مفاتيح خبرة التنمية الصينية

 

    خلال زيارة رئيس تنزانيا الراحل جوليوس نيريري إلى الصين في أغسطس 1985، قال له الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ، مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية: "الإصلاح الذي يجري في الصين ليس للصين وحدها، وإنما هو تجربة للعالم بأسره. إذا نجح هذا الإصلاح، فمن الممكن تقديم بعض الخبرات للقضايا الاشتراكية العالمية وتنمية الدول الأقل نموا." هذا الكلام صحيح. خلال أكثر من الثلاثين سنة الماضية منذ تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح، حققت الصين إنجازات مرموقة، إذ تخلص أكثر من سبعمائة مليون صيني من الفقر وأصبح الاقتصاد الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. كيف حققت الصين هذه الإنجازات المدهشة؟ وكيف استطاع الحزب الشيوعي الصيني، باعتباره الحزب الحاكم، الارتقاء بقدرته في الحوكمة ومواصلة كسب الدعم الواسع من جماهير الشعب الصيني خلال الإصلاح والتنمية؟

    التنمية الاقتصادية والإدارة السياسية

    منذ تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح قبل أكثرمن ثلاثين سنة حققت الصين إنجازات في مجالات مختلفة، ومنها الزراعة والصناعة والتجارة الخارجية والحد من الفقر والتعليم وتنمية الموارد البشرية وبناء قدرات الإدارة السياسية.

    الإنجازات العظيمة التي حققتها الصين في التنمية الاقتصادية حظيت بتقدير واسع من دول العالم، ومن بينها الدول الغربية. من نافلة القول إن التخلص من الفقر وتحقيق التنمية الإقتصادية هما المهتمان الرئيسيتان للعدد الجم من البلدان النامية. لذا، ترغب تلك البلدان في الاستفادة من خبرات الصين في القضاء على الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية.

    لابد من الإشارة إلى أن الصين وإن كانت قد حققت إنجازات عظيمة في القضاء على الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية، لم يتوصل العالم إلى معرفة الحوكمة السياسية في الصين إلا بعد مسار طويل متعرج. البعض يظن أن الإصلاح في الصين هو مجرد إصلاح اقتصادي، أما الإصلاح السياسي فمازال فيها راكدا، بينما يرى آخرون أن الإصلاح الاقتصادي في الصين يجري بسرعة كبيرة لا يتكيف معها النظام السياسي وسوف تنهار. في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن العشرين، ومع تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، طرح الأكاديمي الأمريكي فرانسيس فوكوياما نظرية "نهاية التاريخ"، التي أثارت في الغرب جدلا حول "انهيار الصين" وتوقعات بشأن مستقبل الصين. حقائق التاريخ أثبتت أن الصين لم تشهد انهيارا، بل على العكس صارت في وضع أفضل وأكثر ثباتا على طريق تنميتها وتماسكها واستقرارها. إن سوء فهم الصين وأفكار "الحرب الباردة" المتجمدة، تجعل الرؤية التي تقودها الدول الغربية بشأن الحوكمة السياسية في الصين غير صائبة بل وغير نزيهة.

    سوء الفهم الغربي للصين بدأ يشهد تغيرا مع التطورات الجديدة للعولمة في بداية القرن الحادي والعشرين والتحولات الجديدة على الساحة الدولية، وخاصة في السنوات العشر الفائتة. على عكس ما تم ترويجه غربيا، لم يكن للأزمة المالية العالمية التي بدأت في سنة 2008 والثورات العربية التي اندلعت في نهاية سنة 2010، تأثير يذكر على الصين تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني، بل أظهرت تفوقا في مواجهة الضغوط والصدمات. لم تشهد الصين أي أزمة سياسية أو اجتماعية مثلما حدث في بعض الدول العربية. لهذه الأسباب، بدأت الدول الغربية تهتم بخبرة الصين في الحوكمة السياسية. في سبتمبر عام 2014، صدر كتاب ((شي جين بينغ حول الحكم والإدارة)) باللغات الصينية والعربية والانجليزية والفرنسية والروسية والأسبانية والبرتغالية والألمانية واليابانية. خلال ثلاثين شهرا، بلغ حجم توزيع هذا الكتاب في أكثر من مائة دولة ومنطقة أكثر من ستة ملايين نسخة. المنجزات العظيمة التي حققتها "الطريقة الصينية" أدهشت عددا متزايدا من الحكومات والأحزاب الأجنبية، فطفقت تتعلم من حكمة الصين في الإدارة السياسية. تريد كثير من الدول النامية أن تستفيد من خبرات الصين في التنمية كي تحدد لنفسها مكانا في ظل الأوضاع المتعددة العناصر والتطور السريع للعالم غير الغربي. لذلك، يمكننا أن نقول إن جاذبية خبرات الصين تجاوزت مجال التنمية الاقصادية وولجت إلى مجال الإدارة السياسية.

    منذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، حققت الصين إنجازات مرموقة في بناء الحزب والإدارة السياسية ومكافحة الفساد. تجاوز تأثير "نمط الصين" على الدول النامية مجال الاقتصاد ووصل إلى مجال السياسة مثل البناء السياسي والحزبي وحوكمة الدولة. لقد أضحى تنظيم حلقات التدريب حول الشؤون السياسية والحزبية والحوار بين الأحزاب السياسية المختلفة وآلية التبادلات مكونا هاما للتبادلات بين الصين والدول النامية.

    الإصلاح التدريجي

    أحد أهم ملامح خبرات الصين هو تنفيذ الإصلاح بصورة تدريجية، أي تحديد العلاقة بين الإصلاح والتنمية والاستقرار على أساس "مفاهيم التنمية" المتوافقة مع متطلبات العصر. في دولة نامية، متحولة نمطيا، مثل الصين، لا مفر من أن تؤثر التغيرات الكبيرة التي يجلبها الإصلاح على بنيتها الاجتماعية القديمة وحالة استقرارها الاجتماعي. هنا ينبغي التأكيد على أن الإصلاح أساسه الاستقرار وهدفه هو التنمية. نهج الانفتاح والإصلاح الصيني  يتمسك بمبدأ وضع "الاستقرار أولا"، أو كما قال الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ: "الاستقرار يفوق كل شيء". هذا يساعد على تقليل الاضطرابات والحفاظ على تماسك المجتمع. على هذا الأساس، تسعى الحكومة الصينية إلى تحقيق التنمية وتعزيز الاستقرار من خلال الإصلاح والتنمية، مما يحقق التوازن والتناسق بين الاستقرار والتنمية والإصلاح. من أجل تجنب المخاطر أو المحاولات الفاشلة الكامنة في عملية الإصلاح والتنمية الاقتصادية بسبب الإصلاح الراديكالي، تنتهج الحكومة الصينية سياسة "الهبوط السلس" المتمثلة في بدء الإصلاح في المجالات السهلة، ثم في المجالات الصعبة، والقيام بالإصلاح بانتظام. تقوم الصين بالإصلاح في مكان معين، فإذا نجح تعممه إلى أماكن أخرى. الإصلاحات؛ من تنفيذ نظام المسؤولية التعاقدية في المناطق الريفية الى تطوير المؤسسات الاقتصادية في البلدات والمحافظات والشركات المملوكة للدولة، والإصلاح المالي، وإصلاحات أنظمة التوظيف والضمان الاجتماعي وتوزيع الدخل وسجل الإقامة للمواطنين، التي نتجت عن التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، كلها تهدف إلى تخفيف التأثيرات السلبية على المجموعات الضعيفة وتجنب المخاطر الناجمة عن الإصلاح. في مجال الإصلاح السياسي، تقوم الحكومة بتوسيع المشاركة السياسية لجماهير الشعب بصورة تدريجية، ودفع الانتخابات الديمقراطية في الوحدات القاعدية وتطوير الأسلوب الديمقراطي داخل الحزب على أساس الاستقرار الاجتماعي، من أجل تحقيق هدفها الأخير- المساواة في الحقوق السياسية. بفضل الإصلاح المتدرج المنتظم، تجري الجولة الجديدة من الإصلاح بصورة عميقة على أساس الإنجازات التي حققتها الجولة السابقة من الإصلاح، مما يضمن للصين تحقيق التحول الاجتماعي والاقتصادي في فترة قصيرة وفي ظل وضع مستقر ومتناغم.

