الدبلوماسية الصينية من البينغ بونغ إلى الباندا

الشعب الذكي يوظف ما لديه من مزايا لإقامة روابط طيبة مع الشعوب الأخرى. هكذا فعل ويفعل الصينيون. جعلت الصين مسلميها فاتحة علاقاتها وروابطها مع الدول والشعوب العربية والإسلامية. وتعد إقامة معرض الصين والدول العربية، الذي تستضيفه منطقة نينغشيا الذاتية الحكم لقومية هوي في سبتمبر كل عام تطبيقا عمليا لهذا المفهوم.

في عام 1971، في وقت لم تكن فيه للصين علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي فرضت حظرا اقتصاديا على بكين بعد الحرب الكورية سنة 1950، كان فريق كرة الطاولة (البينغ بونغ) الأمريكي يشارك في الدورة الحادية والثلاثين لبطولة العالم لكرة الطاولة بمدينة ناغويا اليابانية، وكان هناك الفريق الصيني، الذي صافح أحد أفراده لاعبا أمريكيا. الفريق الأمريكي الذي عبر عن رغبته في زيارة الصين، تسلم في السادس من إبريل دعوة لزيارة الصين، وبعد أربعة أيام فقط، وصل إلى بكين ليكون أول وفد أمريكي رسمي تطأ أقدامه الأرض الصينية منذ عام 1949. في حفل استقبال أقيم للفريق الأمريكي حضره رئيس مجلس الدولة الصيني الراحل شو أن لاي، قال الزعيم الصيني لأعضاء الفريق: "أنتم تفتحون اليوم بابا جديدا للعلاقات بين شعبي الدولتين." وبعد ساعات أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عن إجراءات لتخفيف الحظر الأمريكي على الصين. كانت هذه بداية مسيرة تطبيع العلاقات بين بكين وواشنطن.

الباندا حيوان ينتمي إلى عائلة الدببة، موطنه الأصلي في جنوبي الصين الأوسط والغربي. والباندا من الحيوانات النادرة المعرضة للانقراض، ولهذا فهو من الحيوانات المحمية. في عام 2016، نقل الاتحاد العالمي لحماية الطبيعة حيوان الباندا من فئة الحيوانات المنقرضة إلى فئة الحيوانات الأقل عرضة للانقراض. واعتبر تقرير للاتحاد، أعلن في الرابع من سبتمبر 2016، أن تخفيض درجة الخطورة التي تهدد الباندا دليل على نجاح الجهود المبذولة تحت إشراف الحكومة الصينية على مدى عقود، بما في ذلك إعادة بناء غابات الخيزران التي تعتبر الموائل  الرئيسية للباندا، وأشار إلى أن التوظيفات الرامية إلى الاحتفاظ بأنواع حيوانات بالغة الشأن مثل الباندا تؤتي ثمارها. وقال التقرير، إن عدد أفراد الباندا في الصين ارتفع من 1596 إلى 1864 حيوانا خلال الفترة من عام 2004 إلى عام 2014. لكن الاتحاد حذر في نفس الوقت من أنه من المحتمل أن تنخفض كمية الخيزران، الذي يعتبر الغذاء الرئيسي للباندا، بنسبة أكثر من 35% خلال السنوات الثمانين المقبلة بسبب تغير المناخ. وكانت بيانات مسح أجري في الصين وأعلنت نتائجه في فبراير 2015، أظهرت أن عدد  حيوانات الباندا البرية بلغ 1864 حيوانا حتى نهاية عام 2013، مسجلا زيادة قدرها 8ر16%. وفي الخامس من سبتمبر 2016، قالت المصلحة الوطنية الصينية للغابات، إن العمل الميداني ووضع الحماية الحقيقي يظهران أن حيوان الباندا لا يزال من الأنواع المهددة بالانقراض، ورأت أنه من المبكر خفض مستوى حماية الباندا العملاقة التي لا تزال تواجه تجزئة الموائل وندرة الكلأ وغيرها من الأخطار التي تهدد بقائها، مؤكدا على أن الصين ستواصل تعزيز أعمال حماية الباندا العملاقة.

الصين هي موطن الباندا، كما أن الباندا كنز صيني فريد لا تملكه دولة أخرى. وقد أحسنت الصين توظيف ثروتها النفيسة من الباندا. فبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية سنة 1949، صار ذلك الحيوان اللطيف الذي يعشقه الأطفال خصوصا، "سفير نوايا حسنة" للدولة الوليدة. في سنة 1957، بدأ حيوان الباندا أول مهمة دبلوماسية له، عندما أهدت الحكومة الصينية الاتحاد السوفيتي السابق أول حيوان باندا يخرج من الأراضي الصينية. وفي عام 1972، عندما قام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون بزيارة الصين، وهي الزيارة التي عرفت بأنها "زيارة كسر الجليد"، حرصت زوجته السيدة بات نيكسون على زيارة حديقة الحيوانات في بكين، حيث يوجد ركن لحيوانات الباندا. ومرة أخرى أظهر شو أن لاي الحكمة الصينية وأعلن في نهاية زيارة نيكسون عن إهداء زوج الباندا "لينغ لينغ" و"شينغ شينغ" للشعب الأمريكي. عندما هبطت طائرة الرئيس الأمريكي في واشنطن كان أكثر من ثمانية آلاف أمريكي في انتظار "الضيفين" القادمين من الصين واللذين تم وضعهما في حديقة حيوانات واشنطن وزارهما في أول يوم إقامة لهما بها أكثر من عشرين ألف زائر.

