هونغ كونغ بعد عشرين عاما من العودة

في التاسع والعشرين من يونيو سنة 2017، وصل الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة، لحضور الاحتفال بالذكرى السنوية العشرين لاستعادة الصين سيادتها على المنطقة. و لدى وصوله إلى مطار هونغ كونغ الدولي، قال السيد شي، إن الحكومة المركزية (الصينية) ستدعم دائما منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة في تنمية اقتصادها وتحسين معيشة أهلها. وهنأ الرئيس شي المنطقة على الإنجازات الكبيرة التي حققتها خلال العشرين عاما الماضية، وقال إنه سيشارك أبناء هونغ كونغ من مختلف دروب الحياة في مراجعة الرحلة الاستثنائية التي قطعتها المنطقة خلال العشرين عاما الماضية، وتلخيص تجاربها والتخطيط لمستقبلها من أجل ضمان تنفيذ مبدأ "دولة واحدة ذات نظامين" بشكل سلس وناجح على المدى الطويل. وأضاف: "بعد تسع سنوات أطأ مجددا أرض هونغ كونغ. أشعر بسعادة بالغة. هونغ كونغ لها دائما مكان في قلبي."

في الأول من يوليو 2017، ألقى الرئيس شي كلمة بالغة الأهمية في احتفال الذكرى العشرين، وبدء أعمال الدورة الخامسة لحكومة منطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة بقيادة، كاري لام تشنغ يوت- نغور (كاري لام)، وهي أول سيدة تتولى منصب الرئيس التنفيذي للمنطقة. في كلمته قال الرئيس: "أي محاولات للإضرار بسيادة الوطن وأمنه أو تحدي سلطات الحكومة المركزية وسلطة القانون الأساسي لمنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة، أو استغلال هونغ كونغ للقيام بأنشطة التسلل والتخريب ضد المناطق الداخلية، تعد تصرفات تتجاوز الخط الأحمر، وغير مسموح بها مطلقا."

بينما كنت أتابع زيارة الرئيس شي لهونغ كونغ، عادت بي الذاكرة إلى عشرين سنة مضت، عندما وصلت إلى الجزيرة الصينية في التاسع والعشرين من يونيو 1997، في مهمة صحفية لتغطية عودة هونغ كونغ إلى الوطن الأم. كنت واحدا من آلاف احتشدوا في هونغ كونغ لمشاهدة مراسم استعادة جمهورية الصين الشعبية لسيادتها على هونغ كونغ من بريطانيا التي احتلت هذه الجزيرة الصينية مائة وستة وخمسين عاما (1841- 1997). كان كريستوفر فرانسيس باتن هو الحاكم البريطاني الثامن والعشرون، والأخير لهونغ كونع، وقد تولى هذا المنصب في يوليوعام 1992. كانت المهمة الرئيسية للسيد باتن في هونغ كونغ هي زرع الألغام للإدارة الصينية التي ستتولى المنطقة بعد رحيله، فقام بتعديل النظام الانتخابي وتغيير تعريف الدوائر الانتخابية وغير ذلك من الإجراءات التي أرادت بريطانيا من خلالها أن تترك "مسمار جحا" في مستعمرتها السابقة.

في زيارتي الأولى لهونغ كونغ، نزلت في فندق بمنطقة وانتشاي بالشاطئ الشمالي لهونغ كونغ، على مقربة من مركز هونغ كونغ للمؤتمرات والمعارض، بؤرة احتفالات التسليم والتسلم. وقد شاهدتُ ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز وهو يحمل علم بلاده مطوياً والرئيس الصيني الأسبق جيانغ تسه مين يرفع علم وطنه ليرفرف في سماء هونغ كونغ، ورأيت الدموع في عيني باتن وهو يغادر المستعمرة السابقة على اليخت الملكي البريطانيHMY Britannia . كانت لحظات مؤثرة نقلتها وسائل الإعلام العالمية وشاهدها الناس في أرجاء المعمورة. وكانت إدارة هونغ كونغ وفقا لصيغة "دولة واحدة ذات نظامين" تحدياً للحكومة المركزية الصينية. فحسب "القانون الأساسي لمنطقة هونغ كونغ الإدارية الخاصة"، تلتزم الحكومة الصينية بعدم تغيير نمط حياة أبناء هونغ كونغ لمدة خمسين سنة، يدير خلالها أبناء هونغ كونغ منطقتهم بأنفسهم، وأن تتمتع المنطقة بدرجة عالية من الحكم الذاتي، وهذا يعني أنه باستثناء الشؤون الخارجية وشؤون الدفاع اللتين تتولاهما الحكومة المركزية الصينية، تتمتع منطقة هونغ كونغ بصلاحيات كاملة لإدارة شؤونها الإدارية والتشريعية والقضائية.

زرت هونغ كونغ مرة أخرى، في مايو 2002، فشهدت فيها المزيد من التقدم والازدهار. كان رفيقي في هذه الزيارة الخاصة أكاديمي أمريكي من أصل إيراني زوجته صينية. عندما سألت صديقي عن سبب تركه للولايات المتحدة الأمريكية واختيار هونغ كونغ مقرا لنشاطه العلمي والتجاري، قال البروفيسور حسن زند: "هذه المنطقة مليئة بالفرص". نعم، حافظت هونغ كونغ على بريقها الجاذب، بكل ما توفره لقاطنيها من تيسيرات حياة ومتعة، فالاستمتاع في هذه الجزيرة نمط حياة. في وقت النهار، تكاد عيناك لا تلاحق حركة البشر والمرور، فوسائل النقل العام بها؛ سكك حديدية، ترام، أتوبيسات، تاكسيات ومعديات، تنقل ركابا يفوق عددهم عدد سكان هونغ كونغ. إيقاع سريع لحياة تظنها مجنونة، ولكن ما إن يفرغ هؤلاء الناس من أعمالهم وتغيب الشمس حتى ترى صورة أخرى في تلك الجزيرة التي تتيح لأهلها كافة إمكانيات الاستجمام والترفيه، فمساحة الغطاء الأخضر تمثل 70% من إجمالي مساحة هونغ كونغ. العمر المتوقع لسكان هونغ كونغ يحتل المرتبة الثانية في العالم. وتوفر هونغ كونغ الرعاية الصحية المجانية لكل مقيم يحمل بطاقة الهوية لهونغ كونغ، والتعليم الأساسي المجاني لمدة تسع سنوات لكل طفل.

