الصين في ((السياسة الدولية))

مجلة ((السياسة الدولية)) دورية متخصصة في الشؤون الدولية تصدر عن مؤسسة "الأهرام" المصرية، أسسها عام 1965 الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، وتولى رئاسة تحريرها حتى عام 1991. الصين كانت موضوع ملحق "تحولات استراتيجية على خريطة السياسة الدولية" للمجلة في عدد يناير 2017، والذي حمل عنوان ((القطب الصيني.. محددات تطور دور الصين في مرحلة إعادة الهيكلة الدولية)).

يناقش هذا الملف، وفقا لموضوع البحث الذي حدده مالك عوني، مدير تحرير ((السياسة الدولية)، آفاق السياسة الخارجية الصينية في ضوء التراجع النسبي في معدلات نموها الاقتصادي على أساس سنوي، وكذلك في ضوء التحولات المتسارعة في الأدوار الدولية مع حالة السيولة المتزايدة في التفاعلات الدولية. وقد ساهم في هذا الملف ستة باحثين عرب، تناول كل منهم جانبا من محددات دور الصين في مرحلة إعادة الهيكلة الدولية. في مقدمة الملف، التي حملت عنوان "السياقات الغالبة: الصعود الصيني إلى اللاقطبية"، يستعرض مالك عوني النمط الصيني في مراكمة القوة، مشيرا إلى تقديرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لحجم الناتج المحلي الإجمالي لكل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية في عامي 2014 و2015، وفقا لمنهجيات إحصاء مختلفة، ويرى أن مؤشرات تنامي قوة الصين عالميا لا تقتصر على نمو ناتجها المحلي الإجمالي، وإنما تشمل أيضا أهمية ما يتمتع به هذا الاقتصاد من دور عالمي متنام وآخذ في التوسع، وما يحظى به من درجة استقرار في المقومات الاقتصادية الأخرى لهذا النمو. ويناقش عوني أيضا معضلات تحول الصين إلى قطب دولي، مشيرا إلى أن العالم بدأ بالفعل يشهد إرهاصات حقبة تعددية قطبية، لا تقتصر على المجال الاقتصادي فحسب وإنما تمتد أيضا إلى الفضاء السياسي/ العسكري والمعرفي. ويخلص في نهاية مقدمته إلى أن بنية النظام العالمي الراهنة، والتحديات التي تواجهها الصين داخليا وخارجيا، ستدفعان السياسة الخارجية الصينية للانخراط بدرجة أكبر في شبكة تفاعلات لا قطبية، في الأمدين القريب والمتوسط، بأكثر مما تسعى إلى إعادة بناء قطبي شامل في النظام الدولي، بانتظار وضوح الرؤية بالنسبة لحدود صعود القوى الدولية الأخرى، خاصة روسيا، واكتمال تأسيس ركائز الحضور الإقليمي الصيني، ممثلا في مشروع إعادة إحياء طريق الحرير القديم.

الورقة الأولى، بعد المقدمة، في هذا الملف أعدها د. محمد نعمان جلال، خبير الدراسات الصينية وسفير مصر الأسبق لدى الصين، وحملت عنوان "الإحياء الحضاري: أي مستقبل للصين في النظام الدولي؟". تركز هذه الورقة على المحددات الثقافية والتنموية والمجتمعية شديدة الخصوصية للصين، والتي تجعل لرؤيتها تمايزها وتفردها. ويرى د. جلال أن الصين الحالية تعتمد في بناء رؤيتها وسياستها الخارجية وتعاملها مع العالم، على مجموعة من الآليات الحضارية التي قامت بإحيائها وتجديدها، وعلى المقومات السياسية والاقتصادية والمجتمعية التي تطورت خلال العقود الأربعة الماضية. ويطرح د. جلال أربعة سيناريوهات لدور الصين الدولي في الأمد المنظور، الأول: أن تتحول إلى قوة عالمية عظمى، متوقعا أن تظل الصين القوة الثانية في العالم على الأقل حتى منتصف القرن الحادي والعشرين؛ الثاني: أن تتحول الصين إلى قوة إقليمية، ولكن غير مهيمنة؛ الثالث: استمرار الصين كقوة صاعدة في إطار حدودها الوطنية، ويرى أن هذا السيناريو يواجه العديد من المعضلات؛ الرابع: أن لا تسعى الصين للهيمنة الإقليمية أو العالمية وإنما تكرس نموذجا إقليميا يعيد إحياء مفهوم الحضارة الصينية في سلوكها التاريخي، والمتمثل في بناء الصين القوية ووحدة الصين وترابها الوطني والتعامل مع العالم الخارجي من خلال التعاون الاقتصادي.

