مجتمع الحياة الرغيدة (شياوكانغ)

 تقرأ وتسمع كثيرا في وسائل الإعلام الصينية هذه الأيام، وربما لبضع سنوات قادمة عبارة "مجتمع الحياة الرغيدة"، التي كانت حاضرة بقوة في المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في شهر أكتوبر 2017.

مجتمع الحياة الرغيدة (شياوكانغ باللغة الصينية)، مصطلح صيني ذو أصول كونفوشية، جاء ذكره لأول مرة في ((كتاب الشعر)) الكونفوشي قبل نحو ثلاثة آلاف سنة. وهو يشير إلى مجتمع يمكن أن يعيش المرء فيه حياة رغيدة، أي معيشة طيبة رحبة. بهذا المعنى، "شياوكانغ" ليس مجتمع الوفرة، ولكنه أيضا مجتمع يتجاوز تلبية الاحتياجات الضرورية للفرد، وهي حسب المفهوم الصيني الطعام الكافي واللباس الدافئ.

مجتمع الحياة الرغيدة، إذاً، ليس المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون، ولكنه أيضا ليس ما قرأت عنه في مذكرات الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ، عندما كنت أقوم بالتنقيح اللغوي لجزء منها، بأن أمنية الشعب هي أن يأكل الأرز مع مرق لحم البقر. بعبارة أخرى، مفهوم "شياوكانغ" ليس ذا دلالة اقتصادية فحسب، فتحقيق النمو الاقتصادي ليس وحده جُل اهتمام المجتمع، وإنما ينبغي أن يكون هذا النمو الاقتصادي متناغما مع المساواة الاجتماعية وحماية البيئة وأوجه الحياة الأخرى، وإن ظلت النقطة المحورية في "شياوكانغ" هي الطعام الكافي.

أذكر أنني عندما وصلت إلى بكين لأول مرة، في عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، لم تكن التحية التي يبادر بها الصيني لصديقه أو زميله أو قريبه هي: "ني هاو" (أهلا) أو "ني هاو ما؟" (كيف حالك؟)، وإنما "ني تشه فان له ما؟" وترجمتها الحرفية هي: (هل أكلت؟)

في تلك الفترة، كانت تداعيات الثورة الثقافية (1966- 1976) ومن قبلها القفزة الكبرى إلى الأمام من منتصف الخمسينات حتى منتصف ستينات القرن العشرين، مازالت موجودة حتى في مدينة كبيرة مثل بكين، ناهيك عن المناطق الريفية. كان الهم الأكبر للصينيين هو الطعام الكافي. وحقيقة الأمر أن الصينيين يعتبرون حق الحياة الحق الأول للإنسان، ومن هنا تحتل مسألة الطعام الكافي الذي هو الأساس في حياة الفرد مكانة جوهرية في الثقافة الصينية، لا يسبقها إلا ثقة الشعب في حاكمه. وقد دار الحوار التالي بين كونفوشيوس وواحد من تلاميذه: سأل التلميذ: كيف يجب أن تُحكم الدولة؟ فأجاب كونفوشيوس: مقومات الحكم هي أن يتوفر الطعام الكافي والتجهيزات العسكرية الكافية وثقة الشعب في حاكمه. عاد التلميذ وسأل: إن لم يكن من بُد ويجب الاستغناء عن واحد من تلك، أي منها يجب التخلي عنه أولا؟ قال كونفوشيوس: التجهيزات العسكرية. سأل التلميذ مرة أخرى: إن لم يكن من بُد ويجب الاستغناء عن واحد من الاثنين الباقيين، أيهما يجب التخلي عنه أولا؟ قال الحكيم الصيني: جزء من الطعام، فمن قديم الزمان الموت هو قدر كل الناس، ولكن إن لم يكن لدى الشعب إيمان بحكامه، فلا مبرر لوجود الدولة.

الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ، مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، تحدث عن "شياوكانغ" في عام 1979 باعتباره الهدف النهائي للتحديثات الصينية. هنا تنبغي الإشارة أيضا إلى أن "التحديثات الأربعة" هي أهداف وضعها رئيس مجلس الدولة الصيني الراحل شو أن لاي سنة 1963 لتعزيز مجالات الزراعة والصناعة والدفاع الوطني والعلوم والتكنولوجيا في الصين، وفي سنة 1978، تم تبنيها كوسيلة لاستعادة حيوية الاقتصاد الصيني عقب وفاة الزعيم ماو تسي تونغ.

