جميل مطر والصين وقيادة العالم

منذ أن قرأت اسمه على غلاف كتاب "النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية"، وأنا أتابع كتاباته بشغف شديد. وقد ظل اسم جميل مطر مرتبطا في ذهني بهذا الكتاب، وبمؤلفه الآخر الدكتور علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة. عرفت الدكتور هلال منذ فترة دراستي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وتواصلت معه بعد ذلك في ندوات ولقاءات فكرية. بيد أن فرصة لقاء المفكر الكبير جميل مطر لم تأت بعد. ومع ذلك، لا يكاد يفوتني شيء مما يكتب هذا العالم صاحب الكلمات الرشيقة والأفكار الصافية والرؤية الإنسانية إلى أبعد الحدود. تشعر وأنت تقرأ له أنك أمام فيلسوف وأديب وعالم سياسة وفارس وزاهد. تركيبة فريدة نادرة لمفكر إنساني في المقام الأول، وكما يقال فإن له من اسمه نصيبا، فهو جميل تتساقط كلماته مثل حبات المطر.

الصين كانت محور عدد ليس قليلا من مقالات جميل مطر، التي تنشرها جريدة ((الشروق)) المصرية.  في التاسع عشر من يوليو 2017، ناقش في مقالة بعنوان "العولمة على الطريقة الصينية" مسألة خلافة الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم. قال إن ألمانيا كانت الدولة المرشحة بامتياز لشغل هذا المنصب، الذي خلا عمليا بإصرار الرئيس ترامب على رفع شعار "أمريكا أولا". وأضاف: "الآن ومع انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس حول المناخ وتعطيل المفاوضات حول اتفاقية المنطقة الحرة لدول عبر الباسيفيكي والتهديد بوقف العمل بالاتفاقية حول الأمريكتين تراجعت الثقة الدولية في قدرة أمريكا على الاستمرار في توجيه وقيادة العالم. هي أيضا غير قادرة على تحمل أعباء إنعاش إقليمين، أحدهما دمرته الميلشيات والجيوش المعادية لثورات الربيع العربي وهو الشرق الأوسط بالإضافة إلى أفغانستان والعراق، والآخر هو أفريقيا التي لم تجد بعد فرصتها للانطلاق." وقال: "اتفقت التحليلات، في معظمها على الأقل، على أن ألمانيا، أو أي دولة أخرى منفردة لا تستطيع أن تتحمل أعباء الإنعاش فى الإقليمين إلى جانب الاستمرار في دعم الاقتصادات الأوروبية. لذلك كان مثيرا التحليل الذي توصل إلى أن الحل يكمن في شراكة تكون ألمانيا طرفا فيها ويمكن للصين أن تكون طرفا ثانيا." ولكنه يستدرك قائلا: "هذه الشراكة لن تحظى بالصدقية اللازمة إلا إذا قامت في سياق جديد، هو الرضاء الدولي العام على بزوغ قيادة جديدة للنظام الدولي؛ قيادة تشاركية بين ألمانيا، تدعمها فرنسا، من جهة والصين من جهة أخرى. هكذا يقوم لأول مرة في التاريخ نظام دولي تكون قاعدته هذه المساحة الشاسعة المسماة بأوراسيا وهذه الجماعة السكانية الهائلة وهذا المزيج الفريد من ثقافات وعقائد."

ويتناول جميل مطر مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، فيقول إنها "الشكل الجديد لمبادرة صينية انطلقت في القرن الثالث عشر وربما قبل ذلك التاريخ. الهدف منها تيسير طرق آمنة تحمل بضائع من الصين إلى أقاليم بعيدة وبالعكس. مسارات عديدة سلك بعضها الطريق من وسط وجنوبي الصين إلى بحار الجنوب ومنها إلى شرقي أفريقيا عبر المحيط الهندي، وهناك في شرقي أفريقيا انطلقت مسارات أخرى في اتجاه أوروبا. تطور هذا الخط ليحمل حاليا في المبادرة التي أطلقها الرئيس شي اسم الحزام. أما القسم الثاني من المبادرة ويحمل اسم الطريق فهو الشكل الجديد لطريق الحرير الذي قرأنا عنه نحن وأجدادنا، وتاريخه يعود إلى أيام الرحالة الإيطالي ماركو بولو. هذا الطريق ينطلق من وسط الصين في اتجاه الغرب مارا بدول وسط آسيا ومنتهيا في أوروبا. هو الطريق البرى على عكس الحزام. لاحظنا طبعا أن كلا الحزام والطريق يتلاقيان عند نقطة النهاية، وهي أوروبا."

