التعلم المتبادل بين الحضارتين حجر الأساس للصداقة الصينية- العربية

نظمت جامعة بكين بالاشتراك مع وزارة الشؤون الإسلامية السعودية يومي 24 و25 سبتمبر 2016، ندوة بحثية تحت عنوان "التبادل الثقافي والحوار بين الثقافات"،  حضرها نحو سبعين باحثا صينيا وأجنبيا من أكثر من  أربعين مؤسسة وهيئة بحثية دولية إلى جانب دبلوماسيين صينيين سابقين وأجانب، لمناقشة المفاهيم الوافرة للحضارة الصينية والحضارة العربية، ومساهماتهما في تقدم الحضارة البشرية، وأهمية تعميق التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية.

خلال حياتي وعملي في الدول العربية فترة طويلة، تركت في نفسي التبادلات الودية الطويلة منذ القدم بين الحضارة الصينية التي تتمحور على الكونفوشية، والحضارة الإسلامية، انطباعا عميقا. عندما كنت سفير الصين لدى السعودية، كنت أتبادل الرأي مع شخصيات سعودية من مختلف الأوساط حول "التناغم" و"التعاون" و"الوسطية"، ومعارضة التطرف، والدعوة إلى التعلم والاحترام المتبادل بين الحضارات المختلفة، وتوصلنا إلى آراء عامة مشتركة كثيرة. وعندما كنت أعمل في مصر، التقيت وتناقشت مع الإمام الأكبر شيخ الأزهر مرات، مما ترك انطباعا عميقا في نفسي وذاكرتي. لدي اعتقاد راسخ بأن التعلم المتبادل بين الحضارة الصينية والحضارة العربية هو حجر الأساس للصداقة الصينية- العربية، وأن توارث وتوسيع هذا التقليد موضوع هام في المرحلة الجديدة.

أولا، الحضارة الصينية والحضارة الإسلامية كنز للبشرية.

 وتقدم الحضارتان مساهمات كبيرة في تقدم وتطور المجتمعات العالمية. التبادل والتحاور بين الحضارتين يرجعان إلى التاريخ القديم. طريق الحرير القديم المشهور شهادة قوية لهذه العلاقات. خلال ألفي سنة من التعامل بين الدول العربية والصين، انتشرت المعزوفات الموسيقية والرقصات والملابس وفنون العمارة والأعمال الأدبية العربية مثل ((ألف ليلة وليلة))، ووصلت إلى الصين عبر طريق الحرير القديم، ونالت إعجاب واستحسان الشعب الصيني. وفي نفس الوقت، ذاع صيت الثقافة الصينية القديمة وتقنياتها وانتشرت ووصلت إلى الدول العربية عبر هذا الطريق أيضا. كذلك انتشر الخزف والحرير والشاي الصيني، وتقنية الورق الصينية ودخلت إلى أوروبا عبر الدول العربية. قبل ستمائة سنة، قام البحار الصيني المسلم الكبير تشنغ خه برحلات إلى المناطق الواقعة غرب الصين سبع مرات، ووصل إلى الدول العربية عدة مرات، وأصبح رسولا لنشر الصداقة والعلوم. تتوسع وتتعمق التبادلات بين الصين والدول العربية، وهو أمر يساهم في دفع الازدهار الثقافي والتنمية الاقتصادية الثنائية، ويعزز التبادلات بين الشرق والغرب.

الكونفوشية هي نواة الحضارة الصينية، وتعتمد أفكارها على الحكمة حول الكون والمجتمع والحياة، وهي عبارة عن عصارة وخلاصة الحضارة الشرقية ولها حيوية مؤثرة وقوية. الرحمة قيمة محل تقدير في الحضارة الصينية، ويعتقد كونفوشيوس أنه يجب حب الآخرين ومرافقة الشخص الصادق والرحيم، ويعتقد منشيوس أن الشخص الرحيم يحب الآخرين، والحب يبدأ من حب الأهل إلى حب كل البشر والمجتمع وكل الأشياء في العالم واحترام الحياة، وهذه كلها قيم أساسية للحضارة الصينية. الرحمة الكونفوشية تتمثل في مساعدة الآخرين عبر بذل قصارى الجهود، وعدم فرض المرء لأي شيء لا يرغب فيه على الآخرين، أي أحب لأخيك ما تحبه لنفسك، وكلها تظهر اهتمام الحضارة الصينية بالمساواة والاحترام المتبادل وطابعها الشامل. الروح الإنسانية للحضارة الصينية تتمثل في "التعايش المتناغم والتعاون"، وتدعو إلى مفاهيم "الإنسان جزء لا يتجزأ من الطبيعة" و"الانسجام في التنوع" و"التعايش والتناغم بين دول العالم" وغيرها، بهدف دفع تحقيق الرحمة والتناغم بين الناس وتشكيل أجواء إنسانية إيجابية. الحضارة الإسلامية تحتوي على مفاهيم السلام وتعزيز التسامح أيضا. وقد وردت كلمة السلام ومرادفاتها في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، والحضارة الإسلامية تعتبر "السلام والوسطية" مفهومها الرئيسي أيضا. مفهوم "الوسطية" الذي يدعو إليه كل من الحضارتين، يعارض التطرف، ويوفر أساس التفاهم الهام للتبادلات الثنائية، بجانب أنه يساعد في تعزيز التبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارتين والحضارات العالمية. السعي إلى النقاط المشتركة بين النقاط المختلفة والسعي للتناغم في الاختلافات والسعي للتطور في التبادلات، مفهوم حضاري صحيح للمجتمع البشري، وهو  ثروة روحية هامة لإقامة العلاقات الدولية الجديدة في العصر الحديث.