    بدأ تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح قبل أكثر من ثلاثين سنة، بتحديد العلاقة بين "الإصلاح والتنمية والاستقرار" وفقا لتطورات الأوضاع ومتطلبات العصر. تقوم الحكومة والقيادة الصينية بتحديد الوضع العام وفقا لمفاهيم التنمية المتوافقة مع متطلبات العصر. يقوم الحزب الشيوعي الصيني بمعالجة المشكلات من خلال التنمية، إيمانا منه بأن التنمية هي أساس ومفتاح معالجة المشكلات، ومؤكدا على دفع أعمال الإصلاح من خلال التنمية. شهدت مفاهيم التنمية تطورا وابتكارا في الثلاثين سنة الماضية لمواجهة التحديات والمهام المختلفة. في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، كان التحدي الأكبر الذي واجه الصين بعد انتهاء "الثورة الثقافية" هو تغيير الوضع في الصين وتحقيق التحديثات الأربعة في: الصناعة، والزراعة، والدفاع الوطني، والعلوم والتكنولوجيا. قال دنغ شياو بينغ: "التنمية هي الكلمة الأخيرة"، و"ليس مهماً أن يكون القط أسود أو أبيض طالما أنه يصطاد الفئران". بتشجيع من هذه الكلمات، شهدت الصين تطورا سريعا، إذ حققت معدل نمو اقتصادي برقم مزدوج.  لكن، في نفس الوقت، ظهرت مشكلات مختلفة بسبب النمط الانتشاري للتنمية وتلوث البيئة وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لمعالجة المشكلات التي ظهرت خلال التنمية، طرحت الدورة الثالثة الكاملة للمؤتمر الوطني السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر عام 2003 "النظرة العلمية إلى التنمية" التي تتخذ الإنسان أساسا لها وتؤكد على التخطيط الشامل وتسعى إلى تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة ومستدامة من أجل دفع التنمية الشاملة للمجتمع الاقتصادي والبشرية. ذلك يعني أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ليس المؤشر المباشر لتنمية وتقدم المجتمع، وأن على الحزب أن يصوب الأخطاء في بعض المجالات، مثل الاهتمام المفرط بالمؤشرات الاقتصادية وإهمال التقدم الاجتماعي، والاهتمام المفرط بالإنجازات المادية وإهمال القيم الإنسانية، والاهتمام المفرط بالمصالح القصيرة المدى وإهمال المصالح البعيدة المدى. في السنوات الأخيرة، ومع تعقد البيئة الاقتصادية للتجارة الدولية، طرحت المجموعة القيادية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ونواتها الأمين العام شي جين بينغ، "المفاهيم الجديدة للتنمية"، وهي تحديدا: "الابتكار والتنسيق والخضرة والانفتاح والتمتع المشترك". أشار شي جين بينغ إلى أن الاقتصاد الصيني برغم حجمه الكبير ما زال ضعيفا، وأن نمو الاقتصاد الصيني برغم أنه سريع فإن نوعيته ليست جيدة. النمط  الانتشاري للتنمية الصينية الذي يعتمد على عناصر الموارد ليس نمطا مستداما، وينبغي التحول من نمط التنمية المدفوع بالموارد وحجم الاستثمارات إلى نمط التنمية المدفوع بالابتكار. بفضل التمسك بمفاهيم التنمية وتعديل نظرية التنمية حسب متطلبات العصر، أصبحت الصين مثالا نموذجيا للدول النامية. 

