الابتكار
قوة الدفع الدائمة لنمو الاقتصاد الصيني

في اللقاءات التي جمعتني مؤخرا مع عدد من الأصدقاء العرب، كان موضوع التنمية محور أحاديثنا. ومع تباطؤ انتعاش الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، كيف يمكن للاقتصاد الصيني الحفاظ على معدل نمو بسرعة بين متوسطة وعالية؟ اهتمام أصدقائي دفعني للقيام ببعض الدراسة، وطلبت أيضا مشورة عدد من العلماء، وأرجو أن تساعد هذه المقالة القصيرة في فهم الوضع الحالي للاقتصاد الصيني وآفاق نموه.

الاقتصاد الصيني مستقر ويتحسن

في عام 2016، حافظ الاقتصاد الصيني على معدل نمو مستقر، فقد زاد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7ر6% على أساس سنوي. وعلى الرغم من أن هذه النسبة أقل 2ر0 نقطة مئوية بالمقارنة مع عام 2015، فإن معدل النمو لا يزال في حدود معقولة نسبيا. جدير بالذكر هنا، أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير لعام 2016، بلغ 8ر6% مقارنة مع نفس الفترة لعام 2015، محققا ارتفاعا لأول مرة خلال تسعة أرباع سنوية متتالية. هذا دليل على أن الاقتصاد الصيني، وبرغم الاتجاه التراجعي للاقتصاد العالمي، لا يزال في "الوضع الطبيعي الجديد"، بما يعني قدرته على الحفاظ على معدل نمو مستقر والاتجاه إلى الأفضل في ظل معدل نمو معتدل. وفقا لتقرير أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنميةمؤخرا، في عام 2016، ازداد حجم الاستثمار الأجنبي المباشر داخل الصين بنسبة 3ر2%، مقارنة مع عام 2015، ليصل إلى 139 مليار دولار أمريكي، محققا أعلى قيمة في تاريخ الاستثمارات الأجنبية في الصين، وثالث أكبر قيمة بين دول العالم. التنمية الاقتصادية الصينية حاليا لا تسعى إلى سرعة معدل نمو بشكل أعمى، بل تركز على تكييف الهيكل الاقتصادي، وقد حققت نتائج ملموسة في هذا الصدد، فتحقق تخفيف التوتر بين العرض والطلب وتخفيف الأعباء الثقيلة عن كاهل الموارد والبيئة، كما تحقق نمو مستقر للتوظيف، وسلامة الأعمال المالية، والسيطرة على المخاطر المالية، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. يتوقع الخبراء أن تواصل الصين في عام 2017، توسيع مجالات انفتاحها على الخارج، والحفاظ على مستوى عال في جذب الاستثمارات الأجنبية، وتحسين هيكل ونوعية الاستثمارات الأجنبية.

منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، أصبحت الصين "حجر التثبيت" للاستقرار الاقتصادي العالمي و"محرك" نمو الاقتصاد العالمي، فاقتصاد الصين الثابت هو مصدر استقرار الاقتصاد العالمي. من عام 2008 حتى عام 2015، ساهمت الصين بما يقرب من 40% من زيادة الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ووفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، في عام 2016، بلغت مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي نحو 39%، أي ضعفي مساهمة كل الدول المتقدمة. المثير للإعجاب أيضا هو إنجازات الصين في مجال الابتكار، ولعبت الصين دورا متزايد الأهمية لا غنى عنه في حوكمة الاقتصاد العالمي.

