المسلمون في هيلونغجيانغ

في بداية فترة أسرة تشينغ (1644- 1911)، ظل عدد كبير من أبناء قومية هوي المسلمين منخرطين في العمل العسكري، تواصلا لتقاليد خدمتهم في الجيش في فترة أسرة يوان (1271- 1368) وفترة أسرة مينغ (1368- 1644). وقد تم نشر هؤلاء العسكريين من قومية هوي في مقاطعة هيلونغجيانغ ليكونوا قوة الدفاع الرئيسية في الجبهة الأمامية. ذهب هؤلاء إلى هناك ومعهم إيمانهم بعقيدتهم الإسلامية. على أساس أكواخ بسيطة، أنشأ العسكريون المسلمون مسجد بوكُوِي، الذي يعني اسمه في لغة قومية داهور المسلمة "المحارب الباسل"، بجانب محطة خيالة للبريد، قبل أن تظهر مدينة تشيتشيهار حول محطة بوكوي لخيالة البريد. بني مسجد بوكُويّ، وهو أقدم مسجد في هيلونغجيانغ، قبل بناء المدينة بسبع سنوات. حاليا، ما زال حي بوكوي القديم في تشيتشيهار مزدهرا، ومركز تجمع كبيرا للمسلمين في هذه المدينة.

مسجد بينجيانغ (مسجد داوواي)

في عام 1897، بني أول مسجد في مدينة هاربين وهو مسجد بينجيانغ. في ذلك العام، بدأ الروس وأبناء قومية هوي بناء مساكن لهم في أرض خالية بجانب النهر في مدينة هاربين. وفقا لتخطيط المدينة، كان حي نانقانغ وحي داولي الواقعين غرب خط السكة الحديدية للروس، وحي داوواي الواقع شرق خط السكة الحديدية والذي يقع فيه مسجد بينجيانغ تابعا للصينيين.

بعد فتح حدود ليوتياوبيان في شمال شرقي الصين في أواخر فترة أسرة تشينغ، هاجر كثير من أبناء قومية هوي من منطقة شانهايقوان بمقاطعة خبي إلى شمال شرقي الصين، سعيا وراء الرزق. عمل بعضهم بالزراعة، ولكن معظمهم زاول المهن التقليدية لأبناء هوي، مثل الجزارة وتجارة الجلود وإدارة المطاعم وغيرها، وبعضهم الآخر تعلم طريقة صنع الحلوى لأبناء قوميات مان (منشوريا) ومنغوليا وكوريا الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة، وفتحوا محلات للحلوى الإسلامية.

معظم مؤسسي مسجد بينجيانغ كانوا من تجار المواشي، خصصوا جزءا من أرباح تجارتهم لشراء خمس غرف اتخذوها مسجدا واستقدموا له إماما. بعد ذلك، تمت إعادة بناء المسجد وترميمه مرات، ففي سنة 1935، قرر الإمام باي يوي شنغ إعادة بناء المسجد، حيث أقيمت قاعة الصلاة والتي هي البناية الرئيسية للمسجد حتى اليوم. في عام 1958 وعام 1979 وعام 2003، تم ترميم المسجد وتوسيع بنائه، وفي عام 2005 أُنجز بناء ميدان المسجد الذي صار أكبر مسجد في منطقة شمال شرقي الصين.

مسجد بينجيانغ مشيد بأسلوب العمارة العربية، وأمامه ميدان واسع يتنزه فيه أهل المدينة ويقومون بالنشاطات البدنية. المتاجر حول هذا الميدان، الذي منحه المحليون اسم "الميدان العربي" مفعمة بالنشاط. ينقسم المسجد إلى جزء للرجال وجزء للنساء، وحول المسجد منطقة تقليدية مأهولة بأبناء قومية هوي، وفيها كثير من المطاعم الإسلامية ومحلات المأكولات.

قبل سنوات، كان اللون الرئيسي للمسجد هو الأزرق، ولكن بعد طلائه صار اللونان الأبيض والأخضر يميزانه عن بقية مساجد هاربين، بل وكل مساجد منطقة شمال شرقي الصين، التي يسودها اللون الأزرق. بالنسبة لأبناء قومية هوي في شمال شرقي الصين، اللون الأزرق له مغزى خاص، فهو لون صبغة دخلت إلى الصين من منطقة غربي آسيا، واستخدمها الصينيون في زخرفة أواني الخزف الصيني الأزرق والأبيض برسوم ذات عناصر إسلامية، قبل تصديرها إلى منطقة غربي آسيا لتكون رابطة بين الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية.

