طريق التنين نحو الابتكار
يصف البعض الصين بأنها "آلة طباعة"، وهم حين يطلقون عليها هذا اللقب، يقصدون الإشارة إلى قدراتها الصناعية الضخمة، التي اتسمت منذ ثمانينات القرن الماضي بأنها ذات طابع "تقليدي" لمنتجات من دول أخرى. إنهم حين يقولون ذلك يتحدثون دون قصد عن أحد أهم الملفات التي تقابل التنين الصيني حاليا، ألا وهو الطريق الطويل من "التقليد" نحو "الابتكار".
صندوق الأفكار
أي اختراع أو منتج جديد عرفته البشرية، كان في الأصل فكرة، ومنبت الفكرة هو عقل "الإنسان". هنا تحديدا أولى خطوات الصين استنادا إلى قوتها البشرية الهائلة، التي بلغت أكثر من مليار وثلاثمائة مليون. هذه القوة البشرية الضخمة تنعكس على محورين في غاية الأهمية؛ الأول: أن الصين هي أكثر دولة من حيث عدد الباحثين حول العالم. الثاني: أن عدد الأوراق البحثية المنشورة بواسطة المؤسسات البحثية الصينية هي الأعلى عالميا. هنا بالضبط تجد الصين كنزها في صندوق الأفكار الذي يجب أن يفتح، كي تتصدر الصين العالم "كيفا" بعد أن تزعمته "كما".
الصين التي قدمت للعالم من قبل اثنين من أهم الاختراعات في تاريخ البشرية، "البوصلة وآلة الطباعة"، ولولاهما لما عرف العالم ما وصل إليه اليوم من تطور، كانت هي أيضا أول من حلم بالطيران.
العقل أقوى من الماكينات
هناك في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، منطقة تحمل اسم "وادي السليكون". لكن هذا المكان ليس متفردا في الاسم وحسب، فهو أيضا أحد أكثر الأماكن إبهارا على وجه المعمورة. معظم ما نراه اليوم من ابتكارات تكنولوجية جاءت من هذا المكان. وعلى الرغم من أن الكثير من عمليات التصنيع والإنتاج وتحويلها إلى واقع ملموس يتم داخل الصين، تذهب معظم الأرباح إلى الشركات في "وادي السليكون" الأمريكي، حيث العقول التي ابتكرت. هنا العقل أكثر قوة من الماكينات.
لكن لدى الصين الكثير من الخطط في هذا الصدد، بدأ تنفيذ العديد منها فعليا، آخذة في عين الاعتبار الحقيقة القائلة إنه وإن كان لابد عليها أن تبحث عن كنزها "صندوق الأفكار" وتجده، فلا بد أن تدرك أن الكثير منه في بطن شركات ذلك الوادي. تقرأ الصين أسماء أبنائها بين أهم العلماء هناك، تتعرف على ملامحهم جيدا، وتكتشف أن الصندوق الأمريكي فيه الكثير من ملامحها.
الصين، الهند، باكستان، والفلبين، أربعة دول فقط يمثل أبناؤها أكثر من نصف العاملين في مجال التكنولوجيا المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية. هجرة هذه العقول كانت أساسا لأن الأرض التي تغرس فيها بنات أفكارهم كانت غير مستصلحة في بلادهم. وهو أمر يتعارض مع طموح الجيل الجديد من القادة في الحزب الشيوعي الحاكم في الصين وكذلك مع خطة الصين لتعديل نمط اقتصادها ليصبح قائما بشكل أكبر على الابتكار.
لذا، كان لابد من وقف "استنزاف العقول" وسلب محتويات الصندوق، باستصلاح أرض صالحة لزراعة الأفكار داخل الصين، فتكون الآلات صينية والعقول من بكين وشانغهاي وجينشي وشيانغشان وهانغتشو، بل وحتى من التبت وكل مدينة وقرية صينية. لقد كان الرئيس الصيني واضحا في هذا الأمر العام الماضي في أكثر من مناسبة، بأنه ينبغي لبلاده التوقف عن الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية في الكثير من الاستخدامات والصناعات المختلفة. ولعل الإنفاق المتزايد على البحث العلمي في البلاد هو أهم القرارات في هذا الصدد، إذ يتوقع له أن يزيد على الإنفاق الأوروبي مجتمعا في عام 2018، ثم يتخطى نظيره الأمريكي ليصبح الأول عالميا في عام 2022.
