مبادئ الحكم في الصين القديمة

في مذكراته التي نشرها عام 1978، قال الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشــارد نيكسون (1913- 1994): "إن لدى الصين أسرارا لا متناهية، لذلك فإننا لن نعرف كل الشيء عن الصـين، ولكن ربما نستـطيع أن نتعلـم شيئاً منها". ونُقل عن المؤرخ البريطاني المعروف أنولد توينـبي (1889- 1975) قوله: "من أجل حل المشكلات الاجتماعية للقرن الحادي والعشرين، علينا أن نعتمد على تعاليم كونفوشيوس ومنشيوس وبوذية ماهايانا." ومن قبل هذا وذاك، قال العرب "اطلبوا العلم ولو في الصين".

الصين التي قدمت لحضارة العالم، قديما، مخترعاتها الأربعة؛ الورق والطباعة والبوصلة والبارود، وأتاحت بمنتجاتها، حديثا، للبسطاء في العالم التمتع بالحياة بمقابل زهيد، تركت للبشرية ثروة نادرة من المبادئ والقيم التي تضبط علاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقات الناس فيما بينهم.      

"مبادئ الحكم في الصين القديمة"، عنوان لكتاب اسمه الأصلي "تشيونشو تشيياو"، شرفت بترجمته إلى اللغة العربية. وهذا العمل عبارة عن تلخيص موجز لمجموعة كتب وكتابات حول مبادئ الحكم الهامة، تتضمن النصح والسبل والملاحظات التاريخية حول نجاح وفشل الحكم الإمبراطوري للصين. تأخذنا تلك المجموعة من الكتب عبر آلاف السنين من التفكير السياسي الصيني، وتقدم لنا بعضا من مبادئ القيادة القيّمة التي ساعدت الإمبراطور تاي تسونغ من أسرة تانغ، في إقامة عصر تشنقوان، وثبتت صلاحيتها كنقاط مرجعية للقادة المعاصرين. وبالنسبة للعامة من الناس، تمثل تلك المجموعة من الكتب مصدرا عظيما للإلهام لتحسين الذات، وإدارة العلاقات العائلية والإنسانية.

في بداية عصر تشنقوان، أصدر الإمبراطور تاي تسونغ (599- 649) لأسرة تانغ (618- 907)، مرسوما بجمع وترتيب تشيونشو تشيياو (مجموعة الكتب والكتابات حول مبادئ الحكم الهامة). تاي تسونغ واحد من الأباطرة الأكثر تأثيرا في تاريخ الصين، فقد ارتدى الزي العسكري وهو في السادسة عشرة من عمره، وفي سن الثامنة والعشرين، عندما ارتقى العرش، أولى اهتماما خاصا للتعليم ولمبادئ الحكم. سعى إلى تجديد شباب الأمة بعد الصراع الأهلي من خلال استعادة النظام في الحياة، والإنصات إلى أعباء عامة الشعب، وزيادة الرخاء. انضمامه للجيش مبكرا حرمه من الحصول على قدر كاف من التعليم الرسمي، وكان ذلك سببا لندمه كثيرا. تعلم تاي تسونغ من الأخطاء التي ارتكبتها أسرة سوي (581- 618) التي سقطت وأدرك أن تأسيس أسرة إمبراطورية جديدة ليس مهمة يسيرة، وأن الحفاظ على استمرارها مهمة أصعب. ومن ثم، خلال عهده شجع وزراءه على أن يشرحوا له أخطاءه وأن ينتقدوا بصراحة سياساته. أمر تاي تسونغ مستشارين اثنين له، أن يبحثا في كل السجلات التاريخية حول مبادئ الحكم الإمبراطوري من بين الكتب الكلاسيكية القديمة الستة، والمجموعات الأربع للتاريخ والمئات من المدارس، وأن يقتبسوا منها الدروس الأكثر أهمية المتعلقة بتهذيب النفس وإدارة العائلة، والحكم الجيد، وسبل جلب السلام للعالم. وكانت النتيجة مجموعة عنوانها ((تشيونشو تشيياو))، والتي تم اقتباسها بعناية من أربعة عشر ألف كتاب وتسعة وثمانين ألف مخطوطة من الكتابات القديمة، بإجمالي خمسمائة ألف مقطع كتابة، تغطي خمسة وستين صنفا من الكتب، يرجع تاريخها إلى الزمن الممتد من عصر الأباطرة الخمسة القدامى (القرن 26- 2070 ق م) إلى أسرة جين (265- 420)