الأستاذ جميل مطر، شأن الغالبية الساحقة من المفكرين العرب، وبرغم ما قد يبدو في سياقات كتاباته من محاولة الانعتاق من الرؤى الغربية، يظل متأثرا بها في تقديري، تجسيدا لما اسميه بالفجوة الفكرية في العلاقات الصينية- العربية. ملامح هذه  الفجوة المعرفية جلية، وأبسط مظاهرها أن كثيرا إن لم يكن كل من يكتبون عن الصين في الدول العربية يستندون إلى مراجع غربية بشكل عام، فهم يكتبون أسماء قادة الصين ومقاطعاتها ومؤسساتها خطأ، أو أنهم لا يعرفونها أصلا، بل لا ينظرون في خريطة الصين. الأستاذ جميل مطر يخلط ما بين "الحزام" و"الطريق"، وبعبارة أدق يضع كل منهما مكان الآخر. فالحقيقة هي أن "الحزام" هو "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري" الذي يمتد من الصين إلى آسيا الوسطى وغربي آسيا وصولا إلى أوروبا، أما "الطريق" فهو "طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين" الذي يمتد من جنوبي الصين باتجاه المحيط الهندي وصولا إلى سواحل شرقي أفريقيا والبحر الأحمر حتى قناة السويس. طريق الحرير البحري له اسم آخر هو "طريق البخور". 

وفي سياق الحديث عن مدى انخراط الصين في شؤون الشرق الأوسط، والمنطقة العربية تحديدا، ينقل السيد مطر عن الأستاذ وي مين، من جامعة شانغهاي، قوله إنه يعزو تأخر العمل الاستثماري الصيني في مصر وصعوبة استفادة مصر من مبادرة "الحزام والطريق"، إلى إجراءات التأشيرات والفساد وقوانين الحماية وانعدام الشفافية في إجراءات التقاضي وعدم تنفيذ العقود. بيد أن الواقع يقول غير ذلك، فحسب آخر تقرير للمؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات، الصادر في 11 يوليو 2017،  الصين هي أكثر الدول استثمارا في مصر خلال السنوات الخمس الفائتة بنحو عشرين مشروعا بقيمة 6ر22 مليار دولار أمريكي، متقدمة على الإمارات التي جاءت في المرتبة الثانية بنحو 55 مشروعا قيمتها 3ر17 مليار دولار أمريكي (تقرير مناخ الاسثمار 2017).

وفي مقالته المنشورة في الثاني عشر من يوليو 2017 بنفس الصحيفة، بدا واضحا أن فكرة القيادة الألمانية- الصينية للعالم تشغل المفكر الكبير جميل مطر. يقول: "رأيت مثلا الرئيس الصيني ورئيس وزرائه يزوران ألمانيا ثلاث مرات خلال فترة قصيرة جدا. يستطيع مراقب دقيق التعليق بأن القيادة الصينية كانت حريصة على أن تشارك ألمانيا في وضع أجندة القمة. كلاهما؛ ألمانيا والصين، وحدهما بين الكبار، أو ربما مع فرنسا، يشعر بخطورة التهديد المتربص للعولمة."

قد يكون صحيحا أن الصين تشعر بخطورة التهديد الذي يواجه العولمة، فقد عبرت بكين غير مرة عن هذه الرؤية. غير أن تفسير مشاركة بكين مع برلين في وضع أجندة قمة هامبورغ لمجموعة العشرين من زاوية السعي لقيادة العالم بمشاركة ألمانية تحتاج إلى تمحيص، فقد كان من الطبيعي أن يتم التنسيق بين الصين وألمانيا في وضع جدول الأعمال، كون الأولى الرئيسة الدورية لقمة العشرين السابقة، والثانية الرئيسة الحالية للقمة.

