الفكر القيادي العالمي ينتقل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين في دافوس

الكلمة التي ألقاها الرئيس الصيني شي جين بينغ في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في أواخر يناير 2017، حظيت باهتمام وسائل الإعلام في العالم، فاق الاهتمام الكبير المعتاد لزيارات الرئيس الصيني الخارجية.

التعليق النموذجي جاء عبر تحليل رئيسي للمعلق السياسي فيليب ستيفنز في صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، قال فيه: "الإعلان الرئيسي للسيد شي... يقول شيئا حول العالم. الرئيس المنتخب دونالد ترامب يريد أن تتجاهل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولياتها العالمية. الصين قد تنتزع هذا المدخل لتنتقل إلى مركز الصدارة".

إيان بريم، رئيس مجموعة أوراسيا، أشهر شركة أمريكية في مجال "تحليلات المخاطر"، لخص ببساطة ردود فعل تلك الكلمة قائلا: "رد فعل دافوس على خطاب شي ناجح بكل المعايير؛ والسبب في هذا الاهتمام واضح، فزيارة شي إلى دافوس تعتبر بمثابة نقطة تحول تاريخية أساسية للاقتصاد العالمي."

من حيث الأفكار والاستراتيجية العالمية، فقد تم بالفعل عبور نقطة التحول التاريخية مع انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الثانوي ولكنه هام، هو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. لكن التغييرات المقابلة في العلاقات الدولية والمؤسسات العالمية هي مجرد بداية. لقد ساهم هذا المزيج في خلق الاهتمام الدولي الكثيف بزيارة شى جين بينغ، وردود الفعل عليها.

على وجه الدقة، تتفق كلمة شي جين بينغ في دافوس، مع فهم العالم للحاجة بأن تظهر الصين "الفكر القيادي" فيما يتعلق بالشؤون العالمية، في حين أن الصين هي أيضا تسير ببطء في المجالات العملية ولكن بشكل متزايد لإظهار القيادة المؤسسية العملية. ومع ذلك، ينبغي فهم العلاقة المتبادلة والجداول الزمنية المختلفة على حد سواء.

اجتذبت زيارة شي جين بينغ هذا الاهتمام بسبب فهم على نطاق واسع للحجم الهائل المحتمل لنقطة التحول الحالية في الاقتصاد العالمي مع كل التداعيات الجيوسياسية. لأكثر من سبعين عاما، منذ عام 1945 حتى انتخابات ترامب، واصلت الولايات المتحدة الأمريكية،على الأقل لفظيا، سياسة ثابتة لدعم تدويل وعولمة الاقتصاد.

لم يكن كل عمل للولايات المتحدة الأمريكية يتفق مع هذا، فقد كان هناك خلل في مؤسسات مالية عالمية مثل صندوق النقد الدولي وغيره. ولكن عموما، واصلت الولايات المتحدة الأمريكية مساعيها نحو العولمة. هذا الاتجاه الاستراتيجي واضح، جنبا إلى جنب مع الوزن الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، ويعني أن البلدان الأخرى، بما في ذلك الصين، استفادت من العولمة، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية، هي بلا شك الزعيمة الاقتصادية الاستراتيجية في العالم، ولها "الفكر القيادي" لاستخدام المصطلحات الغربية الأكثر شعبية.

ترامب، على الأقل في تصريحاته، كسر وبوضوح سبعين عاما من الريادة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك أهمية أساسية للاقتصاد العالمي بأسره. ويبقى أن نرى كم هي كبيرة درجة الاختراق. ولكن تم بالفعل اجتياز نقطة التحول الرئيسية.

لا يمكن أبدا أن يكون هناك يقين مرة أخرى في ضمان أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال ملتزمة 100% بالعولمة، وأن الركن الأساسي الذي بني عليه النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد صلبا. بالنسبة لأكبر اقتصادين في العالم، فقط الصين ما زالت ملتزمة بالعولمة بشكل لا لبس فيه.

هذا الواقع له تأثير عميق حقا على كلا البلدين، نظرا للأهمية الحاسمة للتجارة الدولية والعولمة، باعتبارها واحدة من المزايا الاقتصادية التي يدركها البلدان واقعيا ونظريا. ومن هنا جاء الاهتمام العالمي الكثيف بكلمة شي جين بينغ.

