مسجد قديم في مدينة الينابيع

هو مسجد "نانداسي" في مدينة جينان، حاضرة مقاطعة شاندونغ. "نانداسي" يعني في اللغة الصينية "المسجد الجنوبي الكبير"، مقابل مسجد آخر في نفس المدينة يدعى "المسجد الشمالي الكبير. ومدينة جينان تحمل لقب "مدينة الينابيع" بسبب وفرة ينابيع الماء بها وجمالها الطبيعي، إذ يقال إن المدينة بها اثنان وسبعون ينبوعا طبيعيا منذ قديم الزمان، أشهرها ينبوع باوتو الذي أسبغ عليه الإمبراطور تشيان لونغ لأسرة تشينغ (1711-1799) وصف "الينبوع الأول تحت السماء" عندما احتسى ماءه في القرن الثامن عشر. مازال باوتو يتدفق طبيعيا حتى اليوم، ويشكل مشهدا خلابا في جينان.

شاهد على التاريخ

جينان، التي تقع على مقربة من مسقط رأس كونفوشيوس، تشيويفو، بنفس المقاطعة، مدينة تاريخية ثقافية عريقة، دخلها الإسلام في وقت مبكر. مسجد نانداسي هو أقدم مساجد جينان، فقد بني في فترة أسرة يوان (1271- 1368) في البداية، وفي عام 1295 انتقل إلى مكانه الحالي، أما معظم بناياته الحالية فقد أنشئت في فترة أسرة مينغ (1368 - 1644). يقال إن المسجد تم تصميمه الأساسي على طراز المعابد الصينية، ومع وجود العناصر اللازمة لوظيفة المسجد تم اعتباره مسجدا متكاملا.

حسب السجلات التاريخية، كان المسجد في عام 1295 يتكون من قاعة للصلاة فقط، وفي فترة أسرة مينغ شهد توسعاته الكبيرة، حيث تم تجديده وتوسيعه في عام 1554. ثم، في فترة أسرة تشينغ، تم تجديده ست مرات أخرى، وأقيمت مدرسة للمعلمين ومدرسة ابتدائية للمسلمين في المنطقة المحيطة بالمسجد. وكذلك في فترة جمهورية الصين تم تجديده أربع مرات، فأخذ شكل الدار الرباعية الصينية (سيخهيوان). في فترة الحرب الأهلية وحرب مقاومة الغزو الياباني لحقت أضرار كبيرة بالمسجد وتعرض كثير من التحف التاريخية به للتدمير. بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية، بذلت الحكومة المحلية جهودا كبيرة لترميم وحماية المسجد. فتم إدراجه ضمن الدفعة الأولى لقائمة "المساجد النموذجية على مستوى الدولة". في عام 2014، زاره رئيس المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني يو تشنغ شنغ، الأمر الذي يؤكد الدور الإيجابي للمسجد في دفع تضامن القوميات ومساعدة المسلمين في حياتهم.

التخطيط المعماري الأساسي للمسجد يتبع أسلوب الدار الرباعية الصينية التقليدية، حيث تمتد البنايات الرئيسية على طول المحور الرئيسي، غير أن اتجاه محور مسجد نانداسي يتجه نحو الغرب بحيث يواجه مدخل قاعة الصلاة الرئيسية إلى الغرب نحو مكة المكرمة، علما بأن المحور الرئيسي للبنايات في المعابد الصينية يتجه عادة نحو الشمال أو الجنوب.

تبلغ مساحة قاعة الصلاة في المسجد 1200 متر مربع، وتستوعب أكثر من ألف  فرد للصلاة في نفس الوقت، وهي أكبر قاعة للصلاة في مقاطعة شاندونغ. تنقسم القاعة إلى ثلاثة أجزاء، هي الجزء الأمامي والجزء الأوسط والجزء الخلفي، وقد بني كل جزء منها في فترات تاريخية مختلفة، وبذلك تعكس الخصائص المعمارية الصينية في مراحل مختلفة. تحتفظ البنايات الرئيسية في المسجد بنوافذها وأبوابها الخشبية العريقة المنقوشة بآيات من القرآن الكريم بالخط الكوفي الأنيق.

أنصاب عريقة

يحتضن مسجد نانداسي مجموعة من الأنصاب التي تشهد على عراقة تاريخه، أشهرها نصب منقوش عليه مقالة على يد الإمام تشن سي في أسرة مينغ بعنوان "لايفومينغ". يشرح تشن سي في هذه المقالة المبادئ الإسلامية من زاوية الفكر الكونفوشي، ويدعو إلى الاستقامة من خلال إتمام الوجبات الدينية. يجمع تشن سي بين الفلسفة الكونفوشية والتعاليم الإسلامية، الأمر الذي جعل هذا المسجد  قاعدة لدراسة الفلسفة والدين، في وقت مبكر. هذه المقالة، التي لا يزيد عدد كلماتها عن مائة وخمسين مقطعا صينيا، تمثل نموذجا لنشر الإسلام عن طريق توطينه، وتعكس فهم تشن سي العميق للفلسفة الكونفوشية وإيمانه بالإسلام.