وادي السليكون الصيني
على الضفة الشرقية لنهر اللؤلؤ، وتحديدا في شنتشن، وهي من أكثر الأماكن إثارة للشغف في الصين، بل على سطح الكوكب كله، تجد في هذا المكان مثالا مصغرا لما حققته الصين. قبل ثلاثين عاما فقط، كان الناس في تلك المنطقة يعيشون على صيد الأسماك. اليوم، أصبحت المدينة أرضا صالحة لغرس الأفكار؛ الأرض التي تفتح فيها الصين صندوق أفكارها. من ثلاثين ألف صياد ومزارع من الصينيين البسطاء، كسرت المدينة الآن حاجز الاثني عشر مليون نسمة، من المفكرين والمبدعين والعاملين بمختلف مجالات التكنولوجيا.
الكثير من الشركات الصينية والأجنبية تعمل هنا في الصناعات العالية الدقة. مجرد فكرة تدور في ذهن أحد العباقرة، فما عليه أن يصنع نموذجا لها، فتتسابق الشركات على نيل موافقة المبتكر بأن تحصل على حق إنتاجها. عند هذه المرحلة يجد العبقري نفسه أمام فرصة العمل بشكل دائم في إحدى الشركات، أو مئات الآلاف من الدولارات في حسابه بالبنك. بالتالي، لا حاجة للسفر إلى الخارج. هنا "وادي السليكون" الصيني، العلامة البارزة في طريق الصين نحو الابتكار.
الحاسبات، أجهزة الهاتف الذكية، والعديد من الابتكارات الأخرى خرجت إلى العالم من هنا، ولعل من أبرزها وأحدثها ذلك الذي يسمي FORPHEUS ، أول روبوت تستطيع أن تخوض معه مباراة في كرة الطاولة.
لكن مهما كنت بارعا فكن حذرا، فالروبوت FORPHEUS من إنتاج شركة Omron Robotics Technology ليس ندا سهلا، خصوصا بعد أن دخل موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية كأول روبوت تنس طاولة بذكاء تكنولوجي فريد من نوعه. أيضا، لا تقلق فحتى لو كنت مبتدئا فلديه القدرة على أن يكون معلمك في تلك اللعبة الشيقة. وتصف الموسوعة العالمية الروبوت بأنه مثير للإعجاب، خصوصا الكاميرا المزود بها، والتي تستطيع مراقبة موقع الكرة بمعدل 80 مرة في الثانية الواحدة. أما الشيء الذي يمثل نواة فكرة الروبوت فيتمثل في التفاعل بين البشر والآلة، فالروبوت مزود بشاشة تفاعلية تنقل للإنسان التعليمات لإجادة اللعبة، بل وحتى الرسائل التحفيزية. إننا قد نكون أمام بداية عصر جديد، عصر نتعلم فيه المزيد من المهارات من الآلة، فلسنا أمام مجرد لعبة.
لا يزال هناك المزيد من الإبهار. فمع بداية ظهور الهواتف الذكية كان الأمر مقتصرا على المنافسة بين الشركات من الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية. ومجددا، تظهر قيمة "وادي السليكون" الصيني، فبعد سنوات قليلة للغاية تصبح ثلاث من بين أكبر خمس شركات تعمل في هذه الصناعة شركات صينية، ألا وهي: "ZTE، هواوي، لينوفو". لم يكن بمقدور الصناعة الصينية الوصول إلى هذه المرحلة وفي تلك المدة الزمنية القصيرة بدون "وادي السليكون"، في صناعة أساسها الابتكار، صناعة بها هاتف جديد كل شهر تقريبا.
