العلاقات الصينية- الأمريكية في عهد ترامب

يتفق كثيرون على أن العلاقات الصينية- الأمريكية من أهم وأكثر العلاقات الدولية تعقدا وتشابكا في القرن الحادي والعشرين، لأسباب كثيرة. اقتصاديا، الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر اقتصاد في العالم والصين هي ثاني أكبر اقتصاد، كما أن بكين أصبحت أكبر شريك تجاري لواشنطن منذ عام 2015، وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 6ر519 مليار دولار أمريكي. سياسيا، الصين قوة صاعدة على الساحة الدولية وتتشابك مع الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من القضايا الإقليمية والدولية تشابكا لا يمكن تجاوزه لتسوية تلك القضايا.

وقد ظلت الصين واحدة من أهم قضايا حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ عقود، إذ تكون اللغة الحادة تجاه الصين من أدوات مرشحي الرئاسة الأمريكية لدغدغة مشاعر الناخب الأمريكي. ولم تكن انتخابات 2016 الأمريكية استثناء، فقبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، اعتبر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ومسؤولون في إدارته، أن الصين منافس استراتيجي رئيسي وليس شريكا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية.

خلال حملته الانتخابية، وفي أيامه الأولى بالبيت الأبيض، بدت تصريحات ترامب متشددة تجاه الصين، قبل أن يعود إلى ثوابت العلاقات الصينية- الأمريكية، لأسباب عديدة ليس أقلها حكمة الصين في التعامل مع الساكن الجديد للبيت الأبيض. وقبل انقضاء شهره الثالث على رأس الدولة الأكثر قوة في العالم، كان ترامب قد وجه الدعوة لنظيره الصيني شي جين بينغ لزيارة بلاده. قبل الزيارة بأسبوع، غرد ترامب على "تويتر" قائلا: "لقاء الأسبوع المقبل مع الصين سيكون صعبا جداً." أما الصين، فقد أعلنت أنها تعلق على قمة شي- ترامب أهمية كبيرة، وقالت وزارة الخارجية الصينية: "الصين مثل الولايات المتحدة الأمريكية تعلق أهمية كبيرة على اللقاء الرئاسي المقبل"، وإن "الجانبين يأملان أن يكون اللقاء ناجحا بهدف دفع تنمية العلاقات الثنائية إلى الوجهة الصحيحة."

بعد ظهر الخميس، السادس من إبريل 2017 (بتوقيت الولايات المتحدة الأمريكية) هبطت طائرة الرئيس الصيني بمطار بالم بيتش في فلوريدا، حيث كان في استقباله وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، قبل أن ينتقل إلى منتجع مار آلاغو، حيث كان الرئيس ترامب في انتظاره. بدأ لقاء القمة الصيني- الأمريكي بعشاء مشترك، تبعته جلسة المحادثات الأولى بين شي وترامب. في اليوم التالي، عقدت جلسة محادثات القمة الثانية، التي أعلن خلالها الرئيس شي ترحيب بلاده بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية فى التعاون فى إطار مبادرة "الحزام والطريق".

اللقاء وجها لوجه بين الزعيمين الصيني والأمريكي، الذي حظي باهتمام عالمي كبير، كان مناسبة لإقامة روابط شخصية بين الرئيسين، خاصة أن الرئيس شي اصطحب معه زوجته السيدة بنغ لي يوان، التي حظيت بترحيب حار من زوجة الرئيس ترامب السيدة ميلانيا.

