شاديان
منارة التعليم الإسلامي في جنوبي الصين

شاديان بلدة صغيرة تابعة لمدينة قهجيو في مقاطعة يوننان بجنوبي الصين. هذه البلدة، التي لا يتجاوز عدد سكانها عشرة آلاف نسمة، مشهورة في الصين كونها تجمعا كبيرا للمسلمين، ومسقط رأس عدد من كبار علماء المسلمين الصينيين مثل ما جيان ولين سونغ.

شاهدة على تاريخ المسلمين في مقاطعة يوننان

شاديان، برغم أنها بلدة صغيرة نسبيا، تحتل مكانة خاصة في نفوس مسلمي الصين، إذ أنها تحافظ على العادات التقليدية الإسلامية، وبها مسجد شامخ ظل صامدا عبر التاريخ. يعد مسجد شاديان الكبير من الرموز المعمارية لهذه البلدة، ومزارا يقصده كثير من المسلمين. يبدو المسجد بلونه الأبيض مهيبا مقدسا، وعندما تضاء مصابيحه في الليل يتحول إلى منارة روحية للمسلمين المحليين. المسجد غير محاط بأسوار، فهو مفتوح في كل وقت وحين. أمامه ساحة كبيرة، يتمشى فيها الناس ويلعب الأطفال. وقد أصبح هذا المسجد مركزا للنشاطات الثقافية في البلدة، ومقصدا سياحيا يأتيه الزوار من أنحاء البلاد لالتقاط الصور، بل ويأتيه البعض لالتقاط صور الزفاف أمامه.

يقع المسجد بالقرب من "شارع المسلمين"؛ الطريق الرئيسي في شاديان. في هذا الشارع كثير من المطاعم الإسلامية والمحلات التي تبيع الملابس القومية التقليدية، كما يحتضن مكتبة يانغتشنغ التي أقامها رجل أعمال مسلم، لتكون مقرا للاجتماعات والندوات ومطالعة الكتب. كان اقتصاد شاديان يعتمد في السابق على المعادن، أما الآن، فتعمل البلدة على تنمية الصناعات الجديدة وتشجع الشباب على إقامة أعمالهم الخاصة.

تاريخ المسلمين في مقاطعة يوننان طويل. بعد دخول المغول إلى مقاطعة يوننان، عينوا السيد الجليل عمر شمس الدين، حاكما لها. ولد شمس الدين في بخارى (بأوزبكستان الحالية) لأسرة ذات مركز ديني وسياسي مرموق هاجرت إلى آسيا الوسطى مع الفتوحات الإسلامية. كانت يوننان، قبل وصول شمس الدين، مقاطعة فقيرة نظامها الزراعي متخلف وضعيف. بدأ السيد الأجل شمس الدين إصلاحا شاملا في المقاطعة، فأعاد تنظيم هيكلها الإداري للمنطقة ونزع السلطات من كبار القادة الإقطاعيين وجنرالات الجيش، وفصل السلطة العسكرية عن المدنية. كما شق قنوات الري، ولا يزال نظام الري الذي أقامه شمس الدين يعمل في بعض أجزائه حتى اليوم. بفضل الإنجازات التي حققها شمس الدين، أصبحت مدينة كونمينغ، عاصمة مقاطعة يوننان، لأول مرة في التاريخ مركزا إقليميا ثقافيا واقتصاديا وتجاريا، وأصبحت يوننان مستقرة ومزدهرة.

بالإضافة إلى تحسين الإدارة والتنمية الاقتصادية، أولى السيد الأجل عمر شمس الدين اهتماما واحتراما للثقافة القومية والدين لتحقيق التناغم القومي، فحظي بدعم أبناء يوننان، وجعل هذه المقاطعة جزءا أصيلا من الصين. نشر السيد عمر شمس الدين الإسلام في يوننان، ومنذ ذلك الوقت، بدأ يظهر المسلمون في يوننان.

معهد يوي فونغ

تولي شاديان اهتماما بالغا بالتعليم منذ تاريخها القديم، فهي مسقط رأس العديد من كبار العلماء. أثناء حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، كان يقوم بالتدريس هنا كبار أساتذة جامعة الاتحاد لجنوب غربي الصين، وهي جامعة شاملة تتكون من عدة جامعات مشهورة في الصين، وكانت تمثل أرقى مستوى للتعليم الجامعي حينذاك، كما أنها سابقة لجامعتي بكين وتشنغهوا الحاليتين. الآن، تطبق شاديان نظام التعليم الإلزامي للمرحلتين الابتدائية والإعدادية.