الابتكار هو الأهم في التنمية الاقتصادية

الابتكار أحد أسرار نجاح الاقتصاد الصيني وقوة الدفع الدائمة. طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مفاهيم التنمية الخمسة المتمثلة في "الابتكار والتناسق والخضرة والانفتاح والتمتع المشترك"، فقد وضع الابتكار في المكانة الرئيسية وأوضح اتجاه ومتطلبات التنمية الصينية. الابتكار هو القوة الدافعة الرئيسية للتنمية واتجاه التنمية في العالم حاليا، وقد أدركت الحكومة الصينية أهمية التمسك بمنظومة التطور بشكل عميق. إن قيادة وتنفيذ "مفاهيم التنمية الخمسة"، وفي مقدمتها الابتكار، تغير الوضع العام للتنمية الصينية تغييرا عميقا، وتمثل قوة دافعة عظيمة لبناء مجتمع الحياة الرغيدة وتحقيق الحلم الصيني بالنهوض العظيم للأمة الصينية. واستنادا إلى واقع الصين وتجارب تنميتها المعاصرة، شكلت الصين أفكار التنمية المتمثلة في: التمسك بخدمة الشعب كركيزة لها، وتكييف وتوجيه "الوضع الطبيعي الجديد" للتنمية الاقتصادية الصينية، والتمسك بمفهوم التنمية الابتكارية، واتخاذ الإصلاحات الهيكلية لجانب العرض كأساس الإصلاح، والحفاظ على التقدم من خلال حفظ الاستقرار. هذه المفاهيم الاقتصادية الخمسة للحكم والإدارة، توفر موارد نظرية غنية وتوجيهات سياسية. هذا، إضافة إلى التمتع بالثقة القوية في الطريق الذي اختارته الصين للتنمية، والسعي للمساهمة في تقدم البشرية، والعمل بنشاط لتعزيز تكاتف المجتمع الدولي، والتمسك بمبدأ المصير المشترك للبشرية، ودعم مفاهيم التشاور والبناء والتمتع المشترك. ترفض الصين بحزم الأحادية والاحتكار والإقصاء، وتدعو إلى تعزيز العولمة الاقتصادية لإقامة مجتمع المصير المشترك للبشرية، المتمثل في التعاون وتحقيق الرخاء المشترك والوحدة في الضراء، لبناء عالم أكثر سلاما وأكثر ازدهارا. بلغ عدد براءات الاختراع الصينية في عام 2015 أكثر من مليون، واحتلت الصين المرتبة الأولى في العالم من حيث عدد طلبات براءة الاختراع. كما أدرجت الصين، التي تتولى الرئاسة السنوية لقمة مجموعة العشرين لعام 2016 في مدينة هانغتشو، "الابتكار" في الموضوع الرئيسي للقمة، ودفعت صياغة "خطة قمة مجموعة العشرين للنمو الابتكاري" وغيرها من الوثائق الختامية، وقد حظي ذلك بترحيب العالم.

الابتكار ضرورة واقعية

الاقتصاد الصيني حاليا لديه نقطة انطلاق جديدة للتنمية. إن وضع الابتكار في قلب الوضع العام للتنمية الوطنية مطلب واقعي. في العالم الحالي، ما زال التناقض بين العرض والطلب هو أكبر تناقض تواجهه التنمية، لا سيما التناقض بين الموارد المحدودة والطلب غير المحدود. مع تزايد عدد السكان، يزداد الطلب وجودة الطلب، ويصبح التناقض بارزا على نحو متزايد. مفتاح حل هذا التناقض يكمن في الابتكار، خصوصا الابتكار التكنولوجي الذي أصبح تيارا رئيسيا واتجاها غالبا في العالم كله. إن وضع الابتكار في قلب الوضع العام للتنمية الوطنية، يعكس فهما عميقا لقانون تطور المجتمع الإنساني.

يتأهب العالم لجولة جديدة من الثورة التكنولوجية والثورة الصناعية، تستخدم فيها على نطاق واسع تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المواد الجديدة وتكنولوجيا الطاقة الجديدة. إن وجود أي بلد في طليعة التنمية العالمية يعتمد على الابتكار؛ ويعتمد نهوض الأمم على الابتكار أيضا. لذا، تسرع دول العالم الكبيرة بتطوير قوتها الابتكارية. في الحقيقة، أساس الصين في الابتكار ضعيف وقوتها الابتكارية ليست قوية بالمقارنة مع دول العالم الكبرى الأخرى، وتحتاج الصين إلى بذل جهود ضخمة للحاق بركب قوى الابتكار الكبرى في العالم. لا يمكن مواكبة اتجاه الابتكار والتطوير العالمي بشكل عميق إلا بوضع الابتكار في قلب الوضع العام للتنمية الوطنية، وصولا إلى قيادة العالم في الابتكار والتطوير.