ومثل كل "سفراء النوايا الحسنة"، واجه حيوان الباندا مواقف صعبة، فبعد أن أعلنت الصين في السادس من يناير 2006، أنها قررت إهداء جزيرة تايوان زوجين من حيوان الباندا، في خطوة لتحسين الأجواء بين جانبي مضيق تايوان، والتي كانت متوترة بسبب سياسات رئيس سلطة تايوان تشن شوي بيان المتشددة، رفضت السلطات التايوانية هدية بر الصين الرئيسي، واعتبرت أن الصين "تقوم بتسييس قضية الباندا". ولكن، في الثالث والعشرين من ديسمبر 2008، وصل إلى تايبيه، عاصمة تايوان، الزوجان "توان توان" و"يوان يوان"، حيث تم تسكينهما بحديقة الحيوانات في المدينة. وبعد نحو شهر من وصولهما، ظهر الزوجان أمام الزائرين في بيتهما الذي تكلف ثلاثمائة وعشرين ألف دولار أمريكي. وفي السادس من يناير 2014، ظهرت "يوان تساي" أول حيوان باندا ولد في تايوان علنا للمرة الأولى أمام آلاف المعجبين في حديقة الحيوانات بمدينة تايبيه. حاليا، تعيش "يوان تساي" التي يعني اسمها "لم الشمل"، في قفص مخصص لحيوانات الباندا بحديقة الحيوانات في تايبيه.

الحقيقة أن تاريخ "دبلوماسية الباندا" الصينية عريق، ففي فترة أسرة هان الصينية (202 ق.م- 220) قدم البلاط الصيني "الباندا" هدية لإمبراطور اليابان. وفي سنة 1938، تم نقل حيوان باندا إلى بريطانيا. ولكن، في ثمانينات القرن العشرين، واجهت "دبلوماسية الباندا" تحديا صعبا، بسبب تناقص أعداده نتيجة تدهور البيئة المعيشية له، فقررت الحكومة الصينية في سنة 1982 وقف إهداء "الباندا" للدول الأجنبية، وبعبارة أخرى تم تعليق "دبلوماسية الباندا". وفي ذات الوقت، أولت الحكومة الصينية اهتماما بالغا بالحفاظ على هذا الحيوان الثمين من الانقراض من خلال الإكثار الاصطناعي له، وتحسين بيئة معيشته. أنشأت الصين مركزا لبحوث حماية الباندا في وولونغ بمقاطعة سيتشوان. يسعى المركز للحفاظ على التنوع الوراثي لهذا الحيوان، ولهذا الغرض يتعاون مع حوالي ثلاثين منظمة في العالم لتطوير برامج الاستكثار الاصطناعي للباندا. حتى نهاية عام 2016، قام المركز بتأسيس علاقات تعاون مع اثنتي عشرة حديقة حيوانات في عشر دول، وأرسل 26 حيوان باندا إلى الخارج.

لم يعد حيوان الباندا رمزا ثقافيا صينيا فحسب، وإنما أيضا بات له بعد عالمي. حيث اختارت عدة مؤسسات دولية، ومنها الصندوق العالمي للطبيعة، صورة الباندا كرمز لها. كما أصبح حيوان الباندا "بطلا" للعديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية والمنتجات الثقافية، مثل فيلم "كونغ فو باندا"، الذي حقق إيرادات تجاوزت مليارا وثمانمائة ألف دولار أمريكي. وقد اعتبرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) الباندا من أدوات "القوة الناعمة الصينية".

أحدث الجولات الدبلوماسية للباندا، كانت في الرابع والعشرين من يونيو 2017. في صباح ذلك اليوم، تجمع عدد من الساسة والصحفيين بقاعة الانتظار في مطار شونفيلد بمدينة برلين الألمانية، لاستقبال ضيفين قادمين من الصين بعد رحلة جوية دامت أكثر من عشر ساعات. لم يكن الضيفان من كبار مسؤولي الصين، وإنما زوجا الباندا "منغ منغ" و"جياو تشينغ". في برلين، أعد الألمان لهما حفل استقبال مهيبا و"بيتا جديدا" مساحته خمسة آلاف وخمسمائة متر مربع.

وتواصل الصين إبداعها المتميز، ودعوتها إلى سلام وتنمية وتناغم العالم، من أجل تأكيد "رابطة المصير المشترك" التي يدعو لها الرئيس الصيني شي جين بينغ.