اشتباك فكري مع الكاتب الصيني شيو تسي تشين

منذ آماد طوال، كان وسيظل الاختلاف والنقد أهم منتج ثقافي معرفي تفرزه عقول البشر من توجهات ورؤى جديدة، بل ونظريات مستحدثة لم تكن متخيلة أو عارضة على الذهن. ولعل ذلك هو ما ينسف مفهوم الأحادية الفكرية التي تعد من الآفات المعوقة لأي انطلاقة نحو إشعاعات التقدم والبريق الحضاري. ومن ثم، ظل الاختلاف فضيلة لدى أولئك الذين تسكنهم الرؤية التعددية التي تحتضن الآخر بكل ما يحمله من تناقض يمكن تذويبه مع النقاش والحوار بل والجدل العاصف، ذلك بلوغا لأعتاب أبجديات التنوير، تلك التي تسعى كافة النخب لإحداثها أملا في تغير حركة المجتمع بل حركة التاريخ أيضا.

وانطلاقا من ذلك، نخوض جولة متأنية عاجلة مع كلمات الأديب الصيني الشهير شيو تسي تشين الذي ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، كان آخرها العربية التي احتضنت روايته الأخيرة (الركض عبر بكين) ونشرت تحت عنوان ((بكين، بكين)). أما آراؤه  التي استوقفتنا، فقد بثها خلال حوار معمق مع ((المجلة العربية)) في عدد يوليو 2017، أعرب فيه عن رؤيته إزاء تساؤل طُرح عليه حول طبيعة العلاقة الطردية بين انطلاقة الاقتصاد الصيني وبين تلك الانطلاقة الأخرى التي ستواكبها على صعيد الأدب والثقافة، فجاء الجواب مغايرا للمأمول، إذ قال: "لا يمكن أن يتزامن التطور الثقافي مع الاقتصادي، فيمكن للثقافة أن تسبق الاقتصاد ويمكن أن تُصاب بركود وتتراجع خلف الاقتصاد." وبالنسبة للوضعية الصينية، فقد اتجهت منظوراته نحو أن الثقافة تسير خلف الاقتصاد، إذ أن تأثير الثقافة الصينية على العالم أقل كثيرا من تأثير الاقتصاد الصيني عليه، ففي الوقت الذي غزا فيه شعار "صنع في الصين" أرجاء العالم كانت الثقافة الصينية تقاوم الحصار داخل الصين.

ومن ذلك، تكون وقفتنا المنطلقة دوما من الانحياز للثقافة في معناها الأصيل والفكر في تشعباته وإعلائهما على كافة مقدرات الوجود الإنساني. فبداية نؤكد أن مصدر النهضة والتقدم والحضارة لأي أمة هو تلك الديناميكية الثقافية المرتكزة على تفعيل الوعي بإنتاج وتوليد الأفكار وصياغة المفاهيم التقدمية، وطرح الرؤى المستنيرة والتفاعل الحميم مع حركة التاريخ واستنهاض الماضي ودمجه في نسيج المعاصرة، واقتحام عوالم المستقبل بكل مستحدث. ولعل الصين، في تاريخها الحديث، قد اعتمدت مبدأ الإرادة الوطنية في الارتقاء بالدولة. وهو مبدأ لا ينطلق إلا من قناعة ثقافية ورؤية ذاتية مغايرة عن رؤى الكثير من الدول التي تعتبر التقدم هو حلم الأحلام، لكنها لا تُفَعِل التعامل مع آليات التقدم المحقق لمشروعية وجوده. فالصين قد خاضت كافة جولاتها في دروب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية، منطلقة أيضا من قناعة ثقافية أخرى هي الإيمان المفرط بالطاقة الإنسانية باعتبارها المحور الفاعل والحقيقي في تحقيق أعلى معدلات التنمية. والصين كذلك، حين طرحت منظوراتها تجاه الظاهرة الأمريكية المسماه بالعولمة، لم ترفضها، وإنما طالبت بعولمة ذات وجه إنساني وليس ذات طابع ابتزازي. لقد جاءت تلك الرؤى، على عموميتها واختلاف توجهاتها، من تلك الأرضية الثقافية ذات الخصوصية والخصوبة في آن واحد. وعلى ذلك، يتزامن التطور الاقتصادي الذي تشهده الصين مع التطور الثقافي الذي يتجلى دوما، ومن طرف خفي، يجعلك تلحظ نتائجه لكن تتوارى مقدماته دون أن يعني ذلك أنها غير قائمة، وإلا فمن أين جاءت تلك النتائج؟ إن الثقافة هي التي تنتج القيم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن ثم تظل هي الموجه المجتمعي الذي تسير في ركابه كافة المؤشرات.

 أما المأخذ الآخر على الأديب الصيني النابه شيو تسي تشين، فيتلخص في أنه يقرر أن مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل إنما هي جزء من أشكال التعبير الأدبي، بينما هي في الحقيقة ليست جزءا ولا كلا ولا شكلا، ولا تعدو أن تكون وسيلة معاصرة للتعبير الأدبي أو العلمي أو غير هذا أو ذاك من التعابير المرتبطة بمجالات أخرى.

ويؤكد شيو تسي تشين، في ذات السياق أن هناك في الصين حاليا نوعا من الأدب يسمى بأدب الإنترنت، وهو بالطبع مختلف عن نظيره من الأدب التقليدي من حيث الأسلوب والمضمون وطريقة الكتابة. يتناول شيو تسي تشين ذلك دون تصحيح للمسار المفهومي للأدب، بمعنى أن هذا المفهوم الشائع عالميا كان يستوجب وقفة لتفكيكه يخرج منها الكاتب والقارئ بفكرة أن الأدب لا يكتسب هويته أو خصائصه من الوسيلة أو الأداة، فلا يجوز الحديث عن الأدب الورقي أو السينمائي، وإنما يجوز أن نقول الأدب النسائي لأن موضوعه المرأة أو الأدب الفكاهي لأن موضوعه المزاح والسخرية، فما أكثر الوسائل التي يُتداول من خلالها الأدب، ولكن ما أعسر أن نغير جوهر الأدب ومعناه التاريخي الذي أحدث تغيرات جذرية في حياة الأمم والشعوب.

بالفعل، ما أمتع مغامرة الإبحار في عقل أديب أو فيلسوف أو كاتب، بشرط أن يكون النقد هو المحك، ذلك استهدافا لإحداث زخم ثقافي يكون هو الميراث الباقي لأجيال سوف تشهد لأجيال سبقتها بمدى الإقدام والمشاركة الفاعلة في دوائر الحوار الساخن بين الثقافات والحوارات أيضا!

--

د. محمد حسين أبو العلا، كاتب وأستاذ علم الاجتماع السياسي في مصر.