الصين
التقدم العظيم والتحول الكبير والتغير العميق

زرت خلال مايو 2017 العاصمة الصينية بكين، لتغطية فعاليات وأعمال منتدى "الحزام والطريق"، وأنا أحمل العديد من علامات الاستفهام حول التين الصيني، وكيف أصبح القوة الاقتصادية الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وأنا أحلق في سماء بكين قبل أن تهبط بي الطائرة وتطأ قدماي أرض مطار بكين لأول مرة في حياتى، جال بخاطرى سؤآل أثار حيرتي: ففي الوقت الذي تعاني فيه بعض الدول من الهجمات الإرهابية التي صنعها لها الآخرون حتى تعرقل جهود التنمية بها، ويعانى البعض الآخر من التعثر الاقتصادي وبالتالي الأثر السلبي على كافة الأمور الحياتية للمواطن داخل هذه الدول، نجد انطلاقة صينية لا حدود لها، كان لها الأثر الاقتصادي الذي جعلها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وانعكاس ذلك على جودة معيشة المواطن الصيني، فكيف استطاعت الصين تحقيق ذلك؟ وبنظرة من نافذة الطائرة وشعوري بتلامس عجلاتها بالأرض، أيقنت أنه يجب تأجيل الإجابة على كل الأسئلة الاستفهامية التي تجول بخاطري حتى أرى الواقع.

بمجرد النظرة الأولى لبعض أبناء وبنات الصين العاملين بالمطار، شعرت بالاطمئنان وكأنني بين إخوتي. وجدت أيضاً الجدية في العمل، فالكل يعمل بنشاط وهمة، الابتسامة تعلو الوجوه لتعلن لك أنك على عرش قلوبهم، وبين أحضانهم، وأنك في بلدك، نظام، نظافة، التزام، هذا هو مثلث الرقي للأمم، والتقدم للشعوب، والازدهار للأجيال القادمة.

من أول وهلة بعد خروجي من المطار، وجدت بعض المقدمات لتجيب على بعض الأسئلة التي تدور في ذهني، ليتحول الاستفهام والاستفسار إلى إعجاب ويقين بأن هذا التقدم ليس مصادفة، بل هو إرادة شعب وإدارة رئيس صاحب رؤية واضحة المعالم أراد الخير لبلاده، فأعلن الحرب على التخلف وتردي الأوضاع الاقتصادية بعد أن آمن بقدرات المواطن الصيني الذي هو أساس التنمية الشاملة، وهو أيضا وسيلتها وغايتها وهدفها، فجاءت إصلاحاتها على أرض الواقع وتقبلها المواطن وسعى لتحقيقها بعد أن وجد المناخ المناسب، فنجح، وتفوق، وأبدع، وأصبح يقظاً، محنكاً، واعياً. فبعد أن وضع حضارتة القديمة في المتاحف، وجعلها مزاراً سياحياً، يسعى الآن ليصنع حضارة جديدة وسط عالم متلاطم الأمواج، لايعترف بالضعيف، ليتكامل ويتناغم الحديث والقديم، مترجماً الحالة الصينية الحالية التي أبهرت العالم.

رؤية رئيس

تأكدت لي هذه الإجابات وأدركت أنها رؤية رئيس وإرادة شعب، وأنا أتابع كلمة الرئيس الصيني شي جين بينغ في افتتاح منتدى الحزام والطريق، وهو يسعى لنقل الحالة الصينية للدول التي يمر بها طريق الحرير الذي يريد بعث الروح فيه وإعادة إحيائه، في إطار من السلام والتعاون، والانفتاح والشمول، والتعلم والمنافع المتبادلة، وتكامل استراتيجيات التنمية للدول المعنية عن طريق الاستفادة من نقاط قوتها، مؤكداً أن الصين لا تنوي من خلال سعيها لتحقيق مبادرة الحزام والطريق، تشكيل مجموعة صغيرة تضر بالاستقرار، وهو ما يحاول بعض الخبثاء وأصحاب المصالح الضيقة ترويجه، وإنما تسعى الصين إلى خلق عائلة كبيرة من التعايش المشترك المتناغم، وتحقيق نموذج جديد للتعاون المشترك، وأن المبادرة تهدف إلى بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية تربط آسيا مع أوروبا وأفريقيا على طول طرق الحرير التجارية القديمة وما وراءها، مشيراً إلى أن النمو العالمي يتطلب قوة دافعة جديدة، وأن التنمية يجب أن تكون أكثر شمولا وتوازنا، فيما تحتاج الفجوة بين الأغنياء والفقراء إلى التضييق.