الارتباط الإيجابي للانفتاح الدولي للاقتصاد وسرعة نموه

كان تنامي تدويل اقتصادات معظم البلدان اتجاها حاسما خلال فترة طويلة من الاستقرار النسبي العالمي والنمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، في تناقض صارخ لما كان خلال الفترة من سنة 1929 حتى سنة 1945 التي شهدت التشرذم الاقتصادي العالمي، والذي تمثل في ما يعرف بالرسوم الجمركية الحمائية السيئة السمعة المعروفة باسم "سموت- هاولي" في الولايات المتحدة الأمريكية، التي شهدت أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ العالم الحديث.

لذلك، حتى المحللين المعادين للصين، مثل فيليب ستيفنز، أشار إلى أن "الرئيس الأمريكي هو من تسبب الآن في إسدال الستار على السلام الأمريكي(Pax Americana)". ونتيجة لذلك، يضيف ستيفنز: "هناك ... فرصة للصين. النظرية الجيوسياسية التقليدية تشير إلى أنه في حالة التصادم بين قوة قائمة وأخرى ناشئة، فالناشئة قد تكون عامل عدم استقرار. ولكن، عندما اجتمعت نخب دافوس لمؤتمرها السنوي الشهير، كانت المفارقة أن السيد شي ظهر ممثلا لصوت الاستقرار."

هذه الحقائق الأساسية، مع عواقبها السياسية، تفسر لماذا أعرب العديد من البلدان، بما في ذلك حلفاء سياسيين للولايات المتحدة الأمريكية مثل ألمانيا وأستراليا، عن خلاف مفتوح، بل والفزع من تصريحات ترامب حول الحمائية.

 ولأسباب سياسية، فإن قادة هذه الدول لن يعلنوا صراحة بأن مصالحهم تتوافق أكثر مع مواقف الصين حول العولمة أكثر من توافقها مع الرئيس الأمريكي. حتى الآن، هناك أقلية من التيارات السياسية الحمائية في عدد من البلدان، وهي مازالت في السلطة، وتسعى علنا لسياسات مناهضة للعولمة في بلدين أنجلوسكسونيين؛ الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة ترامب، والمملكة المتحدة التي قذفت نفسها خارج الاتحاد الأوروبي.

هذا هو السبب في اكتساب الصين حاليا وعلنا "الفكر القيادي" في الاقتصاد العالمي، وهو سبب الاهتمام بكلمة شي جين بينغ. الصين ليست فقط ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وإنما أيضا هي حتى الآن الأكثر التزاما بالعولمة بشكل لا لبس فيه.

ولأسباب سياسية، الحلفاء الرئيسيون للولايات المتحدة الأمريكية لا يمكنهم التكلم إلا بنبرة صامتة، غير أن الصين توضح صراحة ما يراه الآخرون. ويوضح ستيفنز ذلك بالقول: "يمكن للصين أن تضع نفسها كحارس للحوكمة العالمية وحامل لشعلة نظام تجاري مفتوح. السيد شي داعم لاتفاق باريس لتغير المناخ، ويدافع عن الاتفاق النووي للمجتمع الدولي مع إيران، ويوسع تحرير التجارة في آسيا... بينما الرئيس المنتخب (ترامب) هو الذي يهدد الآن بإزالة التوافق والتفاهم الموجود بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية منذ عشرات السنين، والذي حافظ على السلام في مضيق تايوان."

الصين لا تخلط الوطنية مع الحمائية الاقتصادية

في الواقع هذا الموقف الرئيسي الجديد للصين في قيادة الفكر العالمي، هو تتويج لما يقرب من أربعة عقود من محلية "الفكر القيادي" للحزب الشيوعي الصيني.

في الفترة من سنة 1978 إلى سنة 1980، شرعت دورات جديدة حاسمة، واقتصادية في كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية؛ "سياسة الإصلاح والانفتاح" بالصين، وإجماع واشنطن، أو توافق "ريغان/ تاتشر". ولكن نتائج تلك الدورات كانت مختلفة بشكل هائل.

