بكين.. من عاصمة عملاقة الى مدينة ذكية صالحة للعيش

قال مراسل صحفي ألماني مقيم في بكين إن الأجانب يتجنبون حاليا الذهاب إلى الصين أو الإقامة فيها، بسبب تلوث الهواء، ومستوى الدخل المنخفض نسبيا مقارنة مع الدول المتقدمة، وارتفاع تكلفة الحياة. وأضاف، في حديث مع برنامج "Tsgesschau" ((الأخبار اليومية)) الذي تبثه القناة الأولى لشبكة تلفزيون ألمانيا: "يواجه أصحاب الشركات الألمانية صعوبة في إقناع موظفيهم بالذهاب إلى الصين للعمل. الشركات سواء العامة أو الخاصة، يصعب عليها إقناع الموظفين للبقاء في الصين."

لقد شهدت الشهور الأخيرة أخبارا سلبية حول الصين وبكين غير مرة في وسائل الإعلام الغربية، فيما يتعلق بتلوث الهواء وازدحام المرور، وغير ذلك من من المشاكل الاجتماعية. لكن، هل الحياة في المدن الكبيرة  في الصين صعبة إلى هذا الحد؟ وما هو مستقبل تطور العاصمة بكين؟ ولماذا ستصبح مقاطعة خبي ومدينتي تيانجين وبكين منطقة مترابطة؟

أمراض المدن الكبيرة

بيتر تيشور، وهو ألماني عمره ثلاث وخمسون سنة، جاء إلى الصين في ثمانينات القرن الماضي لإكمال دراسته. في سنة 2006، عمل محررا عاما لمجلة ((China Contact)) الاقتصادية التي تصدر باللغة الألمانية وتتابع التغيرات والتطورات في الصين.

قال بيتر، الذي يحمل الاسم الصيني دي بي ويعيش في بكين: "لا أود أن أعيش في أي مكان آخر." وأوضح أنه عندما جاء إلى بكين لأول مرة في سنة 1984، كان يرى الأغنام تسير في الشوارع. وفي ذلك الوقت، كان يجري العمل في إنشاء الطريق الدائري الثالث. كانت المناطق الواقعة خارج هذا الطريق تعد ريفية ونائية. اليوم، صارت بكين ذات التاريخ مدينة عملاقة وحديثة، وتواجه المشكلات التي تعاني منها المدن الكبرى في العالم.

وقد أكد دي بي أنه لن يعود إلى ألمانيا أو أي دولة غربية. قال: "بصراحة، تلوث الهواء في بكين مشكلة حقيقية واقعية. لا يمكن أن أنكر أننا في السنة أو السنتين القادمتين، سوف نعاني من تلوث الهواء لمدة أسبوع أو أسبوعين كل سنة، وقد يكون ذلك مقلقا للناس. لكننا لا نستطيع إغفال جهود الحكومة الصينية لتحسين الهواء. وقد تحسنت جودة الهواء في السنتين الأخيرتين بكل تأكيد." أضاف: "لا يمكن حل مشكلة التلوث في ليلة وضحاها. حاليا، يبذل الصينيون أقصى جهودهم لمواجهة هذه المشكلة. لقد واجهت كل الدول المتقدمة هذه المشكلة في مسيرة تنميتها في الماضي. أتذكر أنه في سبعينات القرن العشرين، وكنت وقتها أدرس في المرحلة الإعدادية، قرأت أخبارا تفيد بأن الحكومة اليابانية وضعت ماكينات لإنتاج الأكسجين في شوارع مدينة طوكيو، لتوفير الأكسجين النقي للناس."

قال دي بي إن التعليقات السلبية لن تحل المشكلة. وأضاف: "لا ينبغي أن نتعامى عن أن مشكلة التلوث في الصين ناجمة عن المصانع التي أقامتها الدول المتقدمة في الصين في فترة الإصلاح والانفتاح. الدول المتقدمة تنعم ببيئة جيدة على حساب الصين، وتتحمل مسؤولية عن مشكلة التلوث في الصين."

التنمية السريعة لبكين أحد الأسباب الهامة لمشكلة التلوث، فقد أمست العاصمة الصينية مدينة عملاقة بعد نموها وتوسعها السريع. تبلغ مساحة بكين، شاملة ضواحيها، 16807 كيلومترا مربعا، فهي أكبر قليلا من ولاية شليسفيغ الألمانية، بينما يقطنها 5ر21 مليون نسمة (حسب البيانات الرسمية حتى مارس عام 2016)، أي نحو ربع سكان ألمانيا. سكان بكين جاءوا إليها من أنحاء الصين والعالم.

