مسيرة حياة ومآثر ليو تشي


عرفت الصين، منذ أن دخلها الإسلام، كوكبة من الشخصيات الإسلامية البارزة في شتى المجالات، ساهمت في خدمة وطنها وتعزيز التبادلات بين الحضارة الصينية والحضارة العربية الإسلامية. من هذه الشخصيات حجة الإسلام الإمام الشيخ ليو تشي، صاحب كتاب ((تيانفانغ تشيشنغ شيلو)) أي (السيرة النبوية).

نشأته وتعلمه

ليو تشي وكنيته "جيه تشيان"، ولد في مدينة نانجينغ بجنوبي الصين سنة تسع وستين وستمائة وألف للميلاد، وتوفي عن ست وتسعين سنة في عام أربعة وستين وسبعمائة وألف للميلاد. نشأ في بيت فقهاء وعلماء، إذ كانت أسرته من أشهر الأسر المسلمة في مدينة نانجينغ. ولا شك أن ليو تشي ورث كثيرا من مواهب أبيه الذي كان إماما.

درس ليو تشي الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام أبي حنيفة والكتب الإسلامية المختلفة واللغة العربية والفارسية، وألمّ بالكتب الكلاسيكية الكونفوشية والبوذية والطاوية، يقال إنه اطلع على مؤلفات مئات المذاهب الفلسفية الصينية القديمة ومئات الكتب العربية والفارسية والغربية، وأمضى أكثر من أربعين سنة في تأليف الكتب، التي تناول فيها الاندماج بين الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية، وشرح الإسلام للصينيين بأسلوب مناسب لعقولهم. لقد اتسع نطاق فكره وامتدت أشعة بصيرته إلي أبعد مدى، فانتصر المنطق الصحيح والرأي الراجح على الفروض الوهمية، مما أكسبه محبة واحترام الصينيين المسلمين.

علومه وفلسفته

كان ليو تشي محبا للحضارة الصينية إلى حد الهوس، فقال إنها حضارة عظيمة لا تتعارض مع الحضارة الإسلامية، بل إن التكامل والاستفادة بين الحضارتين ممكن. رأى أن الحضارة الصينية يمكن أن تكون أداة لشرح الإسلام للصينيين.

آمن ليو تشي بأن سعادة الإنسان لا تتم إلا بالحياة الاجتماعية. سعى إلى دراسة الحضارتين الصينية والعربية، حيث نقل الحضارة الإسلامية إلى اللغة الصينية، وشرحها بالحضارة الصينية حتى يفهمها الصينيون فهما صحيحا، مؤكدا أن الحضارة الإسلامية حضارة عظيمة لا تتعارض مع الحضارة الصينية أيضا، بل يمكن أن تساهم في إثراء الحضارة الصينية.

في الواقع، كان المجتمع الصيني القديم لا يفهم الإسلام فهما صحيحا، وينظر إليه نظرة خاطئة، بل يعارضه أحيانا. رأي ليو تشي أن المجتمع الصيني يحتاج إلى التوضيح والشرح، فعقد العزم على شرح الإسلام بعبارات صينية مفهومة وبأسلوب مألوف في عصره. ويعد ليو تشي أفضل عالم صيني في فترة أسرة تشينغ (1644-1912)، نقل الثقافة الإسلامية إلى اللغة الصينية وفسرها بالحضارة الصينية، فكان جديرا بلقب "حجة الإسلام" و"الإمام الأكبر".

لم تزد ثقافة ليو تشي عن العلوم الشائعة في عصره، وكانت معرفته تستند إلى الحضارتين الصينية والإسلامية. لم يكن الحكيم ليو تشي مبتكرا ولا مبتدعا، أي أنه لم يؤسس علما جديدا، غير أنه امتاز عن معاصريه بالقدرة على الدمج بين الحضارتين، وهي ظاهرة نادرة في زمنه وغير زمنه، وفيها تقدم فكري لا يصدر إلا عن عقل من أقوى العقول.

كان ليو تشي عالما عظيما، فله مجموعة رسائل بحثية في مكتبة صينية عُني أحد تلاميذه بجمعها وترتيبها. ولكن الذي ميز ليو تشي حقا هو شرحه الدقيق للإسلام بالحضارة الصينية، ذلك الشرح الذي جعله في مصاف كبار الفلاسفة المتقدمين.

مؤلفاته

لا يوجد ما يشير إلى أن ليو تشي ألف أي كتاب من أعماله في حياته المبكرة، وليس في ذلك غرابة لأن الاستعداد في الثقافة الصينية والإسلامية يقتضي أعواما طويلة. كان ليو تشي عالما، والعالم يحتاج قبل التدوين إلى التمحيص والتحقيق. والجدير بالذكر أنه منذ بدأ التصنيف لم يقف به فكره الثاقب وإرادته القوية عن الاستمرار في طريق التفكير والإبداع، فقضى ما بقي من عمره الحافل بجليل الأعمال في الدرس والبحث والتدوين. والملاحظ أنه لم يتوقف عن التأليف في النصف الثاني من عمره. أشهر كتبه المطبوعة هي:

((السيرة النبوية))، وهو عمل يختلف عن الكتب العربية المشابهة، إذ يتميز بأسلوب الكتابة للمؤرخين الصينيين، حيث ترجم المعلومات من الكتب الإسلامية إلى الصينية وأضاف إليها روايات ذات علاقة بها من سجلات التاريخ الصيني وكتبه بأسلوب كتابة المؤرخين الصينيين حتى يفهمه الصينيون.