    حكومة قوية وسياست صائبة

    المفتاح الآخر لخبرات الصين هو الحكومة القوية الساعية إلى التنمية، والقادة أصحاب الرؤية العميقة الثاقبة والسياسات الصائبة. يجب على الدولة النامية التي تحتاج إلى تحويل نمط تنميتها أن توحد شعبها وأن تركز القوة الوطنية لدفع الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بصورة منتظمة، ولذلك تحتاج ‘لى حكومة قوية في فترة معينة وفي مجالات معينة، تتمتع بالسلطة السياسية القوية وقدرة الإدارة الفعالة. لقد أثبتت التنمية البشرية في التاريخ أن تحقيق التنمية الاقتصادية ممكن في ظروف أخرى وليس فقط في ظروف الديمقراطية الغربية. في ستينات وسبعينات القرن العشرين، شهدت بعض الدول والمناطق النامية (مثل النمور الآسيوية الأربع) تطورا اقتصاديا سريعا. وقد استخدم العديد من العلماء الغربيين أيضا مفهوم "الدولة التنموية"، مشيرين بذلك إلى نموذج التنمية الاقتصادية التي تقودها الحكومة، لشرح التنمية الاقتصادية السريعة للاقتصادات الناشئة في شرقي آسيا، ومنها الصين. فضلا عن ذلك، تتميز حكومات تلك الدول بالرغبة القوية في دفع التنمية الإقتصادية وبالقدرة على توزيع الموارد وتعبئة الجمهور للمشاركة في دفع تطور الدولة.

    في مجال السياسة، يفهم المجتمع الغربي خطأ نظام التعاون المتعدد الأحزاب والتشاور السياسي على أنه نظام يحكمه الحزب الشيوعي الصيني وحده. يتفق كل المحللين الموضوعيين على أن حكم الحزب الواحد لفترة طويلة يمكن أن يضمن بشكل أفضل استمرارية السياسات. منذ عام 1949، وضع الحزب الشيوعي الصيني اثنتي عشرة خطة خمسية، والآن يجري تنفيذ الخطة الخمسية الثالثة عشرة. حسب متطلبات كل خطة خمسية، حققت الصين تقدما تدريجيا في مجالات بناء البنى التحتية والمناطق الاقتصادية الخاصة والتعاون الدولي لطاقة الإنتاج وبناء الحزام والطريق. يقوم الحزب الشيوعي الصيني بتحسين نظام اختيار الأكفاء من خلال نظام تعيين الموظف لفترة معينة والقيادة الجماعية واختيار الأكفاء الممتازين والقيام بالاختبار لشغل الوظيفة، بحيث يمكن بناء قاعدة شعبية قوية للحكم والإدارة من خلال "الإدارة الجيدة"، لا من خلال "ديمقراطية الانتخاب" بصوة عمياء.

    برغم اعتراف العالم  بالإنجازات التي حققتها الصين في التنمية الاقتصادية، لا يعرف إلا عدد قليل من الناس في العالم أن إصلاحات الصين الاقتصادية ترافقها إصلاحات سياسية واجتماعية، وأن الإصلاحات السياسية والاجتماعية تساعد على تحقيق الإنجازات في التنمية الاقتصادية. خلال أكثر من الثلاثين سنة الماضية، وبفضل الإصلاح التدريجي لمراقبة وتوازن نظام القيادة ونظام التوظيف ونظام الاختيار (الاختيار داخل الحزب والاختيار في الوحدات القاعدية ونظام التشريع والقضاء ونظام صناعة القرار بين القوى المختلفة)، يتعمق الإصلاح الاقتصادي ويتحقق التسامح والانسجام بين مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة ومختلف القوميات في عملية التحول الاجتماعي والاقتصادي. مع أن الصين مازالت تواجه تحديات كثيرة، من توسع الفجوة بين الأثرياء والفقراء وعدم التوازن بين المناطق المختلفة، يتمتع الشعب الصيني بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة. هذا هو السبب في أن "إجماع بكين" ذا المنحى الإنمائي يمكن أن ينافس "إجماع واشنطن" ذا التوجه الليبيرالي، وأيضا السبب في موافقة المزيد من الدول النامية على سياسات الصين.

    --

    خه ون بينغ، باحثة كبيرة في جمعية تشاهار، وباحثة بمعهد دراسات غربي آسيا وأفريقيا بالأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.