الصين ومقومات النهضة

انطلقت الصين عندما توافرت لها مقومات خمسة غيرتها من دولة متخلفة وضعيفة وتعاني من المجاعات، إلى دولة تمثل الاقتصاد الثاني في العالم. المقومات الرئيسة للانطلاق الصيني هي:

الأول: وجود إيديولوجية واضحة تقوم على المواطنة والمساواة التامة بين الأفراد، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو أي اعتبارات أخرى سوى الولاء للوطن والإيمان بالفكر الجديد؛ الثاني: وجود زعيم قوي يستند لسلطة شعبية، وفكر متطور يرفض الجمود بما في ذلك الفلسفة الماركسية الأم، وبما في ذلك الفكر والممارسة السوفيتية السابقة، ويسعى لتطوير فكر جديد وممارسة جديدة تعتمد على خصائص الصين وتراثها وحضارتها وتطلعاتها؛ الثالث: الكوادر الحزبية التي تؤمن بالعمل فقط، ولا تسعى لمغانم شخصية، أو مناصب أو طموحات، ويتم التخلص من الكوادر الفاسدة بصورة سريعة وفورية، ومعاقبة كل من يرتكب فساداً أو انحرافاً بغض النظر عن مكانته الحزبية؛ الرابع: بناء قوة عسكرية تعتمد على العلوم الحديثة والتكنولوجيا، ولها دورها في النظام السياسي، ولها امتيازاتها، ولا يسمح لأحد بالمساس بها باعتبارها عُدة الوطن وقوته الضاربة ضد أعدائه؛ الخامس: مبدأ سيادة القانون الذي يطبق على الجميع بلا استثناء، وعلى الكوادر الحزبية قبل غيرها، لأنهم يجب أن يكونوا قدوة، ووجود شرطة قوية تقوم بتنفيذه.

وهكذا، استطاعت الصين أن تنطلق وتصبح قوة يحسب لها حساب في موازين العالم المعاصر خلال عشر سنوات فقط من 1978إلى 1988، ثم دعمت قوتها في السنوات التالية بتطبيق مبدأ تناوب السلطة، فقد تخلى زعيمها دنغ شياو بينغ عن السلطة وهو في قمة نجاحه، ليعطي المثل والقدوة. السؤال هل تستطيع الصين أن تساعد الدول النامية في تحقيق النهضة؟ وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعرف متطلبات التعاون الصيني، وهي: أولا، المصلحة المشتركة المتبادلة؛ الثاني، أن تكون هناك بنية قانونية واضحة وشفافة تحكم عملية الاستثمار، وأداة فعالة تطبق القانون، واستقرار سياسي وأمني؛ والثالث، أن تكون هناك دراسات جدوى واضحة ودقيقة للمشروعات التي تضع فيها أموالها. والسؤال هو: هل نحن جادون في الإصلاح؟ وهل الدول النامية على استعداد لتوفير متطلبات النهضة من احترام القانون وتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، ومن ضبط الإدارة، ومواجهة الفساد بجدية، ومن إعداد دراسات الجدوى؟

الحزب الشيوعي الصيني كقوة دافعة للتغيير وتحقيق الإنجازات

انطلق الحزب الشيوعي الصيني في الأول من يوليو سنة 1921 وبذلك يكون مضى على انطلاقه ستة وتسعون عاما، مر خلالها بثلاث مراحل رئيسية:

الأولى: مرحلة النضال الوطني والتي امتدت من 1921حتى 1978، بما في ذلك فترة حكم ماو تسي تونغ؛ الثانية: مرحلة الإصلاح والانفتاح، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة بناء الدولة وتنميتها، واستمرت حتى نهاية القرن العشرين، فتحولت الصين الثورية المناضلة إلى الصين الدولة التي تبحث عن الاستقرار والأمن والتنمية، وتحول الحزب الشيوعي من أداة نضالية ضد الأعداء أمثال الاحتلال الياباني والغربي والإقطاع والاستغلال والضعف إلى أداة للحفاظ على الأمن والاستقرار والتنمية، لتصبح الصين دولة قوية؛ الثالثة: مرحلة نقل الصين إلى دولة حديثة ذات دور إقليمي يتطور إلى دورعالمي، وهذه المرحلة بدأت منذ الثاني عشر من نوفمبر عام  2012 بانعقاد المؤتمر العام الثامن عشر للحزب وانتخاب شي جين بينغ أمينا عاما للحزب وانتخاب أعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للجنة المركزبة لدورة الحزب الشيوعي الثامنة عشرة.

أطلق الحزب بقيادة شي جين بينغ ثلاث خطط هامة في التاسع عشر من نوفمبر 2012، تمثلت في الآتي:

الخطة الأولى، ترتبط بالحلم الصيني لبناء دولة قوية ومتقدمة، وحضارة قوية ذات مكانة في إطار بيئة إحياء جديد للأمة الصينية. يسعي هذا الإحياء لتحقيق الحلم الصيني (خطاب الرئيس شي في التاسع عشر من نوفمبر 2012 حول بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، واستعادة الروح الوطنية مع جعل حب الوطن مركزها، بما يتماشى مع روح العصر بالإصلاح والإبداع)، وهذا ما عبر عنه الرئيس شي في خطابه في الدورة الأولى للمجلس الوطني الثاني عشر لنواب الشعب الصيني، المنعقدة في السابع عشر من مارس 2013 حيث انتخاب شي جين بينغ رئيسا للدولة وانتخب لي كه تشيانغ رئيسا لمجلس الدولة الصيني.

أكد شي جين بينغ أن الحزب الشيوعي هو القوة المحورية لقيادة الشعب الصيني وجمع صفوفه من جميع القوميات. ويلاحظ على خطاب الرئيس الصيني شي الاستفادة من فكر ماو تسي تونغ وتجنب أخطائه، مع تحديث وتطوير هذا الفكر بما يعبر عن ثقافة الصين وحضارتها العريقة، والسعي لاستعادة مكانة الصين كقوة عالمية كبرى. الخطة الثانية، هي تركيز الحزب الشيوعي الصيني في هذه المرحلة على العمل من أجل استعادة الصين لمكانتها العالمية كقوة رئيسية، وهي مرحلة يركز خلالها الحزب على ثلاثة مبادئ؛ هي: السعي للحصول على القوة بشتى معانيها وفي مقدمتها القوة العسكرية؛ إحياء التراث الثقافي الصيني وخاصة فكر وفلسفة كونفوشيوس، وعلى وجه الخصوص القيم الفلسفية وفي مقدمتها مفهوم التناغم الداخلي والتناغم في العلاقات الدولية مع السعي لاستعادة الأراضي الصينية التاريخية، والحرص على التعاون مع البلدان النامية والبلدان المتقدمة على حد سواء، مع السعي لتجنب الصراعات والنزاعات كلما أمكن.

كيف نجح الحزب الشيوعي الصيني في البقاء وقيادة الثورة ثم قيادة الدولة على مدى السنوات الماضية، ويبدو أنه سيظل لفترة طويلة قادمة؟ أسباب النجاح تكمن في العوامل التالية:

الأول: المزاوجة بين  الفكر الشيوعي الماركسي والفكر والحضارة الصينية؛ الثاني: التغيير في عقيدة الحزب الشيوعي ودستوره بعد تسلم دنغ شياو بنينغ السلطة، وسعيه للمواءمة بين مبادئ الحزب وبين العصر الذي يعيش فيه، وأيضا روح وثقافة وتراث الصين القديمة؛ الثالث: المبادئ والتعديلات الأخرى التي أقرها الحزب باقتراحات من الرؤساء السابقين، مثل أفكار جيانغ تسه مين في إدخال الرأسمالية الوطنية المنتجة والمثقفين ضمن فئات الشعب الصيني الذين لهم الحق في الانضمام للحزب والمساهمة في بناء الوطن، وفكر هو جين تاو حول التناغم الدولي، وهذا يتماشى مع التراث الكونفوشي خاصة والصيني عامة.

أفكار شي جين بينغ حول إحياء الحضارة الصينية

تتجسد هذه الأفكار في مبادرة الرئيس شي بإحياء طريق الحرير البري وطريق الحرير البحري، مع التنمية في البنية الأساسية وهذا يتماشى مع طريق الحرير القديم باعتباره محور ثلاثة تطورات أفادت الصين؛ وهي التجارة والثقافة والأديان. وعبر طريق الحرير تاجرت الصين مع شتى دول العالم القديم، واستقبلت ثقافات الغرب والإسلام واعتنقت بعض شعوبها البوذية والإسلام والمسيحية واليهودية مع اعتقادها الطاوية. هذا يجعل الفكر الصيني فكرا جامعا وليس فكرا إقصائيا فأي عقيدة لا تتعارض مع الأخرى. المحور والمحك، كما عبر عن ذلك الرئيس شي، هو الوطنية الصينية وحب الوطن، أما ماعدا ذلك فلا ضرر منه.

التطبيق الصيني للممارسات الديمقراطية الجوهرية 

يتمثل ذلك في ما يلي: أولا، حق الشعب في اختيار المسؤول السياسي والإداري الكبير، ويتم ذلك في الصين بالتصويت في المجلس الوطني لنواب  للشعب الصيني؛ ثانيا، ألا يظل المسؤول في السلطة أكثر من فترتين مهما كان منصبه ومهما كانت إنجازاته؛ ثالثا، ألا يظل أي مسؤول في منصبه بعد سن السبعين بما في ذلك رئيس الحزب ورئيس الدولة ورئيس مجلس الدولة، ومن ثم تم إلغاء أبدية بقاء كبار المسؤولين في السلطة حتى الوفاة؛ رابعا، إتاحة الفرصة للمواطن العادي في المجتمع للتمتع بضرورات الحياة، سواء الحق في العمل بأجر مناسب أو الحق في المسكن أو العلاج مع دفع جزء من التكاليف، وفي نفس الوقت السماح للقطاع الخاص بالمساهمة في النشاط الاقتصادي لأن هدف الحزب الشيوعي هو تقدم المجتمع وليس إفقار الشعب أو أن يعيش على الكفاف أوعيشة الفقراء والبائسين.

هذا التقدم التنموي وإتاحة نتائجه للشعب هو ما أطلقت عليه في إحدى دراساتي عن الصين  مصطلح" الديمقراطية بالإنجاز" للتفرقة بينها وبين الديمقراطية الغربية وهي ديمقراطية التصويت العام، بينما في أغنى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية تجد نسبة الفقراء حوالي 20% والأغنياء هم من أصحاب المليارات. أما ديمقراطية الإنجاز هو ما يجب أن تهتم به الدول النامية لرفع مستوى شعوبها وليس للحصول على أصواتهم.

خلاصات تجربة الحزب الشيوعي الصيني عبر السنين

الأولى: أن الحزب الشيوعي أخذ بمبدأ من المبادئ الأزلية للبشرية وهو مبدأ التغيير المستمر في الفلسفات والأيديولوجيات والأشخاص والسياسات وترك مبدأ عبادة الفرد أو الفئة أو ما شابه ذلك. كما ترك مبدأ ديمومة المناصب؛ الثانية: أن الرئيس الصيني شي جين بينغ أعطى أولوية كبرى لمحاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين في الدولة، وفي مقدمتهم بعض قيادات الحزب الشيوعي الصيني الذين استمروا المزايا والمغانم نتيجة التنمية السريعة والتقدم الاقتصادي في الصين ونسوا مبادئ الشفافية والتقشف وعدم استغلال النفوذ أو نحو ذلك؛ الثالثة: إيمان القيادة الصينية الحالية للحزب والدولة بأنه يجب على الصين أن تتحول وتستوعب مفاهيم العالم الجديد مثل العولمة والاندماج في المجتمع العالمي دون أن تتجاهل الخصائص الحضارية للصين.

تساؤلات مشروعة

التساؤل الأول: هل سيؤدي هذا التغير إلى تحول الصين لقوة ساعية للتغيير واسترجاع كل ما كان لها في القديم، بعد أن كانت قوة استقرار سياسي منذ انطلاقة الإصلاح والانفتاح والتركيز على الأمن الإقليمي؟ وهل تسعى الصين الجديدة لاستعادة الروح الثورية لماو تسي تونغ؟ التساؤل الثاني: هل الاندماج في العالم يمكن أن يحول الصين إلى قوة عالمية تمتلك أساطيل عبر البحار والمحيطات وتكون لها قواعد عسكرية في العديد من بقاع العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية؟ أم  أن الصين سوف تركز على أراضيها وإقليمها وتقدم شعبها ورفاهيته والتعاون السلمي مع دول العالم؟ التساؤل الثالث: هل ستتحول الصين من الدولة الوطنية إلى الدولة العالمية، مع ما يترتب على ذلك من أعباء ومسؤوليات ومكاسب؟ أم ستظل الصين في القرن الحادي والعشرين تعتمد مبدأ الحضارة الصينية القديمة وهو الدولة الوطنية وترتكز على طريق الحرير بشقيه، ومن ثم تحافظ على تراثها وثقافتها ويمكن أن يستمر الحزب الشيوعي الصيني نتيجة لذلك طويلا؟

تقدم الصين نموذجا دون أن تدعو إليه على خلاف الدول التي تحولت لقوى عالمية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية التي  تسعى لنشر نموذجها في الدول الأخرى بل في العالم، ومن ثم تظل الصين هي القوة النموذجية التي لا تسعى للسيطرة على العالم، ويظل الحزب الشيوعي الصيني هو حزب صيني وليس حزب العالم بأسره، ومن ثم يعمل من أجل المهمة الصعبة وهي تحقيق الإصلاح والتنمية والاستقرار، كما ذكر شي جين بينغ في خطابه في الثامن والعشرين من فبراير 2013، وتناول ذلك بالتفصيل في الفصل الأخير من كتابه "شي جين بينغ حول الحكم والإدارة".

- - -

د. محمد نعمان جلال، سفير مصر الأسبق لدى الصين، عضو مجلس إدارة مؤسسسة كونفوشيوس الدولية، عضو المنتدى الدولي لدارسي الشؤون الصينية بأكاديمية شانغهاي للعلوم الاجتماعية، وعضو منتدى بكين العالمي للثقافة.