هكذا تنظر الصين إلى العالم، الذي يموج بالمخاطر وتسيطر عليه الأطماع، نظرة سلام وحب، ورُقي واحترام، وتكامل في الرؤى وتناغم في الخطط، والاستراتيجيات وبرامج التنمية حتى ينعم بالرخاء والرفاهية والأمن والأمان وبعيداً عن التدخل في شئون الدول وعاداتها وتقاليدها. وفي إطار ذلك، حصلت المبادرة على دعم من أكثر من مائة دولة ومنظمة دولية من بينها أكثر من أربعين وقعت اتفاقيات تعاون مع الصين.

الصين والتنمية

في الوقت الذي تسعى فيه بعض الدول الكبرى لاستنزاف موارد بعض الدول تحت كل المسميات وبالترغيب والترهيب، نجد الصين تنتهج نهجاً تنموياً راقياً لا يستهدف الدول الآسيوية والأوروبية والأفريقية التي تقع على طريق الحرير فحسب، وإنما أيضا منفتحة على جميع الدول الأخرى. وفي الوقت الذي تقوم فيه بعض الدول بنشر ترساناتها المسلحة تنشر الصين عدة مراكز لبحوث التنمية المالية والاقتصادية للحزام والطريق، ولتسهيل بناء الحزام والطريق،  وللتعاون المصرفي للتنمية المتعددة الأطراف بالتعاون مع بنوك التنمية المتعددة الأطراف، ولبناء القدرات بالتعاون بين صندوق النقد الدولي والصين، إلى جانب قيامها بإنشاء شبكة للتعاون بين المنظمات غير الحكومية في البلدان الواقعة على طول الحزام والطريق، فضلا عن منصات تبادل جديدة بين الشعوب، مثل تحالف التعاون الإخباري أو تحالف التعليم الموسيقي. وفي الوقت الذي تقوم فيه مخابرات وعصابات بعض الدول بتدمير دول وشعوب طمعاً في ثرواتها، نجد الرئيس الصيني يؤكد على وجوب إقامة نمط جديد من العلاقات الدولية يتميز بالتعاون المربح للجانبين، وتأسيس شراكات الحوار القائمة على أسس عدم المواجهة،  والصداقة بدلا من التحالف، وبناء الحزام والطريق كطريق للسلام.

مصر والصين وشراكة استراتيجية

الكل يؤكد في الصين ومصر أن مصر شريك استراتيجي، وهذا ما أكدته الدكتورة سحر نصر وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي المصرية من وجود شراكة عميقة وطويلة مع الصين. وقالت نصر إن هناك التزاماً مصرياً قوياً بتوسيع وتعزيز التعاون والمصالح المشتركة مع جميع الشركاء الدوليين وخاصة الصين، وإنه عبر تاريخ البشرية كانت عصور التنمية والازدهار تتصف بالتوسع في مجال التعاون وتبادل الأفكار والمعرفة. وأضافت: "لهذا، مبادرة الحزام والطريق ستكون حجر الزاوية للنمو والتنمية في العالم. ومصر تعتبر نقطة اتصال رئيسية في هذه المبادرة لموقعها الجغرافي الاستراتيجي وحجم سوقها الضخم، بالإضافة إلى مناخ الأعمال الحالي الذي أصبح ممهدا للاستثمار، حيث تعمل مصر بكامل طاقتها لتهيئة جميع الظروف اللازمة لبيئة تدعم النمو في الاستثمار المحلي والأجنبي، مع الهدف الشامل وهو الإسراع بتوسيع قاعدة التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة."

