دور الشباب في العلاقات العربية- الصينية

في ندوة حملت عنوان "العلاقات المصرية- الصينية ودور الشباب في تعزيز العلاقات"، ضمن فعاليات مؤسسة ((بيت الحكمة)) الصينية خلال الدورة الثامنة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2017، تحدثت عن ارتباط الشباب بالعلاقات الصينية- العربية منذ نشأتها وخلال مراحل تطورها المختلفة.

خلال الندوة، التي شارك فيها أيضا الأستاذ الدكتور ناصر عبد العال رئيس قسم اللغة الصينية في جامعة حلوان المصرية، والدكتورة داليا طنطاوي رئيسة قسم اللغة الصينية بجامعة المنيا في جنوبي مصر، والدكتور محمد فايز فرحات خبير الدراسات الآسيوية بمؤسسة الأهرام المصرية، اخترت أن أستعرض مع الحضور جملة من المشاهد يتصدرها الشباب، وهي إما مشاهد لا يمكن أن تفارق ذهن أي مهتم بالعلاقات الصينية- العربية، أو مشاهد كنت جزءا منها شكلت ما أسميه دائما بالحاضنة الثقافية والمعرفية للعلاقات الصينية- العربية.  

المشهد الرئيسي للعلاقات العربية- الصينية في العصر الحديث التي بدأت بالعلاقات بين مصر والصين، يتصدره شاب مصري لم يكن عمره قد جاوز السابعة والثلاثين عاما. ذلك الشاب هو جمال عبد الناصر. تهبط الطائرة التي تقل عبد الناصر والزعيم الهندي جواهر لال نهرو في مطار رانغون (يانغون حاليا)، عاصمة بورما (ميانمار حاليا)، ليجد ناصر عند سلم الطائرة رئيس مجلس الدولة الصيني شو أن لاي. يبدي السيد شو، وهو يصافح عبد الناصر، إعجابه بالزعيم المصري الشاب. هنا تبدأ صفحة جديدة في العلاقات العربية- الصينية. كان ذلك في إبريل عام 1955، قبيل انعقاد مؤتمر باندونغ.  يعود عبد الناصر إلى القاهرة ويتخذ في أقل من عام، واحدا من أكثر القرارات جرأة وصوابا في تاريخ العلاقات الخارجية المصرية؛ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، والتي فتحت الباب أمام الصين لإقامة علاقات مع العديد من الدول العربية والأفريقية.  

ولكن، بينما كنت أتلمس أطراف تلك الصورة المهيبة، كان هناك مشهد يزاحم ذهني بقوة ويأخذني نحو أكثر من ثلاثين عاما قبله، مشهد وجوه صينية شابة تحمل متاعا قليلا وتتنقل بين سفينة وأخرى مكابدة الأمواج والعواصف لتستقر في نهاية المطاف على السواحل المصرية. إنهم الدفعة الأولى من الطلاب الصينيين الذين وصلوا إلى مصر للدراسة في الأزهر، ومن بينهم محمد مكين ما جيان ولين شينغ هو ونا شيون ولين شونغ مينغ ولين تشينغ تشين وغيرهم من العلماء الصينيين المسلمين الذين درسوا العربية ونشروها في ربوع الصين. وقد وظفت الصين، التي كانت تحت حكم حزب الكومينتانغ في تلك الفترة، ثروتها من المتحدثين بالعربية إعلاميا عندما تعرضت للغزو الياباني في ثلاثينيات القرن العشرين، فبعثت بوفد على رأسه العالم الإسلامي الكبير دا بو شنغ إلى مصر، وقد وصل إلى القاهرة في بداية عام 1938، ونشرت الصحف المصرية مقتطفات من كتابه "رسالة إلى المسلمين في العالم"، وطُبع منه ما يزيد على عشرة آلاف نسخة في مصر، باللغة العربية، وشرح الوفد قضية بلاده في مؤتمر لإنقاذ الصين عقد بمدينة الإسكندرية.

كان محمد مكين عندما وصل إلى مصر شابا عمره خمسة وعشرون عاما. وكان رفاقه  في مثل عمره تقريبا. ويعلم كل مهتم بالعلاقات العربية- الصينية من هو محمد مكين، المولود في مقاطعة يوننان بجنوبي الصين عام 1906، والذي بدأ دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية منذ طفولته. بعد تخرجه في معهد شانغهاي الإسلامي، درس ما جيان لمدة ثماني سنوات في الأزهر، ترجم خلالها أهم عمل كونفوشي إلى اللغة العربية وهو ((كتاب الحوار)). ساهم مكين في تأسيس كلية اللغات الشرقية في جامعة بكين وإنشاء قسم اللغة العربية في نفس الجامعة، وإليه يعود الفضل في إدراج اللغة العربية لأول مرة رسميا في مناهج التعليم العالي الصيني بعد أن كان تعليمها مقتصرا على المساجد منذ مئات السنين. مكين ترجم معاني القرآن الكريم من العربية مباشرة عام 1981، كما ترجم العديد من الكتب من العربية إلى الصينية، ساهمت في تعريف الصينيين بالثقافة العربية.