منطقة "بنايات الباروك الصينية"

منطقة "بنايات الباروك الصينية" القريبة من مسجد بينجيانغ، تضم مجموعة من البنايات الأوروبية القديمة. في السابق، كان شارع بيسان فيها حيا مزدهرا فيه كثير من المطاعم الإسلامية العتيقة. الآن، انتقل معظمها إلى الأماكن القريبة من الشارع بسبب إصلاح المدينة.

في الماضي، كان يقيم كثير من المراكبيين بجانب نهر سونغهوا شمال منطقة "بنايات الباروك الصينية"، يقال إن نصف هؤلاء كانوا مسلمين من قومية هوي، يعملون في تجارة البقر والغنم والجلود على السفن، وكانت سفن بعضهم تصل إلى داخل روسيا للتجارة. بعد تأسيس الصين الجديدة، تحولت الممتلكات الخاصة إلى ملكية مشتركة بين الدولة والقطاع الخاص، خلال التحول الاشتراكي في الفترة من عام 1953 إلى عام 1956، فسلّم هؤلاء البحارة من قومية هوي سفنهم إلى الدولة، وبدأوا يعملون في محطة مياه الشرب وشركة الشحن البحري المملوكة للدولة.

كانت المطاعم الإسلامية القديمة في مدينة هاربين تقع حول مسجد بينجيانغ، وتمتد إلى شارع جينغيانغ وشارع بيتوداو القريبين من منطقة "بنايات الباروك الصينية"، ولكن المطاعم أصبحت مملوكة للدولة خلال التحول الاشتراكي، وصار الطباخون موظفين في المطاعم الإسلامية المملوكة للدولة أو الفنادق الإسلامية المملوكة للدولة. وبعد تنفيذ سياسة الإصلاح والانفتاح، أعاد بعض الطباخين المسنين من قومية هوي فتح مطاعم لهم، ولكن عددها قليل.

مسجد التتار

يقع الشارع المركزي لهاربين في غرب منطقة "بنايات الباروك الصينية"، وهو الشارع الأكثر ازدهارا في المدينة. في شارع تونغجيانغ الواقع في الطرف الغربي للشارع المركزي مسجد ذو شكل مميز بُني في عام 1901. هذا المسجد لم يكن لأبناء قومية هوي المحليين في البداية، وإنما لأبناء قومية التتار، وهم أقلية قومية روسية، وسُمي هذا بـ"مسجد التتار".

يختلف مسجد التتار في طراز عمارته عن العمارة الصينية والعمارة العربية، فهو مشيد بطراز العمارة البيزنطية. اللون الخارجي للمسجد بنيّ مع خطوط بيضاء، وتقع المئذنة في مركز المسجد، وواجهة المسجد طويلة ضخمة شاهقة. الآن، أصبحت حول هذا المسجد عمارات سكنية وقد هُدمت دورة المياه وغيرها من مرافقه، ولكن ظلت البناية الرئيسية للمسجد قائمة.

في عام 1922، تمت إعادة بناء مسجد التتار لإحياء ذكرى اعتناق أسلاف قومية التتار للدين الإسلامي قبل ألف سنة، فأصبح المسجد على صورته الحالية، كرمز لمكانة أبناء قومية التتار في هاربين باعتبارهم مجموعة من المسلمين الأجانب. في ذلك الوقت، كان لأبناء قومية التتار صحف ومدارس ومطابع ومنظمات ترفيهية وخيرية. في عام 1935، أصبحت مدينة هاربين مركز نشاطات أبناء قومية التتار في الشرق الأقصى، حيث عقد فيها مؤتمر لممثلي أبناء قومية التتار في شرقي آسيا.

بعد تأسيس الصين الجديدة، تراجع أعداد أبناء قومية التتار شيئا فشيئا، إذ هاجر بعضهم إلى أستراليا وأمريكا الشمالية. وفي تسعينات القرن الماضي، أصبح مسجد التتار تابعا للجمعية الإسلامية بمدينة هاربين.

في التاريخ الحديث، أبناء قومية هوي هم أول من وصلوا إلى تشيتشيهار وهاربين وقاموا ببنائهما. إن قصة أبناء قومية هوي في هاربين وتشيتشيهار صورة مصغرة للقوميات والأديان في شمال شرقي الصين، حيث أنهم توارثوا نمط الحياة القديمة لأسلافهم، فعملوا بالتجارة والحرف اليدوية، وشيدوا المساجد والأحياء السكنية للمسلمين في مختلف المدن الكبيرة في شمال شرقي الصين، مما جعلهم يتبوأون مكانة هامة في تاريخ هيلونغجيانغ بل وشمال شرقي آسيا، ويدفعون التبادلات بين مختلف القوميات والدول في كل هذه المنطقة، ويسجلون تاريخهم وتاريخ قوميتهم.