أضافت الوزيرة أن الحكومة المصرية أطلقت العديد من المشروعات الضخمة التي فتحت الباب لتعزيز مشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية. ومن أبرز تلك المشروعات، تنمية محور قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة، والمثلث الذهبي،  ومشروع استصلاح مليون وخمسمائة ألف فدان، بالاضافة إلى العديد من الاستثمارات والمبادرات في القطاعات والصناعات الرئيسية لضمان وجود البنية الأساسية اللازمة لجذب استثمارات القطاع الخاص. وأشارت سحر نصر إلى أن قانون الاستثمار الجديد بمصر يعد قفزة كبيرة إلى الأمام في جهود تحسين بيئة الأعمال والتنظيم، فهو يقلل البيروقراطية، ويبسط الإجراءات، ويقدم مجموعة من الحوافز والضمانات للمستثمرين.

وأكدت سحر نصر أن الصين من الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لمصر، حيث يتم بذل الجهود لزيادة الاستثمارات الصينية في مصر، وخاصة في مجالات مثل البنية التحتية، والخدمات اللوجستية، والأعمال الزراعية، والسيارات، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات حيث تمتلك مصر إمكانات هائلة غير مستغلة. وأعربت نصر عن تطلع مصر باعتبارها عضوا مؤسسا في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، للاستفادة من نحو 15 مليار دولار أمريكي خصصها البنك على مدى 5 سنوات مقبلة، في دول عملياته ومنها مصر، لمشروعات في قطاعات رئيسية مثل الطاقة والتنمية الحضرية والخدمات اللوجستية. وأكدت أن نجاح مبادرة "طريق الحرير" يحتاج إلى حوكمة جيدة وسياسات سليمة حتى تستفيد جميع الدول المنضمة إلى المبادرة.

الصين حليف استراتيجى لمصر

المهندس طارق قابيل وزير الصناعة والتجارة المصري، أكد أيضا حرص الحكومة المصرية على تشجيع كافة مجالات التعاون التجاري والاستثماري المشترك مع الصين، باعتبارها حليفا استراتيجيا واقتصاديا قويا لمصر. وقال: "مصر تفتح ذراعيها لاستقبال المزيد من الاستثمارات الصينية في مختلف القطاعات الانتاجية والخدمية. والفترة الحالية تشهد ازدهاراً في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر والصين وصل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة. وهناك العديد من اللقاءات الثنائية بين مجتمعي الأعمال بالبلدين والوفود التجارية المتبادلة لدفع وتيرة التعاون الاقتصادي وزيادة معدلات التجارة بين البلدين. إن زيادة التعاون الاقتصادي بين مصر والصين يأتي على رأس ملف التعاون المشترك بين البلدين خاصةً وأن الصين تعد أكبر شريك تجاري لمصر، وفي المقابل تأتي مصر في الترتيب الثالث كأكبر شريك تجاري للصين في القارة الأفريقية. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام الماضى ما يقرب من 11 مليار دولار أمريكي، ويميل الميزان التجاري يبشكل كبير لصالح الجانب الصيني، ولهذا لابد من تضافر الجهود المشتركة لتحقيق التوازن التجاري بين البلدين." وأشار الوزير أن الصين تحتل المرتبة الحادية والعشرين في قائمة الدول الأجنبية المستثمرة في مصر بإجمالي استثمارات تبلغ نحو ستمائة مليون دولار أمريكي في ما يقرب من 1320مشروعاً، مشيراً إلى أن الاستثمارات الصينية في مصر تتركز في عدد كبير من القطاعات الاستثمارية، أهمها القطاع الصناعي والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وإقامة المناطق الاقتصادية والتمويل.