شهدت الصين نموا اقتصاديا أسرع، وارتفعت مستويات المعيشة بوتيرة أسرع، من أي دولة كبرى في تاريخ البشرية. ولكن في الجانب الاقتصادي الآخر، كانت هناك عدم المساواة وتباطؤ الاقتصاد نتيجة توافق ريغان/ تاتشر، ما أدى في نهاية المطاف إلى هذه الكارثة السياسية والتراجع نحو الطريق المسدود مع انتخاب ترامب، والسياسة الحمائية للملكة المتحدة وهي خارج الاتحاد الأوروبي.

إن بروز الفكر القيادي الصيني قد أثر حتما وفي المقام الأول على البلدان النامية. بالنسبة لها، إحدى أعظم مساهمات الصين في الفكر الدولي هو عدم خلط الوطنية مع الحمائية الاقتصادية، أو التجارية. لقد كرس دنغ شياو بينغ جلّ حياته من أجل إنهاض روح الشباب بالصين. ولكنه خالف، مثلا، الزعيم الوطني في أمريكا اللاتينية بيرون، حيث لم يخلط دنغ بين السعي لتحقيق المصالح الوطنية مع الحمائية الاقتصادية أو التجارية.

اقتصادات الهند الصينية، فيتنام ولاوس وكمبوديا، تأثرت بشكل حاسم بسياسات الصين الاقتصادية، وقد كانت على مدى ثلاثة عقود، الاقتصادات الأسرع نموا في العالم، بعد الصين. سياسات الصين حاليا تؤثر بشكل ملحوظ في السياسة الاقتصادية للهند بقيادة رئيس الوزراء مودي، الذي جعل بلاده، مع الصين، من الاقتصادات الكبيرة السريعة النمو في العالم. أصبح النفوذ الاقتصادي للصين على نطاق واسع في أفريقيا وبدأ ينتشر في بلدان أمريكا اللاتينية، التي تنتهج التنمية الاقتصادية السريعة مثل الإكوادور وبوليفيا.

لم يتمكن أي بلد انتهج مبادئ "إجماع واشنطن" من تحقيق أي نمو اقتصادي مثل الذي حققته الصين. ولكن التغيير الجديد النوعي المتمثل في تحول الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب نحو الحمائية، قد وسع تأثير ودور نموذج الصين الاقتصادي من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة. ومرة أخرى، يعبر ستيفنز عن ذلك بوضوح قائلا: "وبمواجهة تبني السيد ترامب لسياسات "أمريكا أولا " اقتصاديا وأمنيا، لم تعد دعوة بكين لـ" نمط جديد للعلاقات الدولية" كأنها محاولة لقلب النظام الليبرالي الغربي."

الرؤية الاستراتيجية للصين تتوافق مع مصالحها ومصالح الآخرين

في عام 1945، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ريادة التكنولوجيا العسكرية التي لا جدال فيها باعتبارها الدولة الوحيدة التي تمتلك القنبلة الذرية. الصين حتى الآن لا تملك نفس القوة العسكرية العالمية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ومن الواضح أن سياسة كل من أوباما وكلينتون حول "التركيز على آسيا"، وإدارة ترامب الجديدة، تسعى علنا إلى استخدام القوة العسكرية الأمريكية للضغط على الصين.

اقتصاديا، في عام 1945 شكلت الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 30- 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، اعتمادا على الطريقة الحسابية. الصين حاليا ليس لديها مثل ذلك الوزن. وهي أكبر دولة في العالم من حيث تجارة السلع، ولكنها تمثل 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بأسعار السوق و17% من تعادلات القوة الشرائية. لا يمكن للصين أن تفرض خطواتها الاقتصادية على العالم كأمر واقع كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945 .

اليوم، يمكن للصين أن تتخذ مبادرات اقتصادية جزئية أو إقليمية ناجحة؛ مثلا، بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية، وبنك التنمية الجديد (بنك بريكس)، ومبادرة "الحزام والطريق". ولكن الصين لا يمكن أن تخلق حتى الآن إطارا مؤسسيا للعالم بأسره كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945 مع صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والنظام النقدي العالمي القائم على الدولار الأمريكي.

إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1945 تمتلك قيادة الفكر الاستراتيجي والسلطة المؤسسية الساحقة، فإن الصين حاليا تمتلك الجزء الأول (أي قيادة الفكر) ولكنها لا تمتلك الثاني (أي السلطة المالية)، ولا يمكنها أيضا أن تخلق أي إطار على المدى القصير. إذن، ما هي النتائج التي تتبع الديناميكيات الدولية بعد الاستماع إلى الصين في دافوس وبعده؟

الجواب يكمن في أن العلاقة المتبادلة بين الرؤية الاستراتيجية للصين مع المصلحة الذاتية الوطنية ليس للصين فحسب، بل للدول الأخرى. في دافوس، كان من الطبيعي أن يستمع ممثلو البلدان الأخرى بإنصات لمعرفة كيف تؤثر خطط شي جين بينغ من منظور الصين، على بلدانهم. ولكن قوة الاستراتيجية الصينية تكمن في الرؤية الاقتصادية الأساسية التي تتوافق تماما مع مصالح الدول الأخرى، فضلا عن مصالح الصين بطريقة لا يفعلها ترامب. لذا، من الأهمية بمكان أن تتبنى الصين هذا بأوضح العبارات.

الصين تحدد المسار الاستراتيجي الذي يتوافق مع مصلحتها الذاتية الوطنية الخاصة، ومع مصلحة البلدان الأخرى. وسواء اختار قادة دول، لأسباب تكتيكية، أن يقولوا أو أن لا يقولوا ذلك علنا، فإن دولا أخرى تفهم أن الحمائية التي تسيطر الآن على الإدارة الأمريكية الجديدة، هي نهاية اقتصادية مميتة. وثمة دول أخرى أعربت، علانية أو ضمنيا، عن اتفاقها مع ما قاله شي جين بينغ عن العولمة. خلال فترة قصيرة، سيكون هناك اتفاق ضمني أو علني مع ما دعا إليه الرئيس الصيني.

أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية إلى أن ما يدعو للاستغراب هو ما اقتبس عن لينين، والذي أصبح يستخدم على نطاق واسع في الغرب في تحليل الاضطراب الذي سببه ترامب، والعبارة المقتبسة هي "هناك عقود حيث لا يحدث شيء، وهناك أسابيع تحفل بأحداث لم تقع منذ عقود." ولكن هذا الاقتباس أخذه لينين عن ماركس، وحديثه عن "حيوان الخلد القديم" وكيف أن عملية طويلة تجري تحت سطح الأرض، قبل أن تخرج فجأة إلى النور.

"أسابيع تحفل بأحداث لم تقع منذ عقود"، فالأزمة المفاجئة التي برزت بعد انتخاب ترامب، والاهتمام الشديد المترتب على زيارة شي جين بينغ لدافوس، قد حدثت لأن هناك عمليات أساسية تجري تحت سطح الأرض منذ عقود، وها هي تخرج "فجأة" إلى النور. إنها نجاح السياسات الاقتصادية للصين، وفشل السياسات الاقتصادية للاقتصادات الأنجلوسكسونية.

الانفجار الاقتصادي "المجنون" و"المفاجئ" للأنجلوسكسونية في عام 2016، الناتج عن حمائية ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان مجرد الخروج إلى السطح من هذه العمليات التي كانت تجري على مدى عقود. دائرة الضوء الشديد تحولت مع خطاب شي جين بينغ، وأصبحت الصين بؤرة اهتمام الاقتصاد العالمي، وذلك تتويجا لعقود من دراسة الحزب الشيوعي الصيني للغرب.

الاهتمام العالمي بزيارة شي جين بينغ إلى دافوس، هو في نهاية المطاف نتيجة لحقيقة أن السياسات الاقتصادية للصين منذ عام 1978 فصاعدا، أدت إلى نمو اقتصادي غير مسبوق، في حين أن السياسات الاقتصادية للبلدان الأنجلوسكسونية أدت بها إلى كارثة اقتصادية حمائية. الصين، وعلى وجه الدقة الحزب الشيوعي الصيني، كان لها بُعد نظر عن الغرب.

هناك بالفعل "أسابيع تحفل بأحداث لم تقع منذ عقود." هذا العام شهد دافوس اجتيازا ملموسا "للفكر القيادي" للاقتصاد العالمي من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين. ولكن هذا يحدث فقط لأنه منذ أكثر من ثلاثة عقود كان النمو الاقتصادي يتم بسرية تحت الأرض.