لا أريد أن أذهب بعيدا وأغوص في بحور التاريخ، وإن كنت قبل أن أرتحل إلى النصف الثاني من القرن العشرين، لابد أن أشير إلى سواعد شابة، فأذكر برواد العلاقات بين الأمتين العربية والصينية، من شباب الرحالة والتجار الذين سلكوا دروب طريق الحرير، فأسماء مثل قتيبة بن مسلم الباهلي ومحمد بن عبد الله الطنجي (ابن بطوطة) وتشنغ خه، أمير البحر الصيني المسلم، لابد أن يُشار إليها.

لقد ظل شباب الأمتين العربية والصينية متأهبين دائما عند خط الانطلاق، فما إن تأسست العلاقات الرسمية بين مصر والصين حتى أنشأت مصر في عام 1957 دورة في اللغة الصينية بجامعة عين شمس، تحولت إلى تخصص في العام التالي قبل أن يصبح قسما للغة الصينية بكلية الألسن في ذات الجامعة عام 1977. وفي عام 1981، تخرجت الدفعة الأولى بهذا القسم، الذين هم حاليا أساتذة وعلماء كبار، ورواد تعليم اللغة الصينية في مصر والدول العربية، بالتعاون مع زملائهم الصينيين، ليظل الشباب في صدارة هذا المشهد الثقافي العربي- الصيني.

وبينما كان ذلك يجري على أرض مصر، كان شباب الصين هم الضوء الساطع للعلاقات المصرية- الصينية الرسمية الوليدة (آنذاك). في خريف عام 1956، العام الذي أقيمت فيه العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، تعرضت مصر للعدوان الثلاثي، وكانت جامعة بكين قد استقبلت دفعة من الشبان دراسي اللغة العربية، من بينها الشابان تساو بنغ لينغ ولو تشانغ يي (أحدهما يصبح فيما بعد ملحقا عسكريا والآخر ملحقا دبلوماسيا بسفارة الصين لدى مصر)، ويتصدر طلاب هذه الدفعة المظاهرات التي عمت بكين دعما لمصر وشجبا للعدوان، مرددين عبارات بالعربية البسيطة التي تعلموها. أول مظاهرة مليونية في التاريخ كانت في ساحة تيانآنمن ببكين دعما لمصر ضد العدوان الثلاثي.  

في خريف ذات السنة، كان قد وصل إلى أرض الصين شاب وشابة مصريان، الشاب هبة عنايت الذي لم يكن قد أتم ربيعه الخامس والعشرين والشابة تماضر تركي، التحقا الاثنان بالأكاديمية الصينية المركزية للفنون الجميلة، ودرس عنايت بها الحفر على الخشب لمدة خمس سنوات، لتصبح الصين وطنه الثاني، حسب تعبيره، وتمنحه الصين وسام "سفير الصداقة الشعبية".

قبل ذلك بعام، في نوفمبر 1955، كان قد وصل إلى أرض مصر أول دفعة من طلاب جمهورية الصين الشعبية الشبان لدراسة اللغة العربية في مصر، وقد ضمت هذه الدفعة سبعة طلاب، من بينهم يانغ فو تشانغ، الذي صار سفيرا للصين لدى مصر في تسعينات القرن العشرين. وتوالت بعثات الشباب والناشئين الصينيين إلى مصر، ليس فقط للدراسة وإنما للانخراط والاندماج في المجتمع المصري، جاء قاو يو شنغ وتشن دونغ يون وآخرون للدراسة في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية بمصر، حيث عاشوا وسط أسر مصرية. السيد قاو صار لاحقا سفيرا لبلاده لدى عدد من الدول العربية آخرها الأردن، وأمضى سنوات دبلوماسيا بسفارة الصين لدى مصر، والدكتورة تشن هي حاليا المستشارة الثقافية النشيطة والمتألقة بسفارة الصين لدى مصر.

ومع انتهاج الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، كانت مصر قد اجتازت فترة حرب تحرير أرضها بالسلاح والتفاوض. واستعدت بكين لاستقبال الرئيس المصري أنور السادات في الثامن من أكتوبر عام 1981، بيد أن الإرهاب الأسود كان قد اغتال رئيس مصر قبلها بيومين. في ذلك الوقت، كان المتفوقون من طلاب السنة الثالثة  وطلاب الماجستير بقسم اللغة الصينية في جامعة عين شمس يدرسون في جامعات بكين ومدن الصين الأخرى، وفتيات وفتيان الصين يدرسون في جامعات مصر.