بالإضافة إلى "لايفومينغ"، يضم المسجد عددا من الأنصاب المنقوشة بالصينية والعربية والفارسية يرجع تاريخها إلى أسرتي مينغ وتشينغ، وهي تعد دليلا لتاريخ المسجد. تسجل هذه الأنصاب مسيرة اندماج الإسلام مع الثقافة الكونفوشية الصينية التقليدية، وانفتاح وتكامل الإسلام والثقافة الكوفوشية.

مسلمو جينان المعاصرون

يعيش في مدينة جينان حاليا أكثر من مائة وعشرة آلاف مسلم، يشكلون نحو 10% من مسلمي شاندونغ. وتحتضن جينان ستة وخمسين مسجدا، أي 15% من مساجد المقاطعة. تلعب هذه المساجد دورا هاما في مساعدة المسلمين على العيش في أجواء من الوئام والتناغم. هذه المساجد ليست مجرد أماكن لإقامة الشعائر الدينية، وإنما يشارك أئمتها في حياة الناس اليومية ويهتمون بأمورهم اهتماما كبيرا. على سبيل المثال، في عام 2015، وبمناسبة ذكرى مرور سبعمائة وعشرين عاما على إنشاء مسجد نانداسي ، أقام أئمة المسجد سلسلة من الفعاليات الدينية والثقافية لإحياء هذه الذكرى وتنشيط الأجواء الدينية بين المسلمين. في يونيو تلك السنة، تجمع أئمة الستة والخمسين مسجدا بالمدينة في قاعة الصلاة بهذا المسجد، وصلوا معا من أجل سلام وسلامة وطنهم والعالم. كما تم تنظيم الدورة الثامنة لمسابقة الخطابة في جينان، والدورة السادسة لمعرض فن الخط والرسم للمسلمين في جينان، ومعرض الصور لمسجد نانداسي، وندوة دور المساجد في المدن الحديثة، وغيرها. ومن خلال هذه الفعاليات، تتوسع قوة تأثير المسجد بين جماهير الشعب، كما تتعزز قوة التلاحم بين المسلمين في جينان وفي شاندونغ.

في نهاية عام 2016، أقيمت الدورة السابعة للجنة الجمعية الإسلامية بمدينة جينان، لتلخيص أعمال الخمسة أعوام السابقة في مجال الدين والقومية في المدينة، وتخطيط أعمال الخمسة أعوام المقبلة. وأكد رئيس الجمعية الإسلامية في مدينة جينان، ما جيه، في كلمته  بهذه الدورة، على أهمية دور المسلمين في البناء الاقتصادي والاجتماعي وخدمة المجتمع. فأولا، يجب تحسين أعمال خدمة المسلمين غير المحليين. وقد أسس مسجد نانداسي مكاتب خاصة لمعالجة أمور المسلمين غير المحليين، مثل مساعدة أطفالهم للالتحاق بالمدارس المحلية، وتقديم المشورة لهم. ثانيا، تعمل الجمعية لترميم وتحسين بيئة المقابر العامة للمسلمين في جينان، مما يحظى بالتقدير العالي من مسلمي المدينة. ثالثا، لعبت المساجد في المدينة دورا هاما في استقبال الضيوف والأصدقاء الصينيين والأجانب. فبالإضافة إلى كبار المسؤولين على مختلف المستويات، يزور الباحثون في المجال الديني من أنحاء العالم المساجد في جينان. الأكثر من ذلك، هو أن المساجد تتحمل أعمال خدمة الفعاليات الدولية الكبيرة التي تستضيفها جينان. على سبيل المثال، وفر مسجد نانداسي الخدمات الدينية للعلماء المسلمين أثناء إقامة الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر العلوم التاريخية العالمية في جينان، سواء أماكن الصلاة أو الأطعمة الحلال. رابعا، تعمل الجمعية الإسلامية على دعوة المسلمين للقيام بالأعمال الخيرية. في الأعوام الخمسة الماضية، نظمت الجمعية نشاطات للتبرع بحوالي مائتين وأربعين يوان (الدولار الأمريكي يساوي 9ر6 يوانات) من اللوازم للمسنين والفقراء والمعاقين وغيرهم من المحتاجين.

كما بين ما جيه في كلمته، أن هناك ست مهمات واقتراحات لخدمة المسلمين في جينان، ألا وهي: المثابرة على توطين الإسلام في الصين ونشر القيم الجوهرية الاشتراكية؛ تعزيز الفكر القانوني والارتقاء بمستوى الأعمال الدينية، تحسين أعمال تفسير القرآن الكريم على أساس معارضة التطرف، تعزيز بناء الثقافة الإسلامية ونشر مجلة ((المسلمين في جينان))، زيادة دخل المساجد وتنمية القضايا التابعة لها، وتقوية البناء الذاتي ورفع مستوى الخدمات.

شاندونغ مقاطعة كبيرة من حيث عدد السكان، وهي مهد الفلسفة الكونفوشية الكلاسيكية الصينية. لذا، تفوح المساجد في عاصمة المقاطعة بعبق التاريخ والثقافة، وقد اندمج الإسلام مع الثقافة الصينية التقليدية اندماجا عميقا. وفي المستقبل، لا بد أن يستمر هذا الاندماج والتناغم بالجهود المبذولة من أبناء المسلمين على هذه الأرض.