يشتمل الكتاب على ستة فصول، يتضمن كل فصل منها موضوعات متعددة. وعلي سبيل المثال، فإن الفصل الأول الذي يحمل عنوان "طريق الزعيم"، يتضمن موضوعات ونصائح وإرشادات مثل "بناء الشخصية، احترس من الطمع"، "كن مقتصدا ومجتهدا"، "أحجم عن الغضب"، "قلد الأعمال الطيبة"، "صوب أخطاءك"، "احترم أقاربك"، "التأمل الذاتي"، "احترم الوزراء الحكماء والقادرين"، "احترم مشورة الوزراء"، "ابتعد عن نصيحة المغرضين والحاقدين"، "كن متبصرا وفطينا".

فضلا عن نصح وإرشاد الزعيم إلى طريق بناء دولة قوية وسلطة حكم مستقرة، يوضح الكتاب "طريق الوزير"، فيحث المسؤول الكبير في الدولة على "التمسك بالاستقامة"، "الخدمة بمنتهى الإخلاص"، ويحدد له سبل اختيار المدراء المناسبين.

ويعدد الكتاب فضائل الاحترام عند الصينيين، ومنها احترام الداو (الطاو)، بر الوالدين وصلة الرحم، المروءة والاستقامة، إصلاح الذات والشهامة والتواضع، تكوين الصداقات، وفنون التعلم والمثابرة. ويحدد الكتاب سبل الحكم الجيد على الشخصية وتعيين المسؤولين والعناية بالناس والتعلم من الماضي والثواب والعقاب، والحذر في التصرفات العسكرية. كما يطالب الكتاب الزعيم بالحذر بإجلال واتخاذ الاحتياطات، وقهر الفوضى والحذر من العلامات المقلقة، ووضع الاستجابة الصائبة، ثم كيفية الحفاظ على صحة جيدة.

في الفصل الأول، يحدد الكتاب مبادئ عامة للزعيم وللعامة، وهي أن "التوق الشديد للروعة البصرية يمكن أن يشوه رؤيتنا، ويعيق قدرتنا على رؤية حقيقة الأمور. إن التمتع بالتسلية الموسيقية يمكن أن يشل مسامعنا، ويعيق قدرتنا على تقدير المعاني الأسمى للموسيقى. إن الانغماس المفرط في الطبخ الجيد يمكن أن يجعل حاسة الذوق عندنا متبلدة، ويعيق قدرتنا على تقدير الطعام. إن التمرغ في لذة لعبة القنص يمكن أن يجعلنا متهورين، ونفقد سلامة عقولنا. إن التلهف على الأشياء النادرة والثمينة يمكن أن يجعل جشعنا يكبر، ويدفعنا إلى التصرفات الشريرة." ويقول: "بشكل عام، الشيء الذي يتطور بسرعة ينهار بنفس السرعة. بينما التطور البطئ والثابت من المؤكد أن يسفر عن نتائج إيجابية. النباتات التي تزهر كاملا في الصباح الباكر، قد تذبل وتتساقط في المساء، ولكن أشجار الصنوبر التي تنمو ببطء لا تذبل حتى مع برد الشتاء القارس. ومن ثم، فإن الشخص السامي لا يتعجل النتائج." ويحذر الكتاب من أنه "إذا سيطر على الحاكم هوس النساء والقنص، وشرب الخمر الفاخر، والغناء والرقص، والعيش في قصور فخمة بلوحات جدارية ونقوش ذات تفاصيل معقدة، فإن كل ذلك سيجلب بالتأكيد الخراب لبلاده. ومن ثم، فإن الحاكم الذي يخرب بلاده يكون زعيما متحمسا لتوسيع أرضه، ولكن غير مبال بواجبه في المُضي قدماَ بالخير والمروءة، ويكون مهتما بالسعي وراء مكانة السلطان العظيم، ولكنه لا يلقي بالاً كثيراً لتعزيز الفضائل. إنه بفعل ذلك يتخلى عن كافة الشروط التي تضمن نجاة وبقاء بلاده. وحتما سيقود البلاد إلى طريق الهلاك. ويقول: "لا شيء يمكن أن يضر بالزعيم أكثر من شيوع العلم بحقيقة أنه تواق للإعجاب والشهرة الكاذبة. ما إن يقع الزعيم في شراك الرغبة في اسم منتفخ لنفسه حتى يعرف مسؤولوه ما يريد ويتكيفون مع رغباته.

