كيف ينشأ الصينيون؟

عندما تؤمن الشعوب بأن غدها يجب أن يختلف عن أمسها، تنفتح أمامها دروب المستقبل وآفاقه الممتدة، لتخطو إلى الأمام بخطوات أشبه بقفزات واسعة سريعة، حتى تُلفت أنظار العالم إليها مجدداً، بعد أن اندثرت طويلاً في ظلام التأخر والجهل.

حينما تحفظ الحكومات لشعوبها أدنى حقوقها في التعليم والصحة وغيرهما، وعندما تقوم المجتمعات على مفاهيم جديدة مرتكزة على العلم وتطوير البشر وتنميتهم ليصبحوا أشخاصا صالحين لأوطانهم، وتتخلص من الأفكار القاتمة التي لطالما خيمت على المجتمع لفترات طويلة،  تُفتح صفحة جديدة من الزمن ليدون عليها تاريخ مشرق ومختلف.

في أحد المتاحف الصينية، وبينما كانت مرشدة من داخل المتحف تصحبني وتشرح لي حول التاريخ، وما يحتويه المتحف من مقتنيات نادرة، وجدت نفسي محاطة بعدد من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثماني وعشر سنوات، ينصتون  بشغف إلى ماتقوله المرشدة، بل ويشاركونها  الشرح والتوضيح، ويسألونها أسئلة مختلفة، تدل على مدى شغفهم  بالتاريخ.

هكذا يكون الحال في الصين، المتاحف والأماكن الأثرية تعد من الأماكن التي يذهب إليها الصينيون للتنزه، ليس للجلوس في قاعتها المكيفة أو حدائقها الشاسعة، ولكن للتعرف على تاريخ بلادهم وفنونها. تكتظ المتاحف بالمواطنين، وخاصة الشباب والأطفال، في العطلات الرسمية،  فتراهم متناثرين في قاعات المتاحف المختلفة، يتأملون مقتنياتها بإعجاب  شديد، كما تجدهم أيضا في الأماكن الأثرية كسور الصين العظيم، وساحة تيانآنمن. أتوا من جيمع  أنحاء الصين، ليلتقطوا صوراً تذكارية.

يقدس الصينيون الوقت، وقد أذهلتني خطواتهم السريعة في الشوارع والطرقات، ففي بداية الأمر ظننت أنه موعد ذهابهم إلى أشغالهم، ولكن سرعان ما استوعبت أن هذا نابع من تقديرهم لقيمة الوقت، فليس لديهم وقت للتلكؤ أو تضييع دقائق قد يستفيدون منها.

لن أنسى أول مرة ذهبت فيها إلى المكتبة لشراء بعض الكتب، رأيت الصينيين يجلسون على الأرض ويسندون ظهورهم إلى الحائط. كان الصمت مخيما على هذا المكان، وكأنهم منومون مغناطيسيا. علمت بعد ذلك أن المكتبات الصينية تفتح أبوابها للمواطنين لشراء الكتب وتصفحها أو لقراءتها. لا يشترط أن يأتى المواطن الصيني لشراء كتاب، بل يمكن أن يأتي لقراءته، أو تصفحه قبل شرائه، فله مطلق الحرية في اختيار الكتب التي تجذبه، بشرط الحفاظ على سلامة الكتاب، فضلا عن الالتزام بالمواعيد المحددة للمكتبة. تشجع المكتبات الصينية ومتاجر الكتب في الصين  الناس على القراءة بطرق شتى. أتذكر أنني اشتريت عددا من الكتب، فمنحوني بطاقة وطلبوا مني الصعود إلى طابق في المكتبة، لأسجل اسمي، ومن ثم يكون لي مطلق الحرية في اختيار أي كتاب في حدود مبلغ معين. وفي مرة  أخرى ذهبت إلى المكتبة في عطلة نهاية الأسبوع، وبعد اختيار الكتب التي قررت شراءها ، وقفت في نهاية طابور طويل معظمه من الأطفال لدفع الحساب.