أثبتت القرون الماضية، منذ الثورة الصناعية، أن الابتكار هو القوة الدافعة لقيادة التنمية. يمكن القول إن الابتكار هو الذي يقرر أفكار واتجاه وملامح التنمية الوطنية. على أساس نقطة الانطلاق التاريخية الجديدة، وفي مواجهة تحديات الواقع الجديد، أقامت الصين بحزم مفهوم التنمية الابتكارية، وتنفذ استراتيجية التنمية المدفوعة بالابتكار. إن الابتكار، وخاصة الابتكار الشامل، ينطوي على كافة الإصلاحات في البناء العلوي والقاعدة الاقتصادية والعلاقات الإنتاجية والقوى الإنتاجية. يمكن القول إن الإبداع الفكري والنظري هو دليل التنمية والتغيرات الاجتماعية. كما أن التكنولوجيا هي قوة الإنتاج الأولى، والابتكار التكنولوجي هو أهم شيء للابتكار الشامل. في الوقت نفسه، يجب أن نولي أهمية كبيرة للابتكار الثقافي، الذي يعد أساس الحفاظ على حيوية وتماسك الأمة، وأن توفر كافة النشاطات الابتكارية قوة روحية لا تنضب. في الوقت الحاضر، تسعى التنمية الابتكارية لتعزيز تحويل أسلوب التنمية الصينية من النمو بنمط واسع النطاق وسريع وانتشاري إلى نمو بنمط عالي الجودة وفعال ومكثف، وتحويل الهيكل الاقتصادي من زيادة الإنتاج والقدرة إلى تعديل المخزون وتحسين زيادة الإنتاج.  وتحويل القوة الدافعة للتطوير من الاعتماد على الموارد والعمالة المنخفضة التكاليف وغيرها من العناصر إلى الاعتماد على الابتكار.

وقد أثبتت وقائع شتى أن الابتكار، كقوة دافعة رئيسية للتطوير، يحدد سرعة وحجم وهيكل وجودة وكفاءة التنمية. من خصائص التنمية، في ظل الظروف التاريخية الجديدة، أن استخدام الموارد الطبيعية أقل، مع استخدام العناصر الابتكارية بصورة متزايدة. على الرغم من أن حجم الاقتصاد الصيني كبير، فإن عدد سكانها ضخم ومتوسط نصيب الفرد من مواردها الطبيعية قليل. لا يمكن أن يستمر نمط التنمية التقليدي المعتمد على الأرض والعمالة ورأس المال. ينبغي أن تعتمد الصين على الابتكار، وخصوصا الابتكار التكنولوجي، وأن تتخذ التنمية الابتكارية لتحقيق التنمية المستدامة والخروج من عنق الزجاجة في تطوير الاقتصاد والمجتمع، وصولا إلى تجاوز "فخ الدخل المتوسط".

تنمية الاقتصاد الحقيقي لها أهمية خاصة في التنمية الاقتصادية، مفتاح تحقيق تنمية الاقتصاد الحقيقي هو القيادة الابتكارية، أي القيادة بالابتكار التكنولوجي والابتكار النظامي، وزيادة معدل التقدم التكنولوجي ومعدل إنتاجية العمالة لتنمية الاقتصاد الحقيقي من خلال الابتكار التكنولوجي، ورفع كفاءة تخصيص الموارد لتنمية الاقتصاد الحقيقي من خلال الابتكار النظامي، وخلق بيئة دولية وقانونية وتجارية ملائمة لتنمية الاقتصاد الحقيقي من خلال الإصلاحات شاملة. وبالإضافة إلى ذلك، الأكفاء المتخصصون هم المورد الأول لدعم التنمية الابتكارية، إذ أن الابتكار يعتمد على الأكفاء في النهاية. ينبغي رفع نوعية جميع العلماء وتنفيذ سياسة أكثر نشاطا لجذب أكفاء الابتكار، وخاصة التركيز على تدريب الشباب من الأكفاء المبتكرين وأكفاء العلوم والتكنولوجيا في الخطوط الأمامية.