الورقة الثانية التي حملت عنوان "أولوية الاقتصاد: انعكاسات تحول نمط التنمية على آفاق الصعود الصيني"، أعدها حسين إسماعيل نائب رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة ((الصين اليوم)). تبحث هذه الورقة مدى كفاية نمط التنمية الذي تنتهجه الصين لمواصلة تقدمها، وصعودها على المسرح الدولي. يشير الباحث في بداية الورقة إلى عبارة قالها الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ خلال جولته التفقدية لجنوبي الصين عام 1992، فقد قال السيد دنغ: "ربما نحتاج إلى ثلاثين سنة أخرى لتشكيل مجموعة كاملة من النظم الأكثر نضوجا والأكثر رسوخا في المجالات المختلفة." الموعد الذي أشار إليه السيد دنغ، مهندس سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية، يصادف احتفال الصين عام 2021 بذكرى مرور مائة سنة على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني، وهو ذات التاريخ الذي تستهدف فيه القيادة الصينية تحقيق "مجتمع الحياة الرغيدة على نحو شامل" (شياو كانغ بالصينية). وفي النصف الثاني من عام 2017، يعقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره الوطني التاسع عشر، الذي يضع سياسات الصين لمدة خمس سنوات تمتد حتى عام 2022، في ظل تغيرات داخلية وإقليمية ودولية عميقة، ووسط تكهنات متباينة بمستقبل التنمية الصينية بعد تراجع معدل النمو السنوي للاقتصاد الصيني في السنوات الأخيرة.

وتؤكد الورقة على أنه من الأهمية بمكان، قبل تحليل "التنمية الصينية" وتجلياتها في سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية، التوقف عند الخلفية الفلسفية والثقافية للصين والتي مازالت محددا هاما لرؤية الصين لنفسها وللعالم. وحدد الباحث خصائص التنمية الصينية، بأنها، أولا: مركزية القيادة، ما يجعل الحكومة اللاعب الرئيسي في عملية التنمية الاقتصادية وتحديد اتجاهها وأهدافها، من خلال المؤسسات المملوكة للدولة أو من خلال المؤسسات ذات العلاقة الوثيقة مع الدولة؛ ثانيا: الانفتاح على الخارج والتعلم من الأنماط الأخرى، حيث أتاح الانفتاح للصين الحصول على التكنولوجيا المتقدمة وأسلوب الإدارة الحديث والمعارف المتقدمة ورأس المال الأجنبي؛ ثالثا: الاستدامة والقدرة على التكيف، فالصين تنتهج في تنميتها أسلوب "التجربة والتقويم، ثم إعادة التجربة وإعادة التقويم"، استنادا إلى مقولة دنغ شياو بينغ "عبور النهر بتحسس الأحجار"، رابعا: العائد الديموغرافي، وإن كان دور العائد الديموغرافي بدأ يتراجع في السنوات الأخيرة مع ارتفاع الأجور؛ خامسا: الاستقرار السياسي والتدرج في الإصلاح، فقد حققت الصين إنجازات اقتصادية واجتماعية هائلة لم تسبقها أو ترافقها تنمية سياسية بنفس السرعة.

وتنوه الورقة إلى أن اتجاه الصين إلى ما يسمى بـ"الوضع الطبيعي الجديد"، ضرورة اقتضتها ظروف داخلية وتطورات خارجية، تمثلت في انخفاض الطلب المحلي وإصلاح قطاع العقارات والإصلاحات الهيكلية العميقة، فضلا عن تراجع الطلب الخارجي لاقتصاد ظل يعتمد لفترة طويلة على التصدير. وتستعرض الورقة مسببات وتداعيات تباطؤ معدل نمو الاقتصاد الصيني، مبينة أن تراجع معدل النمو في السنوات الأخيرة ليس استثناء، وإنما الاستثناء هو استمرار التراجع لفترة طويلة نسبيا في السنوات السبع الأخيرة، وأن صعود وهبوط معدل نمو الاقتصاد الصيني خلال تلك الفترة تأثر بالتطورات الداخلية والإقليمية والعالمية. ويوضح الباحث أن التشكيك الغربي في بيانات الاقتصاد الصيني، جزء من إطار أوسع للتشكيك الغربي في مقاصد الصين وسياساتها. بدأ ذلك بنظرية "التهديد الصيني"، ثم نظرية "انهيار الصين"، التي ظهرت للمرة الأولى بعد عام 1989، مبينا أن الأسباب الرئيسية لتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني ليست أسبابا هيكلية تخص الاقتصاد الصيني بقدر ما هي أسباب خارجية.