ويعود بريق هونغ هونغ في جانب كبير منه إلى تنوعها الثقافي والبشري، فأنت ترى في شوارعها وجوها من كل لون وجنس، وترى بها أماكن عبادة لكل الملل والنحل، معابد بوذية وكنائس ومساجد ومعابد هندوسية وغيرها. وأبناء هونغ كونغ، على الرغم من انفتاحهم الشديد على الثقافة الغربية مازالوا يحتفظون بكثير من عادات الصينيين القديمة، فهم يختارون لزواجهم يوما مباركا يظنون أنه يجلب السعادة للزوجين الجديدين طول العمر، ويختارون من الأرقام ما يعتقدون أنه فأل خير، ومازالوا على إخلاصهم للأطعمة الكانتونية، التي تنتمي إلى مطبخ قوانغتشو الصيني.

حافظت هونغ كونغ على وضعها كمركز رئيسي للتجارة والأعمال المالية والنقل الجوي والبحري في آسيا والعالم، وظلت واحدة من أكثر المناطق ديناميكية وقدرة تنافسية اقتصادية في العالم. هونغ كونغ هي سادس أكبر سوق للأوراق المالية وخامس أكبر سوق للصرف الأجنبي وتاسع أكبر اقتصاد تجاري في العالم، ومن أكبر موانئ الحاويات في العالم ورابع أكبر مركز لتسجيل السفن الدولية. وحسب ((تقرير الاستثمار العالمي 2013)) للأونكتاد (مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية)، احتلت هونغ كونغ المرتبة الثالثة في العالم من حيث جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وحسب تقرير لمؤسسة "هيريتج" الأمريكية، حافظت هونغ كونغ على وضعها كالاقتصاد الأكثر حرية في العالم لمدة اثنتين وعشرين سنة متواصلة. وحسب تقرير ((مؤشر حرية الإنسان 2016)) لمعهد كاتو الأمريكي، تحتل هونغ كونغ المرتبة الأولى عالميا، متقدمة على  سويسرا وفنلندا والدانمارك ونيوزيلندا.

خلال العشرين عاما الفائتة، اجتازت هونغ كونغ اختبارات صعبة، أبرزها الأزمة المالية الآسيوية التي اندلعت في عام 1997، وتفشي وباء الإلتهاب الرئوي الحاد اللانمطي (سارس) سنة 2003. كما شهدت تحديات سياسية بلغت ذروتها  ما بين أواخر سبتمبر وأوائل أكتوبر  2014، مع خروج الآلاف من أبناء هونغ كونغ واحتلال الشوارع والمراكز الحيوية فيها. كان السبب المعلن للاحتجاجات التي قادتها حركة "احتلوا المركز" هو معارضة قرار أصدرته اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، الذي يضم نواباً يمثلون هونغ كونغ، بوضع آليات تفعيل قرار اللجنة الصادر في عام 2007 بشأن انتخاب الرئيس التنفيذي لهونغ كونغ عن طريق الاقتراع المباشر في عام 2017، مع تشكيل لجنة واسعة التمثيل لاختيار اثنين أو ثلاثة من المتقدمين لهذا المنصب لخوض الانتخابات.

لقد حرصت الحكومة الركزية الصينية على ترك إدارة شؤون هونغ كونغ لأبناء هونغ كونغ، من خلال المجلس التشريعي الذي ينتخبه أبناء المنطقة عن طريق الاقتراع المباشر، والرئيس التنفيذي للمنطقة الذي يتم انتخابه من خلال المجلس التشريعي. ولكن الحكومة المركزية لم تهمل واجباتها تجاه أبناء منطقتها الإدارية الخاصة، ولم تتردد في توجيه النقد لقادة المنطقة عندما يصدرون سياسات ترى بكين أنها ليست في مصلحة أبناء الشعب في هونغ كونغ. وظلت الحكومة المركزية السند الرئيسي لمنطقتها الإدارية الخاصة في مواجهة التحديات، فدعمتها في الأزمة المالية ومكافحة سارس. وعندما طالب متظاهرو 2014 بالسماح لأي شخص حتى وإن كان يناصب العداء للدولة الصينية ويطالب بإسقاطها ويدعو إلى انفصال هونغ كونغ، أن يرشح نفسه ليحكم منطقة تابعة للصين وخاضعة لسيادتها، كان موقف الحكومة الصينية المركزية حازما في رفض هذا المطلب، الذي يناقض سيادة أي دولة على أراضيها. ولكن في نفس الوقت، تركت بكين للسلطات في هونغ كونغ، كونها منطقة تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي، إدارة مسألة الاحتجاجات التي شكل الشباب الصغار القوام الرئيسي لها.

في كلمته باحتفال الذكرى السنوية العشرين لعودة هونغ كونغ، قال الرئيس شي: "إن أبناء هونغ كونغ يتمتعون بحقوق ديمقراطية وحرية أكثر من أي وقت مضى." ليست الحرية فقط هي ما يتمتع به أبناء هونغ كونغ، وإنما الأهم هو ما يضمن استمرار هذه الحرية بفضل دولة قوية تحتضن منطقتهم.