في الثامن من نوفمبر عام 2002، كان التقرير الذي ألقاه جيانغ تسه مين، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني آنذاك، في المؤتمر الوطني السادس عشر للحزب بعنوان "بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل وخلق وضع جديد لقضية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". وفي الخامس عشر من أكتوبر 2007، كان التقرير الذي ألقاه هو جين تاو، الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني آنذاك، في المؤتمر الوطني السابع عشر للحزب بعنوان "رفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية لتحقيق إنجاز جديد في بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل". وفي نوفمبر عام 2012، كان الموضوع الرئيسي للمؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني هو "التقدم على طريق الاشتراكية ذات الخصائص الصينية بثبات لا يتزعزع لإنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل".

في العشرين من أغسطس عام 2014، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو أيضا الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، في ندوة لإحياء الذكرى العاشرة بعد المائة لميلاد دنغ شياو بينغ: "القضية العظيمة تواجه غالبا صعوبات وعوائق، وتحتاج إلى الريادة والابتكار. الاشتراكية ذات الخصائص الصينية قضية عظيمة غير مسبوقة، وأمام الإصلاح والانفتاح وبناء التحديثات الاشتراكية مسافة طويلة. على سبيل التقدم، نخوض كفاحات عظيمة كثيرة ذات خصائص تاريخية جديدة. يجب علينا أن نتعلم من الرفيق دنغ شياو بينغ، شجاعته السياسية على الريادة والابتكار، ومراقبة الممارسات والتطورات الجديدة بدقة، واحترام روح المبادرة الإبداعية للمحليات والقواعد والجماهير، واتخاذ القرارات بحزم، واتخاذ الريادة والابتكار وضعا طبيعيا، وإرشاد الممارسات الجديدة بالماركسية المتواصلة التطور، ثم نستنتج ونلخص الممارسات، ونمتلك الجرأة على تحطيم القديم وإقامة الجديد، وعلى الاقتحام والتجربة، لندفع الإصلاح والانفتاح إلى الأمام بدون تردد."

وفي الثاني من فبراير عام 2015، قال السيد شي: "إن بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل هو هدفنا الاستراتيجي، عندما نحقق هذا الهدف في عام 2020، سيرتقي مستوى التنمية في بلادنا إلى درجة كبيرة، فينبغي أن نركز كل كفاحنا على تحقيق هذا الهدف. وتعميق الإصلاح على نحو شامل، وحوكمة الدولة وفقا للقانون على نحو شامل، وحوكمة الحزب بصرامة على نحو شامل، هي الإجراءات الاستراتيجية الهامة لتحقيق الهدف، ولا يمكن الاستغناء عن أي منها لتحقيق إنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة."

النقطة الجوهرية في تحقيق مجتمع الحياة الرغيدة هي التخلص من الفقر، بمعناه المادي والمعنوي. وقد استطاعت الصين منذ تبنيها سياسة الإصلاح والانفتاح في سنة 1978، انتشال سبعمائة مليون فرد من هاوية الفقر بمعناه المادي، وتعتزم الحكومة الصينية القضاء على الفقر تماما بحلول عام 2020. خلال الفترة من عام 2012 إلى عام 2016 فقط، انتشلت الصين 64ر55 مليون فرد من الفقر. بيد أن المهمة الأصعب والأهم هي القضاء على الفقر بمعناه المعنوي. يقول الرئيس شي جين بينغ في كتابه ((التخلص من الفقر)): "إن التخلص من الفقر، معناه الأولي هو التخلص من فقر الوعي وفقر الفكر." هذا "الفقر" يورث "الفقر" وفقا للرؤية التي قدمها كارل ماركس في كتابه ((بؤس الفلسفة))، فالفقر يعني العوز وعدم الكفاية، سواء ماديا أو معنويا.

حتى نهاية عام 2016، كان لا يزال في الصين نحو ثلاثة وأربعين مليون فرد يعيشون تحت مستوى خط الفقر، وفقا للمعيار الصيني وهو أن يكون الدخل السنوي للفرد ألفين وثلاثمائة يوان أي نحو ثلاثمائة وأربعين دولارا أمريكيا، بمتوسط يومي أقل من دولار أمريكي. وحسب معيار البنك الدولي الذي حدد في أكتوبر 2015 أن خط الفقر يقف عند دخل يومي قدره 9ر1 دولار أمريكي، فإن الصين مازال بها نحو مائة مليون فقير، أي ما يعادل تقريبا إجمالي عدد سكان دولة تعتبر كبيرة سكانيا مثل مصر، التي تحتل المرتبة السابعة عشرة في ترتيب أكثر الدول سكانا في العالم.

وقد حددت الصين منذ عام 2014 السابع عشر من أكتوبر سنويا يوما وطنيا لمكافحة الفقر. في التاسع من أكتوبر 2017، دعا الرئيس شي جين بينغ إلى تعزيز الجهود الرامية إلى كسب المعركة ضد الفقر، وقال: "ينبغي بذل جهود شاملة من أجل العمل في مجال تخفيف حدة الفقر لأنها المعركة الأصعب." وأضاف أنه تم تحقيق تقدم بارز منذ أن وعدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بانتشال جميع الأشخاص في الريف من الفقر بحلول عام 2020. وأشاد شي بالشخصيات البارزة التي شاركت في معركة الصين ضد الفقر، قائلا إن روحهم القتالية تحتاج إلى أن تنتشر في البلاد للتشجيع على بذل المزيد من الجهود في الحد من الفقر. وأكد رئيس مجلس الدولة الصيني لي كه تشيانغ أن معركة الصين ضد الفقر دخلت مرحلتها الأخيرة، ويتعين على السلطات على جميع المستويات بذل جهود كبيرة لتخطي عنق الزجاجة في الطريق نحو تحقيق التنمية وتعزيز كفاءة وفعالية أعمال تخفيف الفقر.

لقد وضعت القيادة الصينية بناء مجتمع الحياة الرغيدة ضمن إطار أوسع يحقق الحياة الرغيدة بمعناها الشامل والممتد والمستلهم من الماضي. في المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني تم رسم خارطة طريق لتحقيق أهداف "المئويتين". المقصود بالمئويتين هو الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني في عام 2021، والذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية والتي تحل في عام 2049. من أجل تحقيق أهداف "المئويتين" وتحقيق حلم الصين للنهضة العظيمة للأمة الصينية، وانطلاقا من واقع التنمية في الصين، طرحت الصين استراتيجية "الشوامل الأربعة"، التي يقصد بها: إنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل، وتعميق الإصلاح على نحو شامل، وحوكمة الدولة وفقا للقانون على نحو شامل، وحوكمة الحزب بصرامة على نحو شامل. ويعتبر إنجاز بناء مجتمع الحياة الرغيدة الخطوة الأولى والرئيسية في "الشوامل الأربعة". المستهدف، عندما يتحقق مجتمع الحياة الرغيدة، هو أن يصل إجمالي حجم الاقتصاد الصيني إلى نحو سبعة عشر تريليون دولار أمريكي، وأن يرتفع مستوى معيشة المواطن الصيني بشكل ملحوظ. ويتطلب تحقيق ذلك، وفقا للرئيس شي جين بينغ، تعميق الإصلاح على نحو شامل، دفع تحديث منظومة حوكمة الدولة وقدرة الحكومة، وتقدم الإصلاح إلى الأمام بخطوات ثابتة، وتعميق الإصلاح والانفتاح على الخارج، وتهيئة بيئة أكثر انفتاحا وسهولة وشفافية لدخول الاستثمار الأجنبي، وتوفير حيز أوسع لتعاون الصين الدولي، وهذه النقطة الأخيرة جديرة بالتوقف عندها.

الصين، وهي تسعى لبناء مجتمع الحياة الرغيدة لشعبها تنظر إلى تنمية العالم أيضا. في كلمته أمام منتدى دافوس الاقتصادي في يناير 2017، قال الرئيس شي جين بينغ إن بلاده قدمت في الفترة ما بين عام 1950 وعام 2016، مساعدات خارجية تجاوز حجمها أربعمائة مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 6ر6 يوانات)، ونفذت أكثر من خمسة آلاف مشروع مساعدات خارجية وأكثر من أحد عشر ألف دورة تدريبية لأفراد من الدول النامية. منذ الإصلاح والانفتاح، جذبت الصين استثمارات أجنبية جاوزت 7ر1 تريليون دولار أمريكي، وتجاوز حجم استثماراتها الخارجية 2ر1 تريليون دولار أمريكي. ومنذ الأزمة المالية العالمية، تجاوز معدل إسهام نمو الاقتصاد الصيني في نمو الاقتصاد العالمي 30٪ سنويا. وخلال السنوات الخمس المقبلة، ستستورد الصين سلعا قيمتها ثمانية تريليونات دولار أمريكي وستجذب استثمارات أجنبية قيمتها ستمائة مليار دولار أمريكي، وسيصل حجم الاستثمار الخارجي الصيني إلى سبعمائة وخمسين مليار دولار أمريكي، وسيبلغ إجمالي عدد السياح الصينيين إلى البلدان الأخرى سبعمائة مليون سائح.

وقد طرحت الصين مبادرة "الحزام والطريق" (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين) من أجل تحقيق الفوز المشترك والاستفادة المشتركة. ودعمت الصين إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وغيره من المؤسسات المالية المتعددة الأطراف، وغير ذلك من المبادرات الإقليمية والعالمية.

يقول المثل الصيني: "إذا رمى كل واحد عودا في النار ازداد لهيبها وأوارها." الصين تؤمن بالعمل المشترك، وترغب في التعاون الذي يحقق الخير للجميع، ليكون مجتمع الحياة الرغيدة للصينيين ولكل شعوب العالم.