يعد معهد يوي فونغ دليلا على تاريخ التعليم المرموق في شاديان. تأسس هذا المعهد القديم سنة 1892، أي قبل أكثر من مائة سنة، عندما تبرع أحد أبناء البلدة لبناء معهد خاص يتعلم فيه أطفال البلدة. واصل أبناء البلدة التبرع لدعم الأعمال التعليمية لهذا المعهد، وفي عام 1923، تم توسيع المعهد وحصل على مزيد من التمويل لتحسين الظروف التعليمية. مازال المعهد حتى اليوم محافظا على ملامحه الأصلية بشكل جيد، وقد أصبح متحفا صغيرا، يعرض للسياح الروح المفتوحة لشاديان واهتمامها بالتعليم.

عندما نتحدث عن التعليم في شاديان، فلابد أن نذكر باي ليانغ تشنغ.

باي ليانغ تشنغ رجل أعمال ناجح، وهو مؤسس العلامة التجارية "جبل ناننوه" لشاي بوآر في يوننان. تعلم زراعة وتصنيع الشاي خارج الصين، وساهم في تنشيط الاقتصاد الوطني بأعماله التجارية في مجالات الشاي والمعادن وصناعة الغزل والنسيج والزراعة. وفي الوقت نفسه، انخرط باي ليانغ تشنغ في قضية التعليم، وبذل جهوده لتأسيس معاهد محلية ومساعدة الشباب لإكمال الدراسة وتأسيس مدارس أبناء الأقليات القومية. دعا باي ليانغ تشنغ  إلى إصلاح التعليم الديني، وأضاف دروسا حديثة في نظام التعليم الديني التقليدي، مما جعل التعليم الديني في مقاطعة يوننان يواكب العصر الحديث. وبفضل أعمال باي ليانغ تشنغ في مجال التعليم، ظهر النظام التعليمي الشامل في شاديان، الذي جمع بين التعليم الوطني العادي والتعليم القومي الديني، في مختلف المراحل التعليمية؛ الابتدائية والإعدادية والثانوية، فكانت شاديان مركزا ثقافيا في مقاطعة يوننان في الماضي.

وفي مرحلة حرب المقاومة الصينية ضد الغزو الياباني، حاضر في معهد يوي فونغ العديد من الأساتذة الكبار المشاهير، ومنهم شيا كانغ نونغ؛ المعلم الكبير ومترجم رواية ((غادة الكاميليا)) إلى الصينية، وتساو لي وو؛ المدير الأسبق للمدرسة الإعدادية في جامعة تونغجي، وتشنغ بين بي؛ الرئيس الأسبق لقسم الفلسفة بجامعة بكين، ونائب رئيس جمعية الفلسفة الصينية وغيرهم، الأمر الذي وضع قاعدة متينة للازدهار الثقافي في شاديان.

تخرج كثير من العلماء في معهد يوي فونغ، وخاصة العلماء الذين تخصصوا في الدراسات الإسلامية والتبادل الثقافي بين الصين والعالم العربي. أعد المعهد وأرسل الدفعة الأولى من الطلبة الصينيين الوافدين إلى مصر، ومنهم ما جيان، وتشانغ تسي رن، ولين تشونغ مينغ، ولين شينغ هوا، ولين شينغ تشي، الذين صاروا رواد تعليم الثقافة الإسلامية واللغة العربية في الصين.

من أشهر العلماء الذين أعدهم معهد يوي فونغ السيد ما جيان، العالم الكبير ابن قومية هوي، ورائد الثقافة الإسلامية وتعليم اللغة العربية والترجمة بين الصينية والعربية. تولى رئاسة قسم اللغة العربية في جامعة بكين، وقام بأعمال الترجمة للرئيس ماو تسي تونغ وغيره من القادة الصينيين في ذلك الوقت. أمضى ما جيان حياته في تعليم اللغة العربية ودراسة الثقافة الإسلامية وترك أعمالا كلاسيكية كثيرة، منها ((فلسفة دين الإسلام))، و((تاريخ الفلسفة الإسلامية)).

بالإضافة إلى معهد يوي فونغ الذي ينتمي إلى نظام التعليم الوطني العادي، يوجد في شاديان نظام التعليم القومي الديني. واليوم، يعد المعهد الإسلامي بمسجد شاديان رمزا لهذا النظام التعليمي، ويتخرج فيه كل سنة طلاب ممتازون يعملون في أنحاء الصين.

شروط الالتحاق بالمعهد الإسلامي لمسجد شاديان عالية نسبيا، فلابد للطالب أن يكمل التعليم الإلزامي أولا قبل الالتحاق بالمعهد. الدراسة في هذا المعهد مجانية، ولا يتحمل الطالب إلا نفقات طعامه ولباسه.

في شاديان، كما في المدن الأخرى بمقاطعة يوننان، المسلمون جزء هام لتنشيط التجارة وتطوير التعليم. يتميز مسلمو جنوبي الصين بالنشاط في البناء الثقافي لمواطنهم، وتعزيز التبادل مع الخارج، لذا يتمتعون برؤية واسعة وبصيرة عظيمة، ويسجلون صفحات رائعة في تاريخ المسلمين الصينيين.