ويضع الكتاب نصائح موجزة ولكنها بليغة للزعيم، ومنها: "الحاكم الحصيف يضع دائما صالح الشعب في القلب. لا يشن مطلقا ثأراً شخصيا على حساب العدالة العامة"، "إنْ ترتكب خطأ ولا تصوبه فذلك هو الخطأ الحقيقي"، "أخطاء الشخص السامي تماثل كسوف الشمس وخسوف القمر. عندما يقع في الخطأ، يمكن أن يرى كل فرد أخطاءه بوضوح. ولكن، عندما يصوب أخطاءه، سينظر إليه كل فرد باحترام"، "إن التخبط الأكبر الذي يمكن أن نرتكبه هو أن نعرف بوجود إخفاقات ونرفض تصويبها إلى أن تتسبب تلك الإخفاقات في ضرر وتكلفنا حياتنا"، "ثمة شيئان يجد المرء أنه من الصعب إنجازهما في حياته؛ أحدهما هو الرغبة في قبول وتصويب أخطائه، الثاني هو حكمة أن تعرف متى تحدد وتصوب أخطاء الآخرين".

ويحث الكتاب الحاكم على أن يبر أهله، فقد قال كونفوشيوس: "الزعيم الذي يحب والديه لن يحتقر آباء الآخرين، فطالما أنه يحترم والديه لن يحقر آباء الآخرين. إن الزعيم المخلص، بمحبة واحترام، في العناية بوالديه سوف ينقل نفس الدرجة العالية للتصرفات الفاضلة لتعليم وإصلاح شعبه، ويضع معيارا مثاليا يتبعه كل العالم. ذلك هو بر الوالدين لابن السماء (تيان تسي)". ولكن، على الرغم من أن الزعيم قد يحب أقاربه حبا عميقا، عليه أن يحافظ على سلطته عليهم، وإلا سيصبحون متغطرسين ولن يحترموا الآخرين. قد تكون مكانة الأقارب مميزة، ولكن ينبغي محاسبتهم بالقانون من أجل منعهم من التصرف بهمجية من دون حساب أو رقيب.

ويحدد الكتاب أن أساس الفضيلة يقوم على العقل الصالح الورع. عندما يكون عقل الحاكم صالحا ورعا فإن سلوكه يكون صالحا ورعا. وعندما يكون سلوك وزرائه صالحا وورعاً، تكون الحكومة عادلة منصفة. وعندما تكون الحكومة عادلة منصفة، تكون البلاد عادلة منصفة. وعندما تكون البلاد عادلة منصفة، سيكون العالم كله عادلا منصفا. ويؤكد على أنه إذا لم يكن الزعيم فاضلا فإنه يجلب الخطر للأمة والاضطراب لشعبه. الزعيم الفاضل يجلب الاستقرار للأمة والنظام لشعبه. إن مصير الأمة ذاتها يكمن في يد الحاكم الصالح القادر والحكيم، والمستقل عن تقلب الفصول.