ثانيا، مشاعر طريق الحرير تربط الحديث بالقديم

طريق الحرير رابطة للتبادلات الودية بين الصين والدول العربية. تبادلات الحضارتين ترجع إلى الإمبراطور هان وو في أسرة هان الغربية (202 ق.م- 8 م)، ويعود تاريخ التبادلات لأكثر من ألفي سنة. التبادلات الشعبية بين الجانبين لها تاريخ طويل وأشكال مختلفة. في المجال الديني، جاء المسلمون العرب إلى الصين لنشر الإسلام، وذهب المسلمون الصينيون إلى مكة للحج، هذه التبادلات تدفع تطور الإسلام في الصين وتعزز التواصل بين الصين والدول العربية، بل وبين الصين ودول غربي آسيا الأخرى، بجانب تعزيز الصداقة بين الشعوب. مذكرات السفر التي ألفها علماء ورحالة صينيون وعرب تلعب دورا هاما في زيادة التفاهم والصداقة. دو هوان هو أول رحالة صيني وصل إلى الدول العربية وهو مؤلف ((جينغشينغجي))، وهو أول صيني قدّم الدول العربية والإسلام إلى الشعب الصيني، وأعماله تعتبر كنزا نفيسا لسجل العلاقات الصينية- العربية ووثيقة هامة لدراسة تاريخ العلاقات بين الصين ودول غربي آسيا وأفريقيا. الرحالة المغربي المشهور ابن بطوطة قضى فترة طويلة من حياته وهو يسجل العادات والتقاليد المحلية في فترة أسرة يوان (1271- 1368م). العديد من الملفات التي دونت وتحدثت عن رحلات تشنغ خه إلى الغرب وثائق هامة لتسجيل التبادلات الودية الثنائية. بجانب ذلك، كان للتجار الذين مارسوا الأعمال التجارية  في الصين والدول العربية عبر طريق الحرير وطريق الحرير البحري، دور هام في دفع الازدهار الاقتصادي والاجتماعي والتبادلات الثقافية وسيول المهاجرين.

منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، دخلت تبادلات الحضارتين مرحلة تطور جديدة. خاصة بعد إنشاء "منتدى التعاون الصيني- العربي" في عام 2004، الذي يعتبر منصة هامة لإجراء التبادل والتعاون المتعدد في المرحلة الجديدة، ويظهر تعاظم التبادلات الثنائية على المستوى النظامي. وفي إطار المنتدى، أنشئت اثنتا عشرة آلية تعاون، بما فيها سبع آليات تتعلق بالثقافة والتبادلات الإنسانية، وأصبحت آلية "حوار الحضارتين" إحدى آليات التحاور الهامة، وهي تقدم دعما وضمانا نظاميا لإجراء التبادلات الحضارية والتعاون بين الطرفين. أصبحت التبادلات الحضارية بين الصين والدول العربية أكثر حيوية وأهمية.

ثالثا، بناء "اتحاد المصير المشترك": بناء "الحزام والطريق" يعطي التبادلات الحضارية بين الصين والدول العربية هدفا جديدا

خلال ألف سنة من التعامل السلمي بين الحضارتين الصينية والإسلامية، تراكمت لكل من الحضارتين خبرات نفيسة: التعامل السلمي وتعامل المنفعة المتبادلة والتعامل الشامل، وإجراء التبادلات الحكومية والشعبية في نفس الوقت. إن الدور الذي لعبه طريق الحرير، يجسد فكرة الدبلوماسية السلمية. إن هذه الخبرات ليست مرشدا للعمل الدبلوماسي وبناء النظرية الدبلوماسية الصينية فحسب، وإنما أيضا تساعد في تقديم دروس لتعايش الحضارات المتعددة في عصر العولمة. التعامل السلمي بين الحضارتين لمدة ألف سنة يستفيد من عدم وجود نزاعات تاريخية، ويلعب المفهوم الشامل في الحضارتين الكونفوشية والإسلامية دور الركيزة  الروحية، بالإضافة إلى دور "مشاعر طريق الحرير" بين الشعبين. إن "مشاعر طريق الحرير" تتحول اليوم إلى موارد متميزة في التعاملات الدبلوماسية والإنسانية الثنائية وتؤثر على دبلوماسية الصين الإنسانية تأثيرا عميقا.