وحول انعكاسات تنمية الصين في سياستها الخارجية، يلخص الباحث الملامح الرئيسية للسياسة الخارجية الصينية بأنها: البراغماتية، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتفادي الاصطدام مع واشنطن. ويخلص الباحث إلى أن دور الصين في بنية النظام الاقتصادي والسياسي العالمي يرتبط بتوسع إطار مصالحها الاستراتيجية، وبخبرتها التاريخية وثقافتها ورؤيتها للتطورات الجارية في مناطق العالم المختلفة. ويرى أن الصين معنية بتعديل قواعد النظام الاقتصادي الدولي أكثر من اهتمامها بتعديل الهيكل السياسي الدولي. وإذا كان الخطاب السياسي الصيني يدعو إلى إقامة نظام دولي أكثر عدالة وإنصافا ومتعدد الأقطاب، فإن الصين ترى نفسها "مُصلِحة" لهيكل النظام الدولي، وتعتقد أن النظام الدولي الحالي لا يمكن تبديله ولا يمكن أن يبقى على حاله أيضا.

الورقة الثالثة حملت عنوان "التوسع المتدرج: السيرورة الجدلية لتطوير الصين أدوات سياستها الخارجية"، أعدها الباحث المغربي سامي السلامي، وتتناول أدوات السياسة الخارجية الصينية، وهي: الأدوات الدبلوماسية، الأدوات الاقتصادية، الأدوات المعرفية، والأدوات العسكرية. ويشير الباحث إلى أن التدرج يعد مبدأ أساسيا طبع مسار أدوات السياسة الخارجية الصينية وسياقات تطورها منذ انهيار النظام ثنائي القطبية، وأن الأدوات الاقتصادية تطورت في السياسة الخارجية الصينية داخليا وخارجيا، كما عرفت الأدوات العسكرية تطورا مطردا. ويحدد الباحث أربعة سيناريوهات لما يُسميه بنموذج التنمية الصيني، الأول: العودة إلى نموذج تنمية مبني على أفكار التيار المحافظ، بالتطوير العلمي لآليات الاقتصاد الموجه؛ الثاني: تسريع عملية الاندماج في السوق تبعا لأفكار تيار اليمين الإصلاحي وتحرير الأسعار وجعل السوق يحدد قيمة العملة الوطنية، الثالث: تأسيس منظومة تنمية تأخذ من الاشتراكية المثالية والحركة التعاونية لروبرت أوين نموذجا؛ الرابع: الاستمرار على أفكار دنغ شياو بينغ بنهج اقتصاد السوق الاشتراكي دون رفع تحكم الدولة في العملة.

الورقة الرابعة التي حملت عنوان "الانخراط الحذر: هل تقيد سياسة التوازن دور الصين في الشرق الأوسط؟" أعدها د. وليد عبد الحي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة اليرموك الأردنية. محددات السياسة الخارجية الصينية المعاصرة وفقا للدكتور عبد الحي هي، أولا: غلبة النزعة البراغماتية على حساب النزعة الأيديولوجية؛ ثانيا: غلبة نزعة الحوار على نزعة المواجهة على المستوى الدولي؛ ثالثا: أولوية النموالاقتصادي وانعكاسه على النمو المتواصل في النفقات الدفاعية؛ رابعا: التأني في إدارة العلاقات الخارجية وعدم التسرع في السعي لتحقيق موقع متقدم في النظام الدولي. ووفقا لتلك المحددات يرى د. عبد الحي أن السيناريو الأرجح للسياسة الصينية المستقبلية في الشرق الأوسط، هو اعتماد سياسة التوازن بين المتخاصمين الإقليميين، واعتماد وجود عسكري "خدماتي" في المنطقة، وبقاء دور نسبي في تسوية المنازعات في المنطقة خلال السنوات الخمس المقبلة على الأقل، وضمان علاقات جيدة مع كل دول المنطقة لضمان عبور مشروع "الحزام والطريق" المناطق المقرر له عبورها لربط أسواق الصين بأوروبا عبر الشرق الأوسط.

 الورقة الأخيرة في هذا الملف أعدتها الباحثة المصرية المتخصصة في الشؤون الآسيوية د. نيللي كمال الأمير، بعنوان "القيادة المؤجلة: استراتيجية الصين لتأسيس ركائز التعددية الدولية". تقسم الباحثة توجهات السياسة الخارجية الصينية إلى شقين: توجهاتها تجاه دول الدائرة التقليدية، وتوجهاتها تجاه دول وأقاليم آخذة في الصعود على سلم الأولويات الصينية. وتخلص الورقة إلى أن الصين تدير علاقات تعاونية ممتدة، تتمتع فيها بمواقف قوة تزيد من مقومات قوتها الاقتصادية التي حققتها خلال مسيرة تنميتها، وتؤهلها للوصول لمكانة "قوة كبرى" ولكنها لم تصل بعد لمكانة القطب الدولي المكافئ للولايات المتحدة الأمريكية.