ينشأ الصينيون منذ نعومة أظفارهم على حب القراءة والاطلاع، والسعي وراء المعرفة. أعرف الكثير من الصينيين الذين يذهبون في عطلة نهاية كل أسبوع لشراء كتاب أو رواية يستمتعون بقرائتها، ولن أنسى أبداً، أنني  عندما كنت في أحد المتاحف، كانت تقف إلى جانبي عائلة صينية، مكونه من أب وأم وطفل يبلغ ست سنوات على أقصى تقدير، وكان  يتفاوض مع والديه ليشتريا له هدية؛ ولكن لم تكن هذه الهدية لعبة أو حلوى، بل كانت موسوعة مبسطة للأطفال.

الصينيون مُولعون بالسفر، سواء خارج الصين أو داخلها. رأيت هذا المشهد يتكرر في مطارات الصين المختلفة؛ مجموعة من الفتيان والفتيات يحملون حقائبهم ويستعدون للسفر إلى مكان ما.  ينشأ الصينيون على الاعتماد على الذات. رأيت في مطار بكين أبا وأما يطلبان من طفلهما أن يتحدث إلى موظف الجوازات، وكـأنهما يدربانه على الاعتماد على نفسه وحسن التصرف. ينشأ الصينيون  على أنهم مواطنون يتعين عليهم أن يكونوا مؤثرين في وطنهم، ويضيفون شيئا مختلفا له، فمعظم الصينيين يتلقون تعليما جيداً، ويتعاملون معه على أنه استثمار. يذهبون للدراسة في جامعات خارج المدن التي يعيشون فيها، بل ويعيشون لفترة كبيرة بعيداً عن أهلهم، معتمدين على أنفسهم. ومن هنا تبدأ رحلتهم الحقيقية في بحر الحياة. وبعد تخرجهم في الجامعة، يعملون أيضا في مدن أخرى بعيدة عن تلك التي درسوا فيها.

الحياة في الصين ليست سهلة، التنافس فيها شديد للغاية، ولا يوجد مكان لأي شخص غير مجتهد، فينشأ الأطفال على الدراسة بجد واجتهاد، ويألف الشباب الصيني  تحدي صعوبات الحياة، ومواجهتها بما فيها من مشكلات وعقبات. يتعود شباب الصين على أنه  كيان مستقل في التفكير، له حرية اتخاذ قراره فيما يتعلق بحياته الشخصية.

يدرك الصينيون، وخاصة الشباب منهم، أن التسلح بالعلم وتنمية القدرات والمهارات السبيل الوحيد لأن يصبحوا ذوي شأن في المجتمع، بل ويستوعبون جيدا أن المجتمع لن يقبل الأشخاص المتخاذلين، الغير مستعدين للتفاني في العمل والإخلاص فيه.

ينشأ الصينيون على النظام، فعندما زرت إحدى المدارس الصيفية الصينية، وهي مدرسة داخلية يتلقى فيها الأطفال التعليم الصيني التقليدي  إلى جوار أنشطة أخرى مختلفة، رأيت  حجراتهم، كيف كانت منظمة، فكل شخص مسؤول عن ترتيب سريره، ولكل شخص ركن خاص به يضع فيه كتبه ومتعلقاته الشخصية. وهناك، يوجه المعلمون الطلاب الصغار ويعلمونهم تحمل المسؤولية، وكيفية تقدير الوقت وتنظيمه، بين الدراسة والرياضة والأنشطة الترفيهية المتنوعة.

ينشأ الصينيون على إجادة فعل  كل شيء حتى لو كان صغيراً، وأحيانًا يبدو لي أنه قد طُمس لديهم مفهوم الإخفاق. رأيت بنفسي ذلك، في قدراتهم على تنظيم المؤتمرات والبرامج التي يشارك فيها عدد كبير من الضيوف القادمين من كل بلاد العالم، فهناك كل شيء يسير وفقا لجدول زمني منظم ودقيق، وبالتالي تخرج النتيجة النهائية بأفضل صورة وعلى أكمل وجه.

بالنسبة للغة الصينية، هي لا تنحصر في لغة أو ثقافة، ولكنها تجربة مؤثرة ومتفردة لا أشبع أبدا من اكتشاف المزيد عنها. أعترف أن هذه التجربة تبهرني إلى أبعد مدى.