التفكير، الإبداع، والابتكار، ثلاث كلمات وراء ذلك النجاح. شركة ZTE، على سبيل المثال، هي الشركة الأكثر ابتكارا في العالم على أساس إبداعات براءات الاختراع الدولية بين عامي 2011 و2014، بإجمالي نحو خمسين ألف براءة اختراع.
وفقا لمجلة فوربس الأمريكية، يتم صنع 90% من الإلكترونيات في العالم هنا في شنتشن. وإذا أردت أن تصبح ثريا، فهي أكثر مكان ينتج المليارديرات في الصين، وإذا كنت مستثمرا وأردت أن تستثمر في صناعة ابتكار التكنولوجيا، فهنا أفضل مكان يمكنك فعل ذلك فيه.
هل هذا مقبول؟
بجانب كل هذا، حققت الصين مؤخرا اختراقات كبيرة في صناعة السفن، الغواصات، حتى حاملات الطائرات أصبحت تصنع محليا. في الرابع من مايو 2017، حلقت C919، أول طائرة ركاب تجارية صينية الصنع لأول مرة، في صناعة ظلت حكرا على الدول الكبرى. كل هذا حققته الصين، الدولة النامية. ببساطة، إذا كانت الصين قد وصلت أثناء مرحلة الإنتاج الصناعي الكثيف القائم على التقليد في الكثير من جوانبه في أن تصبح ثاني اقتصاد على مستوى العالم، واشترت سندات من دول غربية جعلتها دائنة لها بمبالغ طائلة، فماذا سيحقق الصينيون لو نجحوا في الابتكار وتصنيع بنات أفكارهم. ولحديث أكثر موضوعية فإننا حين نطرح هذا السؤال لا نقصد الصين فحسب، بل كل الدول النامية والفقيرة. هل سيسمح الغرب بذلك؟ هل هذا مقبول بالنسبة للحكومات والشركات العالمية؟
الحقيقة أن الغرب منزعج وبشدة من الخطوات التي يخطوها التنين الصيني على طريق الابتكار. لقد كانت الصين نموذجا ومثالا ملهما للعديد من الدول التي استلهمت تجربتها، بل ومدت لها بكين يد العون والمساعدة ماديا وعلميا وتدريبا لكوادرها. بالتالي، فإن قيادة الصين لمحاولة الشعوب النامية التطور أمر مزعج للغاية بالنسبة للشركات الغربية العملاقة التي اعتادت سلب ثروات الشعوب، بل وإشعال الحروب من أجل ذلك.
يقول البروفيسور تارون خانا، وهو أستاذ كرسي في كلية هارفارد للأعمال في كتابه "بلايين من المستثمرين: كيف تعيد الصين والهند تشكيل المستقبل": "لقد أصبحت شركة هواوي الآن شركة التقنية العالية القائدة في الصين، وهي شوكة في جنب شركة الاتصالات العملاقة الأمريكية سيسكو سيستمز." كما عبرت مجلة الإيكونوميست عن ذلك بالقول: "إن صعود الشركات المحلية مثل هواوي كارثة بالنسبة للشركات المتعددة الجنسيات." هذا النص للبروفيسور تارون لا يحمل أي نوع من المبالغة، وخصوصا إذا علمنا أن هواوي، التي تأسست عام 1988 كمصنع صغير لمحولات الهواتف، أصبحت إحدى أكبر شركات صناعة الهواتف، بل وتجهيزات الاتصالات التي تستخدمها شركات الهواتف وشركات الاتصالات في جميع أنحاء العالم.
لن تتوقف القافلة الصينية عن السير، ولن تتوقف الأرض عن زراعة الأفكار، وسنجد التشكيك فيها في كل حين، لكننا قد نستيقظ ذات صباح لنجد أن الصين ومعها أصدقاءها من الدول النامية قد تمكنوا من التفكير والابتكار والتصنيع، وكسروا القيود التي فرضت عليهم لعقود طويلة. قد يكون الطريق طويلا، لكن الدولة التي قررت بناء طريق بطول طريق الحرير لن تكل أو تمل أن تسير على طريق الابتكار.