في السنوات الأخيرة، تدعو الحكومة الصينية بقوة إلى مفهوم التنمية الابتكارية، مؤكدة على تكامل الوعي والعمل على التنمية الابتكارية. إن التمسك بالابتكار هو السعي للتنمية والمستقبل الواعد. ينبغي للحكومات على مختلف المستويات أن تغير وظائفها، والتحول من البحث والإدارة إلى خدمة الابتكار، واتخاذ الابتكار التكنولوجي كأهم مورد استراتيجي؛ وزيادة الاستثمار ورفع كفاءة تشغيل الموارد الابتكارية، وتوسيع حجم الاستثمارات في الابتكار وريادة الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز الضمانات القانونية للابتكار، وخلق بيئة سوق عادلة ومنفتحة وشفافة لتعزيز قوة الابتكار، وخلق بيئة اجتماعية مواتية للتنمية الابتكارية.

التنمية الابتكارية الصينية تهدف إلى الانفتاح والتعاون والفوز المشترك

في يناير عام 2017، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ خطابا أمام الجلسة الافتتاحية للاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا، مؤكدا أن تنمية الصين لا تنفصل عن تنمية العالم، وأن تنمية العالم لا تنفصل عن تنمية الصين أيضا. ستتمسك الصين بثبات بتطوير اقتصاد منفتح، والمشاركة في المصالح والفرص من خلال الانفتاح لتحقيق المنفعة المتبادلة والفوز المشترك. لقد جلبت التنمية الاقتصادية الصينية فرصا كبيرة للعالم، والصين في طريقها لتكون "المشتري" الرئيسي و"مستثمرا" هاما في السوق العالمية. في الأعوام الخمسة المقبلة، من المتوقع أن تبلغ قيمة واردات الصين ثمانية تريليونات دولار أمريكي وأن تجذب الصين استثمارات أجنبية تبلغ قيمتها ستمائة مليار دولار أمريكي، وأن تصل قيمة استثمارات الصين الخارجية إلى سبعمائة وخمسين مليار دولار أمريكي. وقال الرئيس شي إنه من المتوقع أن يقوم الصينيون بسبعمائة مليون زيارة إلى الخارج. أطلقت الصين مبادرة "الحزام والطريق"، وأقامت البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية الجديد لدول بريكس وصندوق تعاون الجنوب- الجنوب، وغير ذلك من المنتجات العامة في مجال التنمية. على مدى سنوات، وفرت الصين معاملة تجارية تفضيلية للبلدان الأقل نموا، مع إعفاء وارداتها من منتجات تلك الدول من الرسوم الجمركية؛ كما تزيد الصين حجم الاستثمار والمعونات الخارجية، وتبادر بمساعدة الدول النامية على تقليل ديونها المستحقة للصين، وغير ذلك. كل هذه التصرفات تقدم فرصا كبيرة للغاية لجميع الأسواق الناشئة والبلدان النامية. لقد دخلت العولمة الاقتصادية فترة مؤقتة من التكيف والتحول. ينبغي التكيف مع الاتجاهات الجديدة وتلبية المتطلبات الجديدة ومعارضة الحمائية التجارية لبناء "نسخة مطورة" للعولمة. من خلال مشاركة دول العالم في العولمة الاقتصادية، ينبغي الاهتمام بالاندماج مع تجارب التنمية الذاتية، والتركيز على حل قضية العدالة، مما يقود العولمة الاقتصادية إلى اتجاه أكثر شمولا وتحقيق المنافع المشتركة؛ كما ينبغي دعم النظام التجاري المتعدد الأطراف، ووضع تعزيز التجارة الحرة وحرية حركة رأس المال في مكانة أبرز، لإحياء حيوية التجارة والاستثمار؛ وينبغي التعامل بفعالية مع ظاهرة "تفتيت" اتفاقيات التجارة الإقليمية، والدعوة إلى الانفتاح والتسامح لمنع الانعزالية والشعبوية؛ وينبغي تعزيز قوة ترابط استراتيجيات التنمية بالمبادرات التعاونية، لتحقيق التنمية المشتركة. ستواصل الصين المشاركة في مسيرة العولمة وتقديم مساهمة إيجابية فيها.