بالنسبة لحكومة بكين، يعد توفير الطاقة والكهرباء والمياه والغذاء وفرص العمل والخدمات عملا صعبا وشاقا. فضلا عن ذلك، فإن المتوسط السنوي لهطول الأمطار في المناطق الجبلية بشمالي الصين حيث توجد بكين، حوالي 578 ملليلتر، يسقط 62% منها في شهري يوليو وأغسطس، ولهذا تعاني بكين، من الجفاف نسبيا، وتهاجمها العواصف الرملية من صحراء منغوليا الداخلية كل عدة سنوات. لقد بات واضحا أن توسع بكين قد جاوز الحد الطبيعي للقدرات البشرية والبيئية، فكيف تحقق هذه المدينة التنمية المتوازنة؟

البحث عن طريق

تعكف الحكومة الصينية حاليا على دراسة وبحث سبل تحقيق التنمية المتوازنة لمدينة بكين والمنطقة المحيطة بها. وبالنسبة لبكين، تسعى الحكومة الصينية إلى تحقيق الترابط والتمايز بين وظائف المدن. في المستقبل، لن يتدفق الصينيون من أنحاء البلاد إلى بكين فقط، وإنما سوف يقصدون إلى تيانجين وبعض المدن في مقاطعة خبي بالقرب من بكين. وحسب خطة الحكومة الصينية، سوف تكون هناك منطقة موحدة تحمل اسم "جينغجينجي"، ويقصد بـ"جينغ" بكين، أما "جين" فتشير إلى تيانجين، في حين أن "جي"  اختصار لمقاطعة خبي.

قال دي بي: " ليس المقصود من بناء منطقة جينغجينجي هو خلق تجمع مدن عملاقة كما تزعم بعض وسائل الإعلام الغربية، وإنما بناء منطقة تحشد فيها القوة الكامنة للتنمية لعدة المدن من جانب، وتوزيع وظائف بكين، كعاصمة للدولة، إلى عدة المدن، لجمع قوة الترابط للمنطقة." وأوضح دي بي أن الحكومة الصينية نفذت هذه الاستراتيجية في دلتا نهر تشوجيانغ (اللؤلؤ) ودلتا نهر اليانغتسي. وأضاف: "يمكن لهذه المدن أن تلعب دورها المختلفة وتساعد بعضها البعض. في مسيرة بناء المنطقة، سوف تستفيد مقاطعة خبي التي لم تصل إلى المستوى العالي من التنمية."

سوف تلعب ثلاث محافظات في مقاطعة خبي دورا هاما في خطة تكامل منطقة جينغجينجي. تقع هذه المحافظات الثلاث في جنوبب بكين. في إبريل عام 2017، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ بناء منطقة شيونغآن على مستوى الدولة، وسوف تدعم هذه المنطقة تنمية منطقة جينغجينجي بشكل قوي.

"شنتشن الجديدة"

يشبّه الخبراء الصينيون منطقة شيونغآن الجديدة بمدينة شنتشن التي حققت تنمية سريعة في فترة الإصلاح والانفتاح، ومنطقة بودونغ في مدينة شانغهاي. قال دي بي :"لا بد أن هناك تشابها بين شنتشن وبودونغ ومنطقة شيونغآن الجديدة، لأنها تحظى بدعم قوي من القيادة الصينية. لكن شيونغآن ستختلف عن شنتشن، من حيث عدم وجود قواعد صناعية كبيرة، إذ ستطبق نهجا جديدا في التنمية لتصبح مدينة ذكية ومنطقة اقتصادية معاصرة."

وأضاف دي بي: "على الناس أن يدركوا أن بناء المنطقة الاقتصادية الجديدة عمل طويل ومسيرة مستمرة تهدف إلى تطوير منطقة جينغجينجي إلى مجمع مدن حديثة، وبناء المدن التابعة (مدن صغيرة بالقرب من مدينة كبيرة). سوف تفيد هذه الاستراتيجية تنمية المنطقة المحيطة بالعاصمة، وخاصة مقاطعة خبي."

من أجل تخفيف الضغط المروري في بكين، على الحكومة الصينية توفير ظروف جيدة للسكن ومزيد من فرص العمل. على سبيل المثال، نقلت حكومة بكين المحلية مقرها إلى ضاحية تونغتشو. قال دي بي: "أرى أن الحل الجوهري لتخفيف الضغط المروري في بكين هو زيادة قوة جذب المدن التابعة."

الدمج بين التخطيط والتنمية الطبيعية

لكي تحقق تجمعات المدن التنمية وتصبح نموذجا، لابد من توفر شروط التنمية المعنية. ويرى دي بي أن الصين تسير في الاتجاه الصحيح في هذا المجال.  قال: "أوجدت الحكومة الصينية ظروفا جيدة لتنمية تجمعات المدن، مثل توفير البنية التحتية الممتازة، وبناء شبكات المواصلات التي تضم السكك الحديدية والمترو والسيارات العامة. لا بد أن يكون للمدن التابعة مزاياها الخاصة التي تمكنها من جذب الأكفاء ليعيشوا فيها."

بالنسبة لمشكلة التلوث، سوف يستفيد أبناء بكين من خطة بناء منطقة شيونغآن الجديدة في وقت قريب، مع انتقال الدفعة الأولى من مصانع العاصمة إلى مقاطعة خبي. هذا الأمر ليس مجرد نقل المصانع من مكان إلى آخر، وإنما جزء من مسيرة الإصلاح الحديث للمصانع، والارتقاء بمستوى الإنتاج وحماية البيئة بعد الانتقال والتحديث.

قال دي بي: "أعتقد أن البكينيين إيجابيون ويقبلون الأشياء الجديدة بسرعة، فتتمتع هذه المدينة بالمرونة وقدرة التنمية. وبصفتي واحدا من أهل بكين، أتطلع إلى تنمية المدينة السريعة والجيدة في المستقبل."