في مقالته المنشورة بعنوان ((الصين)) في 17 مايو 2017، يقول جميل مطر: "تختلف أسباب وظروف انحدار الكيانات الدولية من مواقع القيادة في كل حالة عن الحالة الأخرى، تماما كما تختلف أسباب وظروف صعودها إلى هذه المواقع. نكاد من فرط الاختلاف ألا نتعرف من المظاهر وحدها على دولة يؤكد التاريخ أنها من نسل كيان إمبراطوري قاد أو شارك في قيادة العالم المعروف وقتها. لا أجد مثلا الكثير من أوجه الشبه بين المجر التي يترأس حكومتها الآن فيكتور أوربان، وبين إمبراطورية المجر ورومانيا التي خضعت لحكم بيت الهابسبرج وهيمنت على أقاليم جغرافية شاسعة ودخلت حروبا ضارية وتسويات إقليمية واسعة مع إمبراطوريات أخرى. إلا أنني أجد أكثر من وجه شبه بين الصين التي يترأس جمهوريتها الآن الرئيس تشي (شي جين بينغ) والصين التي كان يترأس جمهوريتها الرئيس ماو والصين التي كان يقودها الزعيم صن ياتسين (صون يات صن) والرئيس شيانغ كاي شيك (تشيانغ كاي- شيك)، والصين الإمبراطورية سواء عند انحلالها وتهتكها تحت أقدام أبشع ممارسات أمراء الحرب وإقطاع البيروقراطيين أو تحت أقدام أشد ممارسات الاستعمار الغربي توحشا، في صعودها وتألقها في عهود الهان (أسرة هان) الذين مهدوا أول طريق للحرير والتانج (أسرة تانغ) والسونج (أسرة سونغ) والعهد الذهبي لإمبراطورية المينج (أسرة مينغ) التي وصل أسطولها إلى شرقي أفريقيا. قائد هذا الأسطول واسمه جينج هيه (تشنغ خه) يحتفلون به هذه الأيام باعتباره القائد الذي دشن طريق الحرير البحري في القرن الخامس عشر. الصين، ككل مفرداتها وجزئياتها، دوائر تبدأ عند نقطة لتعود إليها. من رماد الهلاك والفساد والحروب الأهلية تنبت أغصان الخير والسلام والاستقرار لتعود عوامل التخريب والشر فتحيلها رمادا، وهكذا." ويقول جميل مطر، متأثرا بالرؤية الغربية للصعود الصيني: "ما كان يمكن أن تجد الصين وقتا أنسب من الوقت الحالي لإطلاق مبادرتها "الحزام والطريق". لقد جربت شعوب العالم، أغناها وأفقرها، العولمة كما ابتدعها الغرب منذ انطلق يستعمر دول الجنوب قبل أربعة قرون وأكثر، وكما طورتها الولايات المتحدة وأعادت صياغتها على نمطها في الحياة والإنتاج والتفكير والتسويق والاستهلاك والإعلان فاستحقت فعلا أن تكون عولمة أمريكية. الصين تنفي نيتها بأن تكون هذه المرحلة من مبادرتها القفزة الأهم نحو بناء عولمة على النمط الصيني. الظواهر تشير إلى أن نجاح المبادرة يعني الإقبال المتزايد على استخدام سلع وخدمات صينية والتعود على منتجاتها الثقافية وربما نمط التفكير الشرقى.يعني أيضا تجاهل قيم وأخلاقيات غرستها عولمة غربية كسيادة القانون واحترام الدستور وحق المصير وحريات التعبير والعقيدة. مبادرة الطريق والحزام كرسالة من الشرق تختلف جذريا عن رسالة من الغرب حملها الاستعمار الأوروبي وطورتها الولايات المتحدة. رسالة الشرق تضمن مزايا خدمية ورعاية اجتماعية وصحية لعدد أكبر من الناس في شتى أنحاء العالم، ولكنها لا تضمن حماية حقوق الناس وحرياتهم وحقهم في تقرير مصيرهم. المثير هو أن الغرب يتخلى الآن تدريجيا عن رسالته تاركا الساحة لرسالة من الشرق تبشر بعصر جديد وأخلاقيات وأنماط حياة مختلفة."

السيد مطر يتبنى الرؤية الغربية تماما، متجاهلا حقيقة أن الصين دولة لها دستور يُحترَم وقوانين تُطبَق ويتمتع أهلها بحرية العقيدة وحرية التعبير البناءة وفق ضوابط القانون. وكما أكرر دائما، لا يمكن أن ترى الصين بنظارة غربية، بل عليك أن تقرأ تاريخ الصين وفلسفتها وقيمها الاجتماعية والأخلاقية. عليك أن تعرف أن الصين عندما تقول إن الحق الأول للإنسان هو الحق في الحياة إنما ناتج عن تاريخ طويل من المعاناة، وأن الاستقرار هو عقيدة الصينيين التي تنبذ الفوضى تحت أي مسميات. إن أحداث العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين تؤكد أن الصين تسير على جادة الصواب. أما دور الصين في بنية النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، فيرتبط بتوسع إطار مصالحها الاستراتيجية، وبخبراتها التاريخية وثقافتها ورؤيتها للتطورات الجارية في مناطق العالم المختلفة. تعاظم قوة الصين يعني توسع إطارها الاستراتيجي ليشمل نطاقات أبعد من محيطها الآسيوي، ولأسباب عديدة، تعتبر الصين أفريقيا- كمثال- مجالا حيويا لها أكثر ليونة وأقل مشاكل من مناطق أخرى قد تكون أقرب جغرافيا منها. وقد ارتفع حجم التبادل التجاري الصيني- الأفريقي من عشرة مليارات دولار أمريكي عام 2000 إلى ثلاثمائة مليار في عام 2015، وتسعى الصين لزيادته إلى أربعمائة مليار بحلول عام 2020. ولكن تزايد الوجود الاقتصادي الصيني في أفريقيا خلال السنوات العشرين الماضية لم يصحبه نفوذ سياسي ملموس، فالصين لديها طموحات سياسية قليلة في أفريقيا، وتتعاون مع الأنظمة الديمقراطية وغير الديمقراطية.

الصين معنية بتعديل قواعد النظام الاقتصادي الدولي أكثر من اهتمامها بتعديل الهيكل السياسي الدولي. وإذا كان الخطاب السياسي الصيني يدعو إلى إقامة نظام دولي أكثر عدالة وإنصافا ومتعدد الأقطاب، فإن الصين ترى نفسها "مُصلِحة" لهيكل النظام الدولي، وتعتقد أن النظام الدولي الحالي لا يمكن تبديله ولا يمكن أن يبقى على حاله أيضا، وأن إصلاح النظام الدولي لا ينبغي أن يكون عزفا منفردا أو عزفا جماعيا، بل يجب أن يكون سيمفونية يعزفها مختلف الشعوب.