الصين كانت وما زالت تحترم التنوع الحضاري، وتعتقد بثبات أن الأمم والأديان المختلفة حامل هام للتنوع الحضاري. الصين دولة متعددة القوميات والأديان، وفيها ست وخمسون قومية. المعتقد الطاوي يعتبر الدين المحلي في الصين، ويتعايش مع البوذية والإسلام والمسيحية منذ أمد طويل. وفي الصين عشر قوميات تدين بالإسلام ويتجاوز عدد أفرادها ثلاثة وعشرين مليون نسمة، وهم يتمتعون بكامل الحقوق والحريات في معتقداتهم وممارسة شعائرهم الدينية وتقاليدهم الثقافية وعاداتهم المعيشية ويحظون بالاحترام الكافي. حاليا، هناك أكثر من أربعين ألف مسجد في مدن وأرياف الصين. وفي كل مدينة توجد مطاعم إسلامية. وقد وضعت الحكومة الصينية سلسلة من السياسات لدعم أبناء الأقليات ودفع تنمية الاقتصاد وتطور المجتمع والثقافة في مناطق الأقليات القومية. تتعايش القوميات التي تدين بالدين الإسلامي مع القوميات الأخرى وتعزز تنمية الاقتصاد وتطور المجتمع معا. القرن الحادي والعشرون هو قرن عولمة الاقتصاد وهو أيضا قرن تألق التنوع الحضاري. الصين التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة، والعالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليون نسمة، يحملان رسالة تجديد شبابهما.

في عام 2013، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة البناء المشترك لـ"الحزام الاقتصادي على طول طريق الحرير" و"طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين". وفي افتتاح الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني- العربي في يونيو عام 2014، دعا الرئيس شي إلى بناء "الحزام والطريق" المشترك مع الدول العربية على أساس مفاهيم "التشاور المشترك والبناء المشترك والمصالح المشتركة"، ووضع التعلم الحضاري المتبادل وترابط قلوب الشعوب، في مكان هام. أكد الرئيس شي مرات في مناسبات مختلفة أن ألفي سنة من تاريخ التعامل تثبت أنه طالما هناك مثابرة على الوحدة والثقة المتبادلة والمنفعة المتبادلة والمساواة والتعلم المتبادل والشامل والتعاون والفوز المشترك، يمكن تحقيق السلام والتنمية المشتركة بين الدول ذات القوميات المختلفة والأديان المختلفة والخلفيات الثقافية المختلفة، وهذا هو التنوير القيّم الذي تركه لنا طريق الحرير. في يناير عام 2016، أصدرت الحكومة الصينية وثيقة سياسات الصين تجاه الدول العربية، التي تتضمن دفع التبادلات الإنسانية بين الصين والدول العربية، وأكدت هذه الوثيقة أن الصين ترغب مع الدول العربية في تعزيز تطور تعددية الحضارات العالمية ودفع التعلم المتبادل بين الحضارات المختلفة، بجانب توثيق التبادلات الإنسانية الثنائية، وتعزيز التعاون الثنائي في مجالات التكنولوجيا والتعليم والثقافة والصحة والإذاعة والتلفزيون والسينما، وتعزيز تعارف الشعوب، ودفع اندماج الثقافات الثنائية، وبناء جسر التفاهم، من أجل تعزيز تقدم وتطور الحضارة البشرية. الوثيقة تؤكد بشكل خاص على تعزيز التشاور بين الحضارتين ودفع تبادلات الأديان المختلفة: بناء منصة تواصل، الدعوة إلى تناغم وتسامح ديني، استكشاف التعاون للقضاء على التطرف والحد من نمو وانتشار التطرف والإرهاب بكل أشكاله. وفي ظل الوضع الحالي، لا شك أن هذه الدعوات لها مغزى واقعي وعميق.

عبر ألفي سنة من التعامل السلمي فقد نشأت بين الصين والدول العربية صداقة تقليدية، باعتبار "روح طريق الحرير" حاملا لها، والبناء المشترك لـ"الحزام والطريق" يجعل الصين والدول العربية تجدان نقطة الترابط بين التاريخ والواقع في المرحلة الجديدة. تعزيز التواصل والتعلم المتبادل بين الحضارة الصينية والحضارة العربية، سوف يوفر قوة روحية قوية لبناء وحدة المصالح المشتركة ووحدة المصير المشترك.