  في عام 1989، وبينما كان الشاب المصري مجدي مصطفى أمين، يجول بدراجته في أرجاء عاصمة الصين يحادث أهلها بلهجتهم البكينية المميزة، كانت الشابة الصينية تشانغ لي في غرفتها بالبناية السابعة لمدينة طالبات جامعة القاهرة تتناول بيديها من أم مريم، العاملة المصرية بمدينة الطالبات، ليس فقط الأطعمة المصرية المميزة وإنما أيضا محبة وعطف الأم التي تفتقدها تشانغ. الشاب مجدي مصطفى أمين هو أول مصري يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة بكين، ود. أمين حاليا أستاذ بقسم اللغة الصينية في جامعة عين شمس. السيدة تشانغ لي، رئيسة الفرع الإقليمي لإذاعة الصين الدولية في القاهرة حاليا، ظلت تبحث عن أم مريم حتى وجدتها وضمتها إلى أحضانها.

تلك كانت مشاهد، بالتأكيد هي غيض من فيض جهود شباب البلدين في نهر العلاقات الصينية- العربية الممتد، بيد أن ثمة مشاهد أخرى عديدة كنت حاضرا ومشاركا فيها منذ العقد الأخير للقرن العشرين حتى اللحظة، وكان الشباب دائما نجومها الساطعة، فالقائمون على ((بيت الحكمة)) شباب وشابات، ومشاهد الشبان العرب الذين قصدوا إلى الصين لدراسة اللغة والعلوم وفنون القتال والأدب تلوح أمام عيني. مشهد الأمسيات الرمضانية واحتفالات عيدي الأضحى والفطر التي كان بطلها الشاب ناصر عبد العال في جامعة اللغات والثقافة في بكين ومن حوله كوكبة من الدارسات والدراسين المصريين والعرب. د. عبد العال صار لاحقا المستشار السياحي لمصر لدى الصين. مشهد شباب العرب، ومنهم الشاب اليمني د. عمار أحمد عبده إسماعيل البعداني، الذي نحكي قصته في هذا العدد، الذين جعلوا من مدينة إيوو بمقاطعة تشيجيانغ مدينة ذات نكهة عربية، ومشهد وفود السياح من شباب الصين بين آثار مصر العظيمة ومناظر المغرب البديعة وفي مدينة دبي المتألقة، تؤكد كلها أن الشباب هم بوصلة علاقات الأمتين العريقتين.

الشباب العرب هم من قدموا ثقافة وفكر الصينيين لأمتهم، وأسماء مثل هادي العلوي وسلامة عبيد وحنا مينه ومحمد أبو جراد ومحمد نمر عبد الكريم وعزت شحرور وجعفر كرار، وغيرهم عشرات بل مئات، أثرت معرفة العرب بالصين ونقلت إلى الصينييسن صورة ناصعة للعرب.

لقد شهدت الترجمة من الصينية إلى العربية خلال السنوات الخمس الأخيرة طفرة ملحوظة، ويرجع كثير من الفضل في ذلك للشباب. وقد ينتقد البعض، وهم على حق، تلك الترجمات بأنها ليست على المستوى المأمول، ولكن يقيني هو أننا سنرى في مستقبل قريب أعمالا مترجمة أكثر دقة وعمقا لهؤلاء الشباب. علينا جميعا أن نشجعهم وأن ندفعهم ونرشدهم.

دور الشباب في العلاقات الصينية- العربية ملحمة تمتد من الأرض إلى السماء ولا تحويها كلمة في ندوة.  ولكن قبل أن أختتم حديثي، أطرح تساؤلا مفتوحا: كيف يمكن تحقيق الاستفادة المتبادلة بين شباب الأمتين، وكل منهما يمر بظروف خاصة؟

لن أقدم إجابة، وإنما سأحكي واقعة لعل فيها ما ينفع. في ساحة كرة القدم بجامعة القوميات المركزية في بكين، حيث كنت أمارس هوايتي المفضلة، وكان ذلك في بداية القرن الحادي والعشرين، صادقت شابا صينيا يافعا يدرس الهندسة في جامعة تشينغهوا. بعد فترة من تخرجه، سألته: "أين تعمل الآن؟" قال: "لم أجد عملا؟" قلت له مواسيا: "لم تعد الحكومة الصينية تعين الخريجين كما في السابق." فأجاب: "بلادنا تمر بفترة صعبة من الإصلاح الاقتصادي وعلينا أن نتحمل." بعد فترة صادفته في أحد الباصات العامة مرتديا بزة رسمية وفي يده حقيبة، فقلت له: "يبدو أنك وجدت عملا." قال: "لا، ولكنني أدرس الآن للحصول على الماجستير." هذا الشاب حاليا مسؤول كبير في شركة باستثمار صيني- أجنبي مشترك.

سيظل الشباب عنوان العلاقات الصينية- العربية، ونجومها المتألقة.