عندما يقترف حاكم حكيم خطأ، فإنه يتأمل الخطأ ويصوبه. وعندما يحقق إنجازا، فإنه يعزو الإنجاز إلى الشعب. التأمل الذاتي يساعده أن يظل منضبطا، وعزو الإنجاز إلى الآخرين يجلب بهجة كبيرة وسعادة للشعب. إن جعل الناس يشعرون بالسعادة بينما يبقى هو مراقبا لتصرفاته مبدأ حُكْمٍ ناجح للحاكم الصالح. ويجب على الحكومة الصالحة أن تقضي أولا على أربعة أخطار قبل أن يمكنها تنفيذ السياسات التصحيحية الخمس. الأخطار الأربعة هي: النفاق، لأنه يجعل العادات الاجتماعية مضطربة؛ الرشوة، لأنها تخرب النظام القانوني؛ العربدة، لأنها تتجاوز حدود اللياقة؛ الترف، لأنه يخالف القواعد واللوائح.

أما السياسات التصحيحية الخمس، فهي: إنعاش الزراعة لتوفير الطعام للشعب؛ تمييز الصالح من الطالح وإقامة عادات اجتماعية طيبة؛ إعلان سياسات ثقافية وتعليمية لحماية الجهود التعليمية التي تبذلها الحكومة؛ إقامة مرافق عسكرية للحفاظ على مهابة البلاد؛ توحيد النظام القانوني للبلاد من خلال الصرامة والنزاهة في إنزال الثواب والعقاب.

ويحدد الكتاب الوزراء الحكماء بأنهم لا يتزلفون إلى زعيمهم إلى الحد الذي يُفسد فضائله. كما أنهم لا يتزلفون إلى الجماهير لكسب تأييدهم. وكذلك هم لا يحققون مكاسبهم على حساب المصالح العامة. وهم لا يعيقون فرض القانون خشية من الخصوم الأقوياء. إنهم لديهم الحكمة الكافية لمعرفة المحتالين والأشرار. وهم يعملون وفقا للأخلاق والعدالة، وتمنعهم نزاهتهم من تشكيل زُمَر لتحقيق مصالحهم الشخصية. ويحدد بشكل عام الحكماء بأنهم لا تكون لديهم رغبات أنانية. إنهم يغرسون الفضيلة ولا يكدسون الثروات لأنفسهم. إنهم بنزعاتهم الفاضلة يُعلّمون الجاهل، وبالأموال التي لديهم يعطون المحتاج. إنهم لا يحتفظون بشيء لأنفسهم. ويبدو أنهم كلما أعطوا أكثر للآخرين، حصلوا على أكثر في المقابل. إن قانون الطبيعة مفيد بشكل طبيعي ولا يلحق أي ضرر بأي شيء.

يقول الكتاب إن البشر لديهم ستة أنماط من الانفعالات: البهجة، الغضب، الحزن، السعادة، الولع، والكراهية. إذا خالف الملك الحكيم تلك الانفعالات، تنشأ الفوضى. وإذا استرضى تلك الانفعالات، يتحقق التناغم. الملك الحكيم عندما يرشد شعبه وفقا للمشاعر الإنسانية، فإنه أيضا يفرض اللياقة (السلوكيات الأخلاقية الصحيحة المقبولة اجتماعيا) للسيطرة على تلك المشاعر. وبينما يخضع لرغبات الناس، فإنه يؤسس أيضا مبادئ الاستقامة للسيطرة على تلك الرغبات. عندما تكون مبادئ الاستقامة موجزة وكاملة، وتكون اللياقة منظمة وإنسانية، سوف يتبع الناس ويقبلون بسهولة القانون والنظام.