دعوة للشركات الصينية

ودعا قابيل الشركات الصينية لتوجيه استثماراتها للسوق المصرية في مختلف القطاعات الاستثمارية المتاحة، للاستفادة من المزايا الاستثمارية التي تتيحها السوق المصرية والسياسات الجادة التي تتخذها الحكومة المصرية لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتحفيز النمو الاقتصادي بالتعاون مع شركاء التنمية وأهمها الصين. وأوضح الوزير أن الاستثمار في السوق المصرية يتضمن الاستفادة من الطاقات الاستهلاكية الضخمة للسوق المصرية ووفرة الموارد الطبيعية ومدخلات الإنتاج والعمالة المدربة ذات الأسعار التنافسية.

وطالب أحمد الوكيل رئيس الاتحاد العام للغرف التجارية المصرية، بالاستفادة من موقع مصر باعتبارها محورا استراتيجيا ولوجيستيا هاما ونقطة محورية على طول طريق الحرير البحري خاصة في ظل الأهمية التجارية والاستثمارية لمنطقة قناة السويس في دعم وتسهيل حركة التجارة الدولية والربط التجاري بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، الأمر الذي يتواكب مع اهتمام الشركات الصينية بتوجيه استثماراتها على طول الحزام والطريق، مما يسهم في نفاذ المنتجات للأسواق العالمية من خلال اتفاقيات التجارة التفضيلية المُبرمة بين مصر والعديد من دول العالم بما في ذلك اتفاقية التجارة الحرة العربية الكبرى، واتفاقية الكوميسا، واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واتفاقية التجارة الحرة مع دول إفتا واتفاقية الكويز، بما يسهم في نفاذ المنتجات إلى ما يقرب من 6ر1 مليار نسمة حول العالم.

الإجابة اليقينية على الأسئلة الاستفهامية

خلال جولاتى بالعاصمة الصينية بكين، وتعاملى المباشر مع أبناء الشعب الصيني في مختلف المجالات، من زملاء صحفيين وإعلاميين، وفي الشوارع والمطاعم والمزارات السياحية التي قمت بزيارتها والتجول والاستمتاع بها، في المراكز التجارية الضخمة، وفي الفندق ووسائل المواصلات، تأكدت وتيقنت من الإجابة الشافية على كل علامات الاستفهام التي جالت بخاطري وعلى كل تساؤلاتي التي شغلتني وهي: كيف نهض الشعب الصيني بدولته وجعلها في مصاف الدول العظمى وثاني أكبر اقتصاد عالمياً؟ وكانت الإجابة اليقينية أنها بالفعل إدارة رئيس أخلص في حكمه، وآمن بقوة شعبة وذكائه، وإرادة شعب واع، مضياف، جاد، انطلق بكل جرأة وتصميم لينهض ويبني حضارة جديدة، تضاف إلى رصيد حضارتة القديمة، انطلاقة أستطيع أن أقول إن أحدا لن يوقفها مهما كان، ولن تعرقلها أي شوائب. إنها "الحالة الصينية’"، التي يجب أن ندرسها وننظر إليها نظرة فاحصة واعية لنعرف كيف حققت الصين المعجزة الاقتصادية في وقت وجيز، مما جعلها تدخل في منافسة مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية. أتمنى، بل يجب، أن يعرف المصريون كيف يعمل الإنسان الصيني، وكيف يتعلم، وكيف يُضحي، وكيف يبني وكيف يتفاءل وكيف يعمل من أجل تحقيق هدفه. لقد أدركت لماذا عزمت الصين على تكامل وتناغم وتناسق الخطط والرؤى الاستثمارية والتنموية بين دول الحزام والطريق، والاستفادة من الخبرات التراكمية للدول لصالح الشعوب وخاصة بعد اكتمال بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية تربط آسيا مع أوروبا وأفريقيا على طول طرق الحرير التجارية القديمة وما وراءها، في ظل تحديات قد تكون مفتعلة لعرقلة التنفيذ. إنها رؤية وإرادة رئيس يعمل على نشر السلام عن طريق التنمية.

--

علي عبد الغني، نائب رئيس تحرير جريدة ((الجمهورية)) المصرية