((نظرية الأرواح في الإسلام))، يشمل خمسة فصول، الفصل الأول والثاني يتحدثان عن الكون؛ الفصل الثالث والرابع يتحدثان عن الإنسان؛ والفصل الخامس يتحدث عن العلاقة بين الكون والإنسان.

((فقه الإسلام))، إذ راجع ليو تشي قرابة مائة من الكتب الإسلامية والكتب الكلاسيكية الصينية، حول العبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها من الموضوعات الهامة. تناول الموضوعات الإسلامية وشرحها شرحا دقيقا يناسب المجتمع الصيني وبطريقة يفهمها الصينيون فهما لا يخالف الثقافة الصينية.

أسلوبه في مؤلفاته

الفيلسوف لا يملك أن يصوغ تعاليمه بأسلوب رقيق جميل إلا إذا توافرت لديه شروط كثيرة وقد توفرت للحكيم ليو تشي تلك الشروط، ومنها سلاسة وثراء وعذوبة اللغة، مما مكنه من التعبير عن أدق المعاني والأفكار وأبعد العواطف غورا.

يمتاز أسلوبه، موجزا أو مسهبا، بوضوح شخصيته. لقد شرح ليو تشي المؤلفات الإسلامية بطرق ثلاث: الترجمة والشرح والتعبير الحر. في الترجمة، اقتبس من القرآن والحديث الشريف وأقوال العلماء الثقات ثم شرع في الشرح بإسهاب وعمق واستطراد. وفي الشرح، اتخذ أفكارا من الحضارة الصينية القديمة المناسبة للإسلام لشرح تعاليم إسلامية حتى تناسب عقول الصينيين. أما في التعبير الحر، فعبر ليو تشي عن تعاليم إسلامية جامعا بين الحضارتين الصينية والإسلامية بأسلوب المثقفين الصينيين حينذاك.

تشبه تعاليم ليو تشي عموما تعاليم معاصريه وأسلافه من فلاسفة العرب، وهذه التعاليم نفسها لا تخرج عن الفلسفة الإسلامية. وقد امتاز فلاسفة العرب بأن الكائنات جميعها مردها إلى الله، أي أنه تعالى هو مصدر خلق الكائنات. شرح ليو تشي الكائنات بأسلوب الفلسفة الصينية التي لا تتعارض مع تعاليم الإسلام. انتهج ليو تشي لنفسه النهج الذي سار عليه فلاسفة صينيون وعرب من قبل. ولهذا صار مذهب ليو تشي عَلَما على مذاهب فلاسفة العرب الذين اقتدوا بأرسطو وتبعوا تعاليم مدرسته. فمذهب ليو تشي يجمع مذاهب الفلاسفة المسلمين والفلاسفة الصينيين ويوفق بين آرائهم ويلم بمؤلفات الأقدمين من العرب والصينيين. وقد نتج عن ذلك أن اختلطت أفكار العرب بأفكار الصينيين.

والحق أن فضل ليو تشي لا يزيد على فضل السابقين إلا في أنه أسهب في شرح أقوالهم، على أنه لم يكن ناقلا وشارحا ومقلدا فحسب، بل كان أيضا واضعا مبتدعا ومجددا، ومثله في ذلك الابتداع والتحديث من خلال الشرح والتفسير. تمكن ليو تشي من استنباط فلسفة عربية إسلامية صينية. وهكذا يتضح أن الفلسفة الإسلامية الصينية جزء من الحركة الفكرية في الصين.

مكانته وانتشار الفلسفة من بعده

لا شك أن سبب شهرة ليو تشي عند المسلمين يرجع إلى انتشار مؤلفاته في الأمصار والأقطار، فكتابه ((نظرية الأرواح في الإسلام)) نُقل إلى العربية منذ قديم الزمان. وحسب سجلات التاريخ الصينية، أن الإمام الشهير ما ده شين (1794-1874) عندما أدى فريضة الحج في القرن الثامن عشر، كان يحمل معه كتاب ((نظرية الأرواح في الإسلام)) باللغة الصينية. وعندما عرف علماء مكة والمدينة بمحتوى هذا الكتاب أعجبوا بموضوعاته وطلبوا من الإمام الصيني أن يترجمه إلى العربية فوافق على ذلك. بعد انتهائه من الترجمة والتنقيح، نشر العلماء العرب الطبعة العربية في مكة المكرمة مما أثرى المكتبة العربية. هذا شاهد على التبادلات بين الحضارتين الصينية والعربية منذ قرون وعلى العلاقة الوطيدة المبكرة بين الشعبين الصيني والعربي، ودليل على أن العرب يرغبون في تعميق معرفتهم بالحضارة الصينية والشعب الصيني عموما، وبرهان على محبة الصينيين، والمسلمين منهم خاصة، للحضارة الإسلامية وإيمانهم بأن الحضارة لا تتقدم إلا بالتبادل مع الحضارات الأخرى. يمكن القول إن ليو تشي ناقل للحضارتين حيث درس الحضارة الصينية والحضارة العربية مما أثرى الحضارتين، ولهذا يستحق الحكيم ليو تشي، الثناء منا.

وعلى أساس الرصيد التاريخي، طرحت الحكومة الصينية مبادرة بناء"الحزام والطريق" (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين)، لمواصلة العلاقة الودية التاريخية مع الدول الواقعة على طول "الحزام والطريق". أقول بثبات إن طريق الحرير البري وطريق الحرير البحري لم يكونا طريقين للتجارة فحسب وإنما أيضا طريقين للحضارة، شهدا تبادلات الحضارتين الصينية والعربية، ونقل العرب عبرهما الحضارة الصينية إلى الغرب.