستوى الرخاء الذي نتمتع به في عالمنا اليوم من دون القوة الاقتصادية للصين.

وبالنظر إلى الوضع الأولي في عام 1978، فإن نجاح سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين أصبح واضحا بشكل خاص. وقد دخلت الصين في تحول مذهل من بلد فقير في العالم الثالث إلى محرك ديناميكي فعال للغاية للاقتصاد العالمي بأسره.

في قمة مجموعة العشرين بمدينة هانغتشو، اقترح شي جين بينغ المفهوم الصيني للاقتصاد العالمي، ودعا إلى توسيع المجالات الاقتصادية، وقال إن الصين مستعدة "للعمل مع جميع الأطراف المعنية في قمة مجموعة العشرين في هانغتشو، لتعزيز تنمية قوية ومستدامة وشاملة للاقتصاد العالمي."

وبمناسبة الذكرى الأربعين لتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، التي أطلقها دنغ شياو بينغ، والنجاحات والإنجازات المتحققة، أود أن أهنئ من كل قلبي، جميع أصدقائي في الصين والشعب الصيني بأسره، وأن أتقدم بأطيب تمنياتي بالتوفيق والنجاح الدائم في مواصلة مختلف عمليات الإصلاح.

--

هلموت مات، كاتب ألماني معروف وخبير في الشؤون الصينية.