خلال لقائه مع ترامب قال شي: "ثمة الآلاف من الأسباب التي تعمل على نجاح العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وليس هناك سبب واحد يدعو إلى قطعها." وبمناسبة مرور خمسة وأربعين عاما على تطبيع العلاقات الصينية- الأمريكية، قال شي: "إن تعزيز العلاقات الثنائية خلال الخمسة والأربعين عاما الأخرى القادمة يتطلب إرادة سياسية والتزاما تاريخيا من قادة البلدين." الرئيس شي، الذي دعا ترامب لزيارة بلاده خلال عام 2017، وقبل الرئيس الأمريكي الدعوة بسرور، أكد على دور الآليات الأربع العالية المستوى التى أنشئت مؤخرا الخاصة بالحوار والتعاون بين البلدين في مجالات مثل الدبلوماسية والأمن والاقتصاد وإنفاذ القانون والأمن الإلكتروني، فضلا عن التبادلات الاجتماعية والتبادلات الأخرى بين الشعبين. وطالب شي البلدين بوضع قائمة بأولويات التعاون، لتحقيق حصاد مبكر ودفع المفاوضات الخاصة بمعاهدة الاستثمار الثنائية واستكشاف التعاون البراغماتي في إنشاء البنية الأساسية وفي الطاقة والمجالات الأخرى. وأظهر شي الحكمة الصينية، عندما حث الجانبين على معالجة القضايا الحساسة بشكل دائم وملائم، وإدارة الخلافات والتحكم فيها بطريقة بناءة، وتعزيز الاتصالات والتنسيق في الشؤون الدولية والإقليمية الكبرى. وقال: "على الصين والولايات المتحدة الأمريكية أن يوسعا تعاونهما في مواجهة التحديات العالمية، مثل عدم انتشار الأسلحة النووية ومكافحة الجريمة العابرة للحدود." ووصف الرئيس الصيني اجتماعه الأول مع الرئيس الأمريكي بأنه يحمل أهمية فريدة لتطوير العلاقات الصينية- الأمريكية. وقال إن الاجتماع ساعدهما على فهم بعضهما البعض بشكل أفضل وعزز ثقتهما المتبادلة، وإنهما توصلا إلى توافقات أساسية متعددة وأقاما علاقة عمل جيدة. وحول العلاقات العسكرية، أشار شي إلى أن الثقة المتبادلة في المجالات العسكرية والأمنية تشكل الأساس للثقة الاستراتيجية المتبادلة بين البلدين، واقترح على الجانبين أن يحافظا على التبادلات العسكرية على كافة المستويات، وأن يفسحا المجال كاملا لآليات مثل المشاورات الوزارية الدفاعية والحوار الأمني لآسيا والمحيط الهادئ، وأن يوظفا جيدا آلية الحوار التي أقيمت بين هيئتي الأركان لجيشي البلدين، وتنفيذ برامج التبادل السنوية المتفق عليها، وتنفيذ وتحسين آلية تبادل الإبلاغ بشأن العمليات العسكرية الكبرى، ومدونة السلوك الآمن بشأن المواجهات العسكرية البحرية والجوية.

من جانبه، قال ترامب إن بلاده مستعدة لزيادة تعميق التعاون مع الصين في الاقتصاد والشؤون العسكرية والتبادلات الشعبية، ودعم جهود الصين في القبض على المجرمين الفارين واستعادة الأموال غير الشرعية. ونقل البيت الأبيض عن ترامب عقب الاجتماع مع شي قوله: "أعتقد أننا حققنا تقدما هائلا في علاقاتنا مع الصين"، واصفا العلاقة التي طورها مع الرئيس شي بأنها "رائعة".

وسائل الإعلام الصينينة، اعتبرت أن أول لقاء بين شي وترامب، يقود العلاقات الصينية- الأمريكية إلى عصر جديد. فقد رأى تعليق نشرته وكالة أنباء ((شينخوا)) في التاسع من إبريل، أن هذا اللقاء أرسى منهجا إيجابيا لتطوير العلاقات بين البلدين. وقال التعليق: "منذ زيارة كسر الجليد التي قام بها ريتشارد نيكسون إلى بكين في عام 1972، تطورت العلاقات الصينية- الأمريكية على مدار السنين بشكل كبير. وتعتبر محادثات شي وترامب، التي جاءت بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لتطبيع العلاقات الثنائية، نقطة انطلاق جديدة للعلاقة بين البلدين." وذهب التعليق إلى أن المحادثات بين الرئيسين، التي استمرت سبع ساعات، ساعدت على بلورة علاقة عمل سليمة ومودة شخصية بين الزعيمين. ورأى التعليق أن وصف الرئيسين لمحادثاتهما بأنها "جيدة" كان من قبيل المصادفة. وقد أكد الرئيس شي على تعميق التفاهم بين البلدين وتعزيز الثقة المتبادلة، في حين قال ترامب إنه "تم تكوين نوايا حسنة وصداقة هائلين". وقد لعب الاجتماع الكفء والسلس والودي بين الزعيمين دورا فريدا في تعزيز العلاقات الثنائية لمصلحة الشعبين. وأكد التعليق في النهاية على أن ما تجلى في اجتماع مار آلاغو من مسؤوليات وحكمة، سيترك بلا شك علامة مهمة وبارزة في التاريخ.

بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية، يبدو أن قمة شي- ترامب خلت من أي مادة مشوقة لتدبيج تقارير ساخنة. وما كان حدث بهذا الحجم يمر من دون بهارات إعلامية، فقد اختارت صحيفة ((نيويورك تايمز)) الأمريكية في الثامن من إبريل أن يكون عنوان أحد تقاريرها هو "بعد مغادرة شي للولايات المتحدة، الإعلام الصيني ينتقد بعنف الهجوم على سوريا". نقل التقرير عن ((شينخوا)) قولها: "إن الضربة تعد عملا لسياسي ضعيف يحتاج إلى استعراض عضلاته." و"إن ترامب أمر بالضربة لينأى بنفسه عن داعمي سوريا في روسيا، وليتجاوز الاتهامات بأنه موال لروسيا." المدهش، أن موقع سي إن بي سي لم يذهب بعيدا، وإن اختلفت الصياغة قليلا، فجاء العنوان: "لقاء ترامب- شي يختتم بدون تصرفات خاطئة، ولكن سرعان ما تبعته الانتقادات". وقالت صوفيا يان، مراسلة سي إن بي سي في بكين: "وسائل الإعلام الصينية وصفت اللقاء بالناجح، ولكنها انتظرت حتى اختتامه لتنتقد الولايات المتحدة لهجومها على سوريا." وقد سارت على ذات النهج وسائل الإعلام الغربية الأخرى.

ولكن، هل تمت تسوية الخلافات الرئيسية بين البلدين في اجتماع رئيسيهما؟ الإجابة هي، بالتأكيد لا. إن القضايا الخلافية بين بكين وواشنطن، متشابكة ومعقدة ولها أكثر من وجه، وتتداخل فيها مؤسسات مختلفة في البلدين، وترتبط باستراتيجيات كل منهما على المستوى الإقليمي والدولي، وبطريقة تفكيرهما ورؤيتهما ومصالحهما وتحالفاتهما على المستوى الإقليمي والدولي. الصين تدعو إلى نظام سياسي واقتصادي عالمي أكثر عدالة وإنصافا، يكون فيه صوت مسموع للدول النامية، وإلى عالم متعدد الأقطاب. هذه الدعوة الصينية نابعة من فكر وفلسفة الصين المستمدة من تاريخ طويل لهذا البلد الذي عانى من هيمنة وغطرسة الدول الكبرى، بينما الولايات المتحدة الأمريكية تريد المحافظة على هيمنتها العالمية. إن دعوة ترامب إلى "أمريكا العظمى" تجسيد واقعي للفكر الأمريكي. ولكن هذه الدعوة تصطدم بحقيقة التطور الذي شهده العالم خلال العقدين الأخيرين. ولعل مشهدا، قد يبدو ثانويا، أثناء إلقاء الرئيس ترامب خطاب تنصيبه يكشف هذه الحقيقة. فبينما كانت الدعوة إلى "شراء الأمريكي" و"توظيف الأمريكي من أكثر شعارات ترامب التي نالت هتافاً من مؤيديه وهم يشاهدون خطاب تنصيبه في العشرين من يناير 2017، كان كثيرون من هؤلاء المؤيدين يرتدون قبعات بيسبول حمراء كُتب عليها شعار ترامب "لنجعل أمريكا عظمى مرة أخرى" مصنوعة في الصين وفيتنام وبنغلاديش، وفقا لما ذكرته وكالة أنباء ((رويترز)).

خلافات البلدين في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي وشبه الجزيرة الكورية، ونزاعاتهما التجارية وتباين رؤاهما لقضايا الحريات وحقوق الإنسان تصعب تسويتها في لقاء أو حتى سلسلة لقاءات قمة. إن الخلافات الصينية- الأمريكية في قضايا عديدة حول العالم هي تجليات للتنافس بين قوة عالمية صاعدة وقوة أخرى مهيمنة يتقلص دورها ببطء يوما بعد يوم، وهي خلافات لاتزال قابلة للاحتواء، كما أنها انعكاس لتباين حقيقي في المفهوم الصيني والمفهوم الأمريكي للنظام العالمي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

لعل النتيجية الأهم لاجتماع شي- ترامب، في تقديري، هي الإبقاء على الحد الأدنى من التفاهمات بين البلدين بحيث لا تتفاقم خلافاتهما إلى صراع مفتوح ستكون آثاره كارثية عليهما وعلى العالم كله. وقد أشار كاتب هذه السطور في ورقة بحثية منشورة في يناير 2017، إلى أن نمو الاقتصاد الصيني جعل المصالح الاستراتيجية الصينية والأمريكية أكثر تشابكا، وأن حسم التنافس بين هاتين القوتين سيظل مرهونا بقدرة كل منهما على إدارته بحكمة دون الانزلاق إلى هاوية قد تكلفهما معا ثمنا باهظا. وستكون فترة رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة الأمريكية اختبارا صعبا آخر لحكمة بكين في